22-فبراير-2023
اتحاد الشغل

هل أن التحركات الاحتجاجية الأخيرة هي بحث عن موقع تحت سقف الانقلاب أم هي بداية لمغادرته في ظل أزمة متفاقمة تطول الاتحاد ودوره؟ (عماد حداد/ أ.ف.ب)

مقال رأي 

 

لم يختلف المشهد السياسي بفاعليه وأحزابه ونشطائه كاختلافه على الاتحاد العام التونسي للشغل ودوره في عشرية الانتقال الديمقراطي. ويتظافر في بناء هذه المواقف الانتماء الحزبي والتقدير السياسي والتجربة النقابية.

فالغالب عند أنصار الانتقال الديمقراطي أن المنظمة الشغيلة كانت عقبة من عقبات عديدة في طريق بناء الديمقراطية. ويقابله موقف يرى في أن الاتحاد لعب دور التعديل السياسي في مشهد حزبي غير متوازن.

ويبدو هذا النقاش متجاوزًا بعد الانقلاب وموقفًا جذريًا من الأجسام الوسيطة. إلى جانب الأزمة المالية الاقتصادية المحتدمة وما يطرح من قبل حكومة قيس سعيّد من إصلاحات هي من وجهة نظر الاتحاد إملاءات من صندوق النقد الدولي تتوجه إلى رفع الدعم والتفريط في المؤسسات العمومية وإيقاف الانتدابات وتجميد الزيادة في الأجور.

 

  • سقف الانقلاب 

 تعدّدت التقديرات حول غاية المركزيّة النقابيّة من تحرّكاتها  في الجهات، فهي في نظر البعض بحث عن موقع تحت سقف الانقلاب.  فالاتحاد كان من منظّمات المجتمع المدني التونسي التي رحّبت في بياناتها بالانقلاب واعتبرته نقطة انطلاق يمكن البناء عليها للخروج من الأزمة. ويُعتبر موقف الاتحاد المساند للانقلاب امتدادًا لموقفه من المشهد السياسي في ظل حكومة هشام المشيشي العاجزة وحزامها الحزبي بقيادة حركة النهضة. ولم يكن موقف الترحيب بالانقلاب بعيدًا عن تركيبة المكتب التنفيذي وما غلب على قياداتها من اتجاه مقابل لحركة النهضة ومحيطها الحزبي والسياسي.  

 

 

 

وفي ظلّ توازنات الانتقال الديمقراطي السياسيّة الهشة واحتداد الأزمة السياسية والاجتماعيّة كانت قيادة الاتحاد ترى في قيس سعيّد عامل زحزحة لحالة عدم الاستقرار ولوضع لم يعد قادرًا على الاستمرار، فتوجّهت بالدعوة إلى الحوار في أكثر من مبادرة ولكنّ قيس سعيّد قابلها جميعًا بالتجاهل حينًا وبالنقد اللاذع حينًا آخر. ولم يتردّد في نعت الحوار الوطني الذي دار في 2013 بقيادة الاتحاد العام التونسي للشغل بأنّه لم يكن حوارًا ولم يكن وطنيًّا.   

ولكن مع التحولات السريعة في المشهد وانفضاض كثير من القوى التي ساندت الانقلاب من حول قيس سعيّد، وأمام احتداد الأزمة الماليّة الاقتصاديّة وأداء حكومة نجلاء بودن المرتبك في مواجهة الأزمة والمستسلم لتوصيات الصناديق الماليّة الدوليّة، عرَف موقف الاتحاد العام انزياحا تدريجيًّا باتجاه الخروج من سقف الانقلاب. 

ومن اللافت للانتباه هذا الأسبوع تركّز الاهتمام في صفحات التواصل الاجتماعي على تدوينة سامي الطاهري نائب الأمين العام للاتحاد الشهيرة يحثّ فيها قيس سعيّد على الإقدام على انقلابه ومغادرة تردّده.

ويذكَّر سامي الطاهري بهذه التدوينة كلّما صدر عنه امتعاض من الانقلاب وسياساته ولا سيما التي تمس من مجال الاتحاد وتهدد دوره. وكما تُعتمد التدوينة على أنها موقف داخل القيادة النقابية تُحْمَل على أنّها موقف غير بعيد عن الاتحاد وقيادته. 

وفي كل الأحوال فإن إثارتها المتكررة لا يمكن ألا تُحمل على أنّها موقف نقدي من مساندة الانقلاب. وفي هذا تحميل للمركزية النقابية جانبًا من المسؤولية السياسية عمّا طال المؤسسات الدستورية والقضائية من هدم وما يعرفه المجال السياسي هذه الأيام من تجريف باستهداف للأحزاب والقوى الديمقراطية والمنظماتية وللشخصيات الوطنية الساعية إلى عقد حوار وطني للإنقاذ يجمع كل أنصار الديمقراطية والدولة المدنية. 

 

  • تحرّك في الجهات 

لا يضيف التأكيد على تلازم الدور النقابي والسياسي في تجربة المنظمة الشغيلة ماضيًا وحاضرًا، جديدًا، ولا يساعد على فهمٍ أفضل لتحركات الاتحاد التي انطلقت السبت 18 فيفري/شباط 2023 في تسع محافظات في تونس، لِمَا للمطالب النقابية الاجتماعية من مدلول سياسي، من جهة، ولطبيعة هذه المنظمة النقابية منذ نشأتها في علاقة بالحركة الوطنية وبالنظام السياسي الذي قاد الدولة منذ 56، من جهة أخرى.

تأكيد تلازم الدور النقابي والسياسي في تجربة اتحاد الشغل ماضيًا وحاضرًا لا يضيف جديدًا لفهم تحركاته التي انطلقت مؤخرًا لِمَا للمطالب النقابية الاجتماعية من مدلول سياسي من جهة، ولطبيعة الاتحاد منذ نشأته في علاقة بالحركة الوطنية وبالنظام السياسي

لم ينفصل الاتحاد عن السياسية والحكم قبل الثورة وبعدها. وتعْلَم قيادته أنّها كانت جزءًا من عشرية الانتقال بقطع النظر عن الصفة التي يُراد منحها لهذه العشرية أو اللون الذي يُختار لها. ولكن بعد انقلاب 25 جويلية/يوليو والمساندة التي لقيها من المركزية النقابية يكتسي النظر في علاقة النقابي بالسياسي أهميّة جديدة، بعد دخول قيادة الاتحاد في تحركات مطلبية في الجهات عرفت انطلاقتها في تسع محافظات. ويبدو أن التعبئة قد حقّقت نجاحًا من خلال الحضور المكثف للشارع النقابي. فما هو المدى السياسي لهذه التحركات؟ وما الهدف المراد تحقيقه منه؟ 

 

 

إنّ الوجه الآخر لهذا السؤال يتصّل بالمطالب الأساسية في هذه التحركات. ولا يَخفى ما تُفصح عنه إجابات القيادات النقابية، في هذا الموضوع، من رغبة في الموازنة بين المطلب الاجتماعي والموقف السياسي، رغم ما يعتري المطلب الاجتماعي من غياب الدقة والوضوح باستثناء التشديد على احترام الحكومة ما أمضت عليه مع شريكها الاجتماعي من اتفاقيات بالزيادة في الأجور في الوظيفة العموميّة. وهذا ما ميّز خطاب القيادة النقابية بالطابع السجالي.

وهو سجال لا ينفصل عن التشديد على دور الاتحاد الاجتماعي والسياسي، فكان الدفاع عن الحق النقابي المستهدف من قبل سلطة الأمر الواقع، من وجهة نظر الاتحاد، الجسر الرابط بين الاجتماعي والسياسي. وكان لمطلب "الحق النقابي" الحضور الأقوى في التحركات الأخيرة.

بعد انقلاب 25 جويلية والمساندة التي لقيها من اتحاد الشغل يكتسي النظر في علاقة النقابي بالسياسي أهميّة كبرى تزداد بعد دخول قيادة الاتحاد في تحركات مطلبية في الجهات حقّقت نجاحًا من خلال الحضور المعتبر للشارع النقابي

وفي هذا السياق يفهم حضور الأمينة العامة للكونفدرالية الأوروبية للنقابات "إيستر لينش" ومشاركتها في تحرّك الاتحاد بصفاقس وإلقاؤها كلمة ساندت فيها الاتحاد والطبقة العاملة، قبل أن يتدخل قيس سعيّد ويأمر بطردها من تونس. وهي التي عُرفت بمناهضتها سياسات صندوق النقد الدولي ومناصرتها الحقّ الفلسطيني. 

 

  • أي دور للمنظمة الشغيلة؟

لا تبدو الإجابة حاصلة عند قيادة الاتحاد، بعد 25 جويلية/يوليو 2021 . ولئن حاولت القيادة النقابية الربط مع مستجد الانقلاب وتقديرها بأن يكون للمنظمة دور في التوازن المطلوب في ظل النظام الجديد فإنّ الانقلاب الذي يطرح نفسه بديلًا عن كل الوضع ولا يقبل بأي مستوى من مستويات الشراكة أربك قيادة الاتحاد وأشعرها بأنّ المنظّمة تزاح عن موقعها المثالي الذي مكنتها منه تحولات الانتقال. وفي هذا السياق، لا يُخفي بعضٌ من قيادات الاتحاد التاريخية، في مجالسهم الخاصّة، أنّ الاتحاد لم يحسن استغلال مناخات الانتقال في خدمة حقوق الشغيلة ودعم الديمقراطية ونظامها السياسي الناشئ. كما تشير هذه القيادات إلى أنّ الوضع الحالي الذي عليه الاتحاد كان، في جانب منه، نتيجة كثافة الإيديولوجيا وضعف الثقافة الديمقراطية وضمور التفكير السياسي البنّاء.

بعد سقوط نظام بن علي، كان على قيادة الاتحاد أن تبحث عن دور جديد للمنظّمة يجمع بين الاستفادة من تاريخ التجربة ومتغيرات الحياة السياسيّة الجديدة. إلاّ أنّ المركزية النقابيّة بحثت عن هذا الدور، باعتباره الاتحاد جزءًا من النظام الذي قامت عليه الثورة. فلم يكن من السهل عليه التموقع الجديد في ظل ما صاحب الثورة من تحولات مكنت من اجتماع شروط الاختيار الشعبي الحر ومن تفويض قوى جديدة كانت في صدام مرير مع نظام الاستبداد الذي سكن الدولة لعقود متعاقبة. فكان الدور الاجتماعي مدخل الاتحاد إلى الحياة السياسية الجديدة، وهو ما جعل أداءه في بعض المحطات أقرب إلى أداء الحزب السياسي العقائدي منه إلى المنظمة العمالية المدافعة عن حقوق منظوريها والمشاركة بهمة في الإصلاحات السياسية المطلوبة.

لا تنفصل التحركات الأخيرة عن البحث عن موقع سياسي اجتماعي للاتحاد في مشهد لا يَعرف استقرارًا غير أنّ قيادته بدأت تكتشف أنها لم تعد قادرة على تبين ملامح الدولة في ظلّ الانقلاب، فكأنّها تبحث عن صورة لها قديمة لم يبْق شيءٌ من ملامحها الأولى

وبعد التحاقه بالثورة، وتصحيح موقفه الأول من انتفاضة الهامش المفقّر، ساهم الاتحاد في صيغ الانتقال الأولى إلى الديمقراطية، وشارك في إعادة ترتيب الشأن الداخلي، واختار الانحياز إلى القوى التي عارضت المسار التأسيسي على ضوء نتائج أول انتخابات في تاريخ تونس. وكانت الحياة السياسية الجديدة وتحولاتها المتسارعة سببًا في تغليب الوجه السياسي للاتحاد، فمثلما كان شريكًا في جل الحكومات المتعاقبة منذ 2011 لم يكن منفصلًا عن القوى التي اتخذت من الدفاع عن الدولة المدنية والنمط المجتمعي التونسي عنوانها السياسي في مشهد سياسي متقلّب وشديد التنوّع.

لا تنفصل التحركات الاجتماعية الأخيرة عن البحث عن موقع سياسي اجتماعي للمنظّمة الشغيلة في مشهد لا يَعرف له استقرارًا. غير أنّ قيادة الاتحاد بدأت تكتشف أنها لم تعد قادرة على تبين ملامح الدولة في ظلّ الانقلاب. فكأنّها تبحث عن صورة لها قديمة لم يبْق شيءٌ من ملامحها الأولى. وهو ما يشير إلى بداية تحولات بنيوية تعرفها الدولة لأول مرة في تاريخها. وهذه نقطة في غاية الأهميّة بالنسبة إلى المشهد السياسي في تونس. ونقدّر أنّه سيدفع بالاتحاد تدريجيًّا إلى مغادرة سقف الانقلاب.

وتمثّل التحركات الاجتماعيّة الأخيرة والقادمة مؤشرات قويّة على هذا التوجّه. وهي إلى جانب ما أشرنا إليه من تحولات في المشهد السياسي والحقوقي ترجّح استهداف المنظمة الشغيلة. والتي قد يرتدّ دورها إلى أقلّ مما كان عليه في ظلّ نظام الاستبداد في سنواته الأخيرة. وقد تُستهدف المنظمة في وجودها باعتبارها أهمّ الأجسام الاجتماعيّة الوسيطة والعقبة الكأداء في وجه البناء القاعدي المثير.    

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"