مقال رأي
دائمًا نقرأ أي نص من زاوية نظرنا ومن الموقع الذي نحن فيه. النص الذي يحتمل قراءات متناقضة ويتحول من نص واحد إلى نصوص متعددة يتضمن آليًا موقفًا قابلاً للتمطط. الموقف الحاسم يصمد أمام التأويل والتمطط.
الموقف الأمريكي في 13 أوت/ أغسطس 2021 تحوّل إلى اختبار وطني في دراسة النص، لكن قراءة النصوص لا تتم بمعزل عن السياقات، أي نص يبدو للوهلة الأولى وحيدًا مالكًا لأدوات فهمه لكنه نابع من شبكة قناعات ومصالح معقدة لا تظهر فيه بداهة، دونها لا يمكن فهمه.
النص الدبلوماسي الأمريكي في 13 أوت يحسم في مسائل عامة لكن لا يحسم فيما قام به سعيّد
حتى في النصوص الدبلوماسية هناك عبارات تمثل الحسم وهناك عبارات تعكس رغبة في التمطط والتأويل. يستعمل "بيان 13 أوت" للبيت الأبيض حول زيارة الوفد الأمريكي جملة "العودة إلى مسار الديمقراطية البرلمانية" عوض عبارة "عودة البرلمان المنتخب" (التي تم استعمالها في بيان 31 جويلية/ يوليو 2021)، وعندما يعرض ضمنيًا خريطة طريق تتماهى في أجزاء واضحة مع ما يعتزم قيس سعيّد القيام به (تغيير القانون الانتخابي ونظام الحكم ومن ثمة الدستور)، ويركز مرة أخرى على رئيس الحكومة/الوزير الأول ويعتبر أن تنصيبها من مهام الرئيس (بمعزل عن الترجمة "رئيس حكومة" أو "وزير أول" يقر بمنح الصلاحية للرئيس)، والأهم الإقرار بوجود طلب شعبي للتغيير وتحسين الأوضاع ومن ثمة الإقرار بمشروعية "قرارات 25 جويلية" في تغيير قواعد اللعبة.
هل هناك وفقاً لهذه المعطيات "رفض دبلوماسي" لقرارات قيس سعيّد ودعوة للعودة للوضع كما كان قبل 25 جويلية؟ هل هناك حسم في قيس سعيّد؟
النص يعبر عن قلق أمريكي من غموض سعيّد وربما من محيطه ومن مشروعه غير الكلاسيكي في نظام الحكم وربما أيضًا من قوى أخرى تتداخل في مساحة تعتبرها واشنطن ضمن مجالها
النص الدبلوماسي الأمريكي في 13 أوت يحسم في مسائل عامة لكن لا يحسم فيما قام به سعيّد. النص يعبر عن قلق أمريكي من غموض قيس سعيّد وربما من محيطه ومن مشروعه غير الكلاسيكي في نظام الحكم وربما أيضًا من قوى أخرى تتداخل في مساحة تعتبرها واشنطن ضمن مجالها.
هو مستوى قلق ما قبل الأقصى، ولهذا حتى المستوى التمثيلي لمن حمل الرئاسة من المستوى المتوسط (ليس أحد أعضاء الإدارة الكبار المعنيين بالسياسة الخارجية أي نائب الرئيس أو وزير الخارجية أو الدفاع أو مستشار الأمن القومي).
اقرأ/ي أيضًا: حالة الاستثناء:شرعية منقوصة ومشروعية تنتظر الإنجاز
الإحداثيات الأساسية في رأيي لفهم أي موقف أمريكي فيما يخص تونس هي ما يلي:
أولًا معطى تونسي بحت، الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون "صرفوا" على تجربة ديمقراطية في تونس لدواع استراتيجية وإيديولوجية، ويهمهم متابعة المولود الديمقراطي و"الحفاظ" عليه، حتى إن كانت ديمقراطية فاسدة.
ثانياً معطى إقليمي، تونس ليست جزيرة، هي قطعة في بانوراما إقليمية مهمة استراتيجيًا لواشنطن وهنا ليس هناك موقف متطابق لكل الغرب في الإقليم وخاصة الجارة ليبيا، وأمريكا قلقة جدًا من تمدد النفوذ الروسي في ليبيا وتعتبره تهديدًا للتوازنات في المتوسط، خاصة إذا نجح سيناريو الدخول إلى الانتخابات بتحالف سيف الإسلام القذافي مع حفتر.
واشنطن قلقة من أن لا تفرط فقط في المولود الديمقراطي التونسي بل أيضًا من التفريط في "القطعة التونسية" في البانوراما لتمدد روسيا (وحلفائها)
بمعنى آخر، واشنطن قلقة من أن لا تفرط فقط في المولود الديمقراطي التونسي بل أيضًا من التفريط في "القطعة التونسية" في البانوراما لتمدد روسيا (وحلفائها) في تونس، خاصة إذا انتقلنا إلى نموذج حكم "ديمقراطي سيادي على رأسه حكم فردي" مثلما هو النموذج الروسي عوض النموذج الديمقراطي الليبرالي.
الضغط الأمريكي بداهة يتحوز على وسائل تأثير أهمها حنفية القروض والمساعدات المالية التي دونها لا يمكن أن نتحدث عن "توازنات مالية" في تونس. لكن لا يجب المبالغة في مدى قدرة واشنطن على حسم مسار الأوضاع.
اقرأ/ي أيضًا: متشائل: منعرج انقلابي أم فاصل ديمقراطي؟
في نهاية الأمر، ضغط خارجي دون رفض داخلي لن يكون حاسمًا. يبقى أهم معطى العامل الداخلي وذلك رغم هشاشة واقع السيادة الوطنية في تونس. إذا استطاع سعيّد ترتيب الأمور اقتصاديًا وصحيًا وتجاوز منعطفات المطبات الاجتماعية ولم يستهلك بسرعة رصيده الشعبي فإن الضغط الأمريكي لا يمكن أن يكون حاسمًا.
إذا استطاع سعيّد ترتيب الأمور اقتصاديًا وصحيًا وتجاوز منعطفات المطبات الاجتماعية ولم يستهلك بسرعة رصيده الشعبي فإن الضغط الأمريكي لا يمكن أن يكون حاسمًا
لكن ذلك يعني أيضًا عدم الصدام مع واشنطن لأنها تبقى محددة للسيولة المالية، بتجنب الإحداثيتين الأساسيتين أي الحفاظ على "الأدنى الديمقراطي" وعدم التورط في محاور إقليمية معادية استراتيجيًا لواشنطن.
يعتمد قيس سعيّد خطابًا سيادياً (sovereignist) لكن السيادة ليست فقط خطاب، هي أيضًا وسائل، وتحتاج تراكمًا طويلاً وليس فقط قرارًا فرديًا.
الغموض الراهن لقيس سعيّد حول ما ينوي فعله ليس فقط في خصوص "خريطة الطريق" بل أيضًا في مستوى مشروعه في نظام الحكم يمكن أن يبدو له سلاحًا يسمح بمباغتة خصومه لكنه سلاح بحدين
أخيرًا، مسالة خريطة الطريق هي في مصلحة السيادة أيضًا. ولا يمكن أن يواجه قيس سعيّد ضغوطًا أجنبية دون الارتكاز إلى الجبهة الداخلية. من الواضح أن الزخم الشعبي زاد في ثقته في نفسه وفي الانزواء نحو مجموعة مضيقة أكثر مما كان الوضع في السابق، لكن الوضع الراهن مضلل إذا تم اعتباره وضعًا دائمًا.
الغموض الراهن لقيس سعيّد حول ما ينوي فعله ليس فقط في خصوص "خريطة الطريق" بل أيضًا في مستوى مشروعه في نظام الحكم (الذي يمكن أن لا يستجيب لتصنيفات الديمقراطية الليبرالية كما يفهمها الغرب)، يمكن أن يبدو له سلاحًا يسمح بمباغتة خصومه لكنه سلاح بحدين، يمكن أن يجعل المستقبل غامضًا حتى بالنسبة إليه من زاوية موازين القوى.
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"
اقرأ/ي أيضًا:
أمريكا: تباحثنا مع سعيّد الحاجة الملحة إلى تعيين رئيس حكومة ليشكل حكومة مقتدرة
ردود الفعل الدولية من قرارات سعيّد.. حذر ودعوات للتمسك بالدستور والديمقراطية