31-مارس-2023
 تونس العاصمة

من الصعب أن توجد لا من حيث حقائق الجغرافيا ولا المصالح إمكانية لتونس لأي تموقع آخر استراتيجيًا خارج الحلف الغربي (وسيم الجديدي/Sopa images)

مقال رأي 

 

تموقعت تونس منذ تأسيس دولة الاستقلال بشكل عام في مجال النفوذ الاستراتيجي الغربي بقيادة الولايات المتحدة. ومنذ آخر الخمسينيات كان الدعم العسكري سلاحًا وتدريبًا يأتي من حلف الناتو وكان خط تمويلاتها خاصة منذ الستينيات (أي حتى عند تأسيس "الاشتراكية التونسية" من خلال سياسات التعاضد) يأتي أساسًا من مؤسسات "Bretton Woods system" أي مؤسسات التمويل الدولي التي أنشأتها واشنطن في سياق تأسيس مجال نفوذها بعد الحرب العالمية الثانية.

نشأ جدال منذ أشهر في خضم الضغط الدولي لكي تمضي تونس على حزمة "الإصلاحات" التي ستسمح باتفاق مع صندوق النقد حول إمكانية وجود "خطة ب" في إيجاد التمويلات

نشأ جدال منذ أشهر في خضم الضغط الدولي لكي تمضي تونس على حزمة "الإصلاحات" التي ستسمح باتفاق مع صندوق النقد الدولي حول إمكانية وجود "خطة ب" في إيجاد التمويلات. سبق أن تساءلت في مناسبات سابقة (هنا وفي البرنامج الإذاعي "90 دقيقة") عن مدى تحوّز الرئيس قيس سعيّد على خطط بديلة إن لم يمض اتفاقًا مع صندوق النقد.

نائبة وزير الخارجية الأمريكي سألت الأسبوع الماضي علنًا عما إذا كانت هناك مثل هذه الخطط ("خطة ب أو خطة ج" مثلما قالت) والسفير الفرنسي في تونس عبر عن اعتقاده أنه لا توجد "خطة ب"، في حين وزير الخارجية الإيطالي أشار علناً إلى الموضوع معبرًا عن خوفه أن يملأ فراغ التدخل الأوروبي تدخلًا صينيًا-روسيًا.

 

 

لكن بمعزل عن وجود قيس سعيّد من عدمه، من الضروري طرح سؤال استراتيجي: هل يمكن أن توجد "خطة ب"؟ بمعنى هل يمكن لتونس أن تجد تموقعًا آخر يتيح لها دعمًا أمنيًا/عسكريًا وخط تمويل بديل عن الحلف الغربي القائم بقيادة واشنطن؟ وهنا نطرح السؤال في علاقة بالسياق الدولي الراهن ومدى مقبولية ليس القرار السياسي التونسي بل أساسًا الأطراف التي يمكن أن تكون معنية أيضًا بهكذا عرض.

هل يمكن أن توجد "خطة ب"؟ بمعنى هل يمكن لتونس أن تجد تموقعًا آخر يتيح لها دعمًا أمنيًا/عسكريًا وخط تمويل بديل عن الحلف الغربي القائم بقيادة واشنطن؟

من أجل مواجهة هذا السؤال شديد التركيب علينا أن نطرح مجموعة أسئلة فرعية: أولًا وخاصة هل يمكن أن تعوّل تونس فقط في اللحظة الراهنة على "مقدراتها الذاتية" (أي دون تمويلات أجنبية) مثلما يردد الرئيس للخروج من أزمة المالية العمومية؟

ثانيًا إن كان لا بد من إيجاد خط تمويل أو دعم أجنبي هل يمكن أن تتموقع تونس في حلف آخر غير الحلف الغربي؟ هل هناك رغبة أو استعداد لأن يهتم أصلًا أي حلف آخر بدعم تونس إن طلبت ذلك؟ وهنا ستكون منهجيتنا ليس "التفكير حسب الرغبة" (wishful thinking) بل على أساس إمكانات الواقع وموازين القوى، حسب ما تتيحه عوامل القوة وخصوصيات "الوجود الجيوسياسي" التونسي.

لن ندع الإجابة عن كل الأسئلة في هذا المقال المقتضب، لكن يمكن أن نبدأ بطرح منطلقات أساسية لبعض الإجابات. 

أولاً، تفاعلاً مع ما يطرحه الرئيس وبعض مسانديه، هل يمكن واقعيًا التعويل في المرحلة الراهنة (إزاء عجز ميزانيتي 2022 و2023 يصل إلى حوالي 14 مليار دينار) على مقدرات تونس الذاتية؟ لندع جانبًا أرقام "الصلح الجزائي" والتي يعكس تعطلها السريع رغم إشراف الرئيس المطلق عليها وعلى كل أجهزة الدولة، صعوبة وتعقيد الموضوع، حتى أرقام الفسفاط لا يمكن أن تفي بالحاجة فتقديرات عودتها لوضع سنة 2010 على مستوى الإنتاج هو ربما الطموح الأكثر واقعية ولن يحل ذلك بأي شكل مشكل العجز في الميزانية بل ربما يرمم بعض أوضاع شركة فسفاط قفصة نفسها وبعض المؤسسات العمومية الأخرى على أقصى تقدير.

الإجابة القصيرة والمباشرة: لا يمكن في السياق الحالي التعويل على قدرات تونس الذاتية خاصة لتوفير العملة الصعبة للقيام بشراءات مواد أساسية من السوق العالمية منها الحبوب والمحروقات.

لا يمكن في السياق الحالي التعويل على قدرات تونس الذاتية خاصة لتوفير العملة الصعبة للقيام بشراءات مواد أساسية من السوق العالمية منها الحبوب والمحروقات

ثانيًا، هل يمكن أن تغيّر تونس تموقعها الاستراتيجي إن قررت ذلك؟ هناك شقين لهذا السؤال: الأول هل يسمح تشابك العلاقات الطويل وتقريبًا الهيكلي مع الغرب بتغيير سهل وسريع يسمح بمواجهة الوضع المالي الراهن؟ وهل أن هناك حلف آخر قائم يمكن أن يوفر لتونس واقعيًا الدعم العسكري/الأمني وأيضًا المال الاقتصادي طويل الأمد؟

في الشق الأول، العلاقات طويلة الأمد مع الحلف الغربي في أبعادها العسكرية/المالية/الاقتصادية/ الثقافية (خاصة الولايات المتحدة وفرنسا وإيطاليا وربما ألمانيا بدرجة أقل) والتي ترجع أسسها التاريخية إلى تشكل الرأسمالية الغربية في ذاتها في المدن الإيطالية وموانئ المتوسط خاصة مارسيليا خلال القرن السادس عشر، لم تكن مصادفة بل تتأتى من التموقع الجيوسياسي لتونس في قلب المتوسط وبناء على التركيبة الاقتصادية لتونس (سابقًا إفريقية) بوصف هيمنة اقتصادها الفلاحي لكن المرتبط أيضًا بنزعة نحو التعويل على التبادل التجاري مع السياق القريب خاصة الضفة الشمالية (الإيطالية-الفرنسية). بمعنى آخر، هناك قواعد لعبة هيكلية تفرضها الجغرافيا.

القطب الصيني بعيد جدًا جغرافيًا عن تونس، وإذ يستطيع تقديم حقن مالية فإن تونس ليست في مجال نفوذه المباشر

هذا يدفعنا إلى الشق الثاني: القطب الصيني (وليس الروسي فعلًا إلا حليف صغير له من زاوية الإمكانات المحتملة عامة عسكريًا واقتصاديًا) بعيد جدًا جغرافيًا، وإذ يستطيع تقديم حقن مالية فإن تونس ليست في مجال نفوذه المباشر. يمكن أن نفهم تقاربًا جزائريًا (البعيدة جغرافيًا) بفضل مقدراتها الغازية والنفطية التي تسمح لها بتجاوز ولو نسبي لحقائق الجغرافيا، لكن ليس لتونس تلك المقدرات.

بمعنى آخر موضوعيًا ومع مسافة تاريخية كافية يمكن أن نقدم فرضية أن التموقع البورقيبي في المحور الغربي (ولم يكن أحمد بن صالح الإشتراكي في صراع مع بورقيبة حول ذلك) ناتج ليس عن شهوة بل عن حقائق عنيدة فرضتها قدرات تونس المحدودة مع تموقعها الجغرافي في المجال الجيوسياسي الغربي.

التموقع البورقيبي في المحور الغربي ناتج ليس عن شهوة بل عن حقائق عنيدة فرضتها قدرات تونس المحدودة مع تموقعها الجغرافي في المجال الجيوسياسي الغربي

من جهة أخرى، مع الاتجاه العام في "تفكك العولمة" (deglobalization) بقيادة الغرب نفسه (الحرب التجارية المتصاعدة بقرر غربي ضد الصين لأسباب جيوسياسية أساسًا) يتجه العالم إلى تفكك "سلاسل التموين" (supply chains) بما يطرح جدًيا التوجه العام نحو العودة إلى استقواء الشبكات التجارية الإقليمية على حساب الشبكات العابرة للمحيطات والقارات، وهذا يعني ضرورة أن دولًا صغيرة مثل تونس ستجد نفسها معنية أساسًا بمحاولة الاستفادة من التقوقع في الإقليم المتوسطي والسعي للمشاركة في تعويض الدور الصيني والآسيوي عمومًا في "سلاسل التموين"، عوض التقارب مع الصين.

هذه الفرضية تبدو أكثر واقعية من الانخراط في "طريق الحرير" الصيني الذي لا يمكن أن ينجح دون شرخ استراتيجي في التحالف الأطلسي الغربي، إذ لا يمكن أن نتخيل أن تختار أوروبا الصين على أمريكا في السياق الراهن.

ثالثًا، هل هناك استعداد صيني للتركيز على اختراق قلب المتوسط وبالتالي الاهتمام استراتيجيًا بأن تكون تونس موطئ قدم؟ القطب الصيني هو بلا شك أهم قطب صاعد ومعني حسب تقرير أخير لموقع Aiddata  أن يكون "مقرض الفرصة الأخيرة" للاقتصاديات الأكثر استدانة في العالم، ومن ثمة يتموقع نظريًا كـ"خطة ب" خاصة بالنسبة لدول تمر بمأزق في علاقة بالمؤسسات المالية الدولية التي تخضع لتأثير غربي حاسم مثل صندوق النقد.

القطب الصيني هو بلا شك أهم قطب صاعد ومعني أن يكون "مقرض الفرصة الأخيرة" للاقتصاديات الأكثر استدانة في العالم خاصة بالنسبة لدول تمر بمأزق في علاقة بالمؤسسات المالية الدولية

لكن بكل المؤشرات الحالية فإن القطب الصيني غير معني بعد بصراع مع واشنطن على مستوى دولي، هو معني مرحليًا ببسط نفوذه على بحر الصين أي الإقليم المباشر للأراضي الصينية وذلك لتأمين المضائق في المحيط الهندي والمحيط الهادي بما يؤمن حركة المبادلات الصينية.

المتوسط مهم من حيث تركيز "طريق الحرير" (ومن ثمة الحاجة للتموقع في موانئ مثل "النفيضة" القادم) لكن لا يبدو ذلك أولوية استراتيجية صينية تسمح بانخراط عميق مع تونس على حساب المشاغل الصينية المباشرة في المنطقة الآسيوية. أقصى تمدد استراتيجي ملح صيني الآن هو تأمين علاقات جديدة طويلة الأمد مع الدول النفطية العربية في الخليج، بما يفسر التقارب في كل المستويات مع السعودية والوساطة الأخيرة مع إيران.

القطب الصيني غير معني بعد بصراع مع واشنطن على مستوى دولي، المتوسط مهم من حيث تركيز "طريق الحرير" لكن لا يبدو ذلك أولوية استراتيجية صينية تسمح بانخراط عميق مع تونس على حساب المشاغل الصينية المباشرة في المنطقة الآسيوية

يبقى أن الدور الجزائري المتزايد واضح ويمكن أن يكون مؤشرًا على توفير ظروف مناسبة لإخافة الطرف الغربي من "استدارة تونسية نحو الشرق".

الدور الجزائري برز مثلًا في علاقة باللوبيينغ الإيطالي الحثيث مثلما هو واضح في المكالمة الهاتفية هذا الأسبوع بين وزيري خارجية البلدين والتي أكد فيها الطرف الإيطالي على "دور الجزائر الأساسي في ضمان الاستقرار في تونس"، لكن المثير للانتباه هو مقال صدر أيضًا هذا الأسبوع في جريدة "الوطن" الجزائرية (بالفرنسية) يشير إلى جهود الرئيس تبون في شهر رمضان لعقد "مؤتمر مانحين" عربي لجمع بين 4 و5 مليار دولار لكي تتجاوز تونس "الابتزاز" الغربي، حسب المقال.

الدور الجزائري المتزايد في تونس واضح ويمكن أن يكون مؤشرًا على توفير ظروف مناسبة لإخافة الطرف الغربي من "استدارة تونسية نحو الشرق"

استراتيجيًا تونس معنية بالأساس بالمساهمة في تأسيس إقليم مغاربي بكتلة ديمغرافية معتبرة وبموارد متنوعة. سيكون ذلك هو الأفق الاستراتيجي في الثلاثين سنة القادمة، في ظل صعود الكتل الديمغرافية الضخمة. وربما حينها تتشكل خريطة دولية مختلفة تسمح بتموقع جديد إن اقتضت المصلحة، أما الآن فمن الصعب أن توجد لا من حيث حقائق الجغرافيا ولا والمصالح إمكانية لأي تموقع آخر استراتيجيًا خارج الحلف الغربي.

 

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"