20-فبراير-2023
الأمن التونسي

موجة الإيقافات والصدام المتصاعد مع اتحاد الشغل هل هي مؤشرات الانتقال من حالة نصف تسلطية إلى حالة تسلطية صريحة؟ (صورة أرشيفية/وسيم الجديدي/Nurphoto)

مقال رأي 

 

إذا أردنا بدء هذا المقال من آخره، يمكن أن نقول باختصار: سواء كانت المؤامرة حقيقية أو سردية مصطنعة ذات أجندة سياسية، وهذا في تقديري الأرجح كما سأشرح، في الحالتين هل يمكن لهما حل المأزق العام في البلاد، بما في ذلك مأزق الرئيس قيس سعيّد إن لم تحل "المعركة ضد المؤامرة" مشكلات الاقتصاد الرئيسية؟ بمعنى آخر بعد اعتقال موجات من "المتآمرين" في حين يبقى الاقتصاد في مأزق، أ لن يصبح الرئيس أو الأصح أ لن تصبح سياساته الإنشائية التي تتجنب الإصلاح، هي المؤامرة الحقيقية على الوضع المعيشي للناس في تونس؟

موجة الإيقافات الأخيرة والصدام المتصاعد مع اتحاد الشغل، هل هي مؤشرات منعرج سياسي حاسم والانتقال بوضوح من حالة نصف تسلطية إلى حالة تسلطية صريحة أم هو مجرد فاصل في استمرار الوضع السياسي الرتيب؟

موجة الإيقافات الأخيرة والصدام المتصاعد مع اتحاد الشغل، هل هي مؤشرات منعرج سياسي حاسم والانتقال بوضوح من حالة نصف تسلطية إلى حالة تسلطية صريحة أم هو مجرد فاصل في استمرار الوضع السياسي الرتيب؟ ما علاقة ذلك بالصراع مع الأطراف الدولية الغربية خاصة؟ وأي علاقة لكل ذلك بتحول الصراع السياسي إلى صراع اجتماعي صريح؟

في الأصل، لا يمكن لوم أي جهاز دولة إذا تفطن إلى "مؤامرة تمس أمن الدولة". هنا المقومات معلومة: خطة للإطاحة بالأشكال غير القانونية برأس السلطة، مما يستوجب التعاون مع أجهزة محلية و/أو أجنبية حاملة للسلاح.

من السهل في الذهنية السائدة لمجتمعاتنا الخلط بين أمن الدولة وأمن استدامة حكم الرئيس، بين الحفاظ على أمن البلاد واعتبار معارضة الرئيس تهديدًا لأمن الدولة. الخلط بين الوطن والحاكم، والدولة ورأسها

في المقابل ومثلما أوضحت سابقًا في مقال عن "أمن الدولة" من السهل في الذهنية السائدة لمجتمعاتنا الخلط بين أمن الدولة وأمن استدامة حكم الرئيس، بين الحفاظ على أمن البلاد واعتبار معارضة الرئيس تهديدًا لأمن الدولة. الخلط بين الوطن والحاكم، والدولة ورأسها. وأيضًا الخلط بين المؤامرة الحقيقية وسردية المؤامرة.

 

 

يستمر صمت السلطات القضائية المعنية بتفاصيل الملف أو ملفات الإيقافات. ولم يصلنا صوتها طيلة أسبوع إلا عبر مصدرين اثنين: الأول الرواية الرسمية للرئيس ووزير خارجيته، الرئيس يتوجه إلى الرأي العام الداخلي ووزير الخارجية يرد على بيانات وتصريحات الأطراف الأجنبية، وكلاهما يعتبران ما يحصل قضية أمن دولة والرئيس يصل إلى حد وصف الموقوفين بالإرهابيين، وأنهم مسؤولون عن مؤامرتين: رفع الأسعار ومحاولة اغتياله.

في علاقة بعدد من الإيقافات الأخيرة، خاصة التي تخص شخصيات سياسية، الأرجح أننا إزاء بحث عن قرائن لملف ولسنا إزاء بحث يأتي بعد وجود قرائن

في المقابل، يصلنا صوت الموقوفين عبر محاميهم ومن ثمة بعض صدى القائمين على البحث والنيابة العمومية، أننا إزاء ملفات "فارغة" خاصة في علاقة بالشخصيات السياسية، أو الأرجح أننا إزاء بحث عن قرائن لملف وليس بحث يأتي بعد وجود قرائن عن ملف. كما تقول الحكمة البوليسية القديمة التي انتشرت خاصة في التسعينيات "لم ومبعد غربل" أو كما يقول الصيادون "الصيد بالكركارة"، وحملة الصيد هنا تخص الأطراف السياسية المعارضة في ذاتها وليس على أساس القيام بما يحيل على فصول "التآمر على أمن الدولة".

وكان تسريب وثيقة عن انطلاق الأبحاث في 9 فيفري/شباط الجاري في خصوص المحامي لزهر العكرمي داعمة أكثر لأقوال المحامين، حيث يتم التأكيد أن المعني والناشط السياسي خيّام التركي يقومون بـ"المعارضة السياسية للرئيس" كأنها جريمة وتهمة في ذاتها وقد اجتمعا للاتفاق على "رفع الأسعار" و"إظهار فشل الرئيس".

 

 

في المقابل، تنوع خلفيات الموقوفين يشير إلى أننا أقرب إلى سردية المؤامرة الشاملة، حيث أن الأرجح أننا لسنا إزاء مصادفة أن تشمل الإيقافات معنيين بالسياسة والقضاء والنقابة والإعلام والرياضة، والتقاطعات بينها جميعًا، حتى إن كانت الملفات غير مترابطة رسميًا، سردية المؤامرة الشاملة من النخبة بجميع أطيافها وتنوعاتها، وصدام الرئيس معها ليس "فتحًا غير حكيم" للجبهات كلها كما يمكن أن يستغرب بعض من تبقى من مناصريه، بل هي عمليًا شرط وجودي لاستمرار نموذجه الشعبوي المخصوص، نموذج شبه نبوي فوق تاريخي لا يمكن أن يبقى دون استقطاب حاد إلى الأقصى، يضع "استشهاده" الأفق الطبيعي للمواجهة مع نخبة متآمرة من ألفها إلى يائها.

السرديات المؤامراتية لم تكن غالبًا ناجعة، بمعنى ترسيخ استدامة الحكم، إلا متى ترافقت معها وضعيات اقتصادية "ناجحة"، فمتى حضرت المؤامراتية وسردياتها بلا نجاعة اقتصادية نحن إزاء مأزق مؤكد

في حالة الزعماء الشعبويين الذين رسخوا عبر العالم في العشر سنوات الأخيرة (بوتين، إردوغان، ترامب، فيكتور اروبان، بولسونارو…)  نماذج حكم مشخصنة بمنحى نصف تسلطي أو تسلطي، يقوى أو يضعف حسب كل حالة، يمكن أن نرى أن السرديات المؤامراتية لم تكن ناجعة، بمعنى ترسيخ استدامة الحكم، إلا متى ترافقت معها وضعيات اقتصادية "ناجحة"، بمعنى أنها حسنت بهذا القدر أو ذاك الأوضاع المعيشية لغالبية الناس بشكل محسوس وحاسم. متى حضرت المؤامراتية وسردياتها بلا نجاعة اقتصادية نحن إزاء مأزق مؤكد، حتى لو ترافقت السرديات المؤامراتية مع حالة مقبولية شعبية واسعة.

في الحالة التونسية، يجب أن ننطلق في رأيي من مسلمة دونها لن نفهم شيئًا: "نعم توجد لهفة انتقامية واسعة إزاء النخبة ودعم لأي توجه "للمحاسبة"، وهنا كلما كانت سريعة وصارمة وبالذات لا تلتفت للإجراءات، كلما كانت ذات مقبولية أوسع.

في الحالة التونسية، نعم توجد لهفة انتقامية واسعة إزاء النخبة ودعم لأي توجه "للمحاسبة"، وهنا كلما كانت سريعة وصارمة وبالذات لا تلتفت للإجراءات، كلما كانت ذات مقبولية أوسع

مر تاريخ السياسة الحديثة بحالات من هذا النوع: الحشد الهستيري من أجل أكباش فداء وتعليق الجماجم على أبواب المدينة والتشفي، بالذات خارج الإجراءات الروتينية للمحاكمة العادلة. قيس سعيّد بالنسبة لطيف واسع كان متباطئًا في هذا بالذات، ولم "يكن في مستوى المسؤولية" لأنه بالتحديد لم يقم بذلك في الأسابيع الأولى بعد 25 جويلية/يوليو 2021.

لن أتوقف على التأكيد أن هذا التعطش الواسع للانتقام ليس نتيجة لحالة مرضية أصلية لدى شعب مريض، كما سيسرع بالقول بعض النخبويين. في الأصل، نحن إزاء نخبة توافقت فعلاً على تقاسم المغانم عوض الإصلاح، وأفسدت بذلك الانتقال الديمقراطي، ورغم الإنذارات المتتالية القادمة من الشارع ومن الصناديق لم تعتبر ولم تعتذر.

لكن هذا التعطش للانتقام أيضًا يتعايش مع استمرار الطلب الأصلي بالذات، أي أن السياسة هي في الأساس وسيلة لإصلاح وضعهم المعيشي. وإذا فشل قيس سعيّد في ذلك يشمله الحنق العام آجلاً أم عاجلًا.

يتحدى الرئيس النموذج الغربي بشكل صريح أو مستتر لكن يواصل مفاوضاته مع صندوق النقد الدولي، يطلب شطب الديون لكن يقوم بتنفيذ كل الشروط المطلوبة من الصندوق

حتى الآن، يبدو الرئيس في "محلك سر" يحافظ على الازدواجية بين الخطاب الإنشائي السياسي والأفعال "البراغماتية" التي تعترف وتقر بانتهاك السيادة. يتحدى النموذج الغربي بشكل صريح أو مستتر لكن يواصل مفاوضاته مع صندوق النقد الدولي، يطلب شطب الديون لكن يقوم بتنفيذ كل الشروط المطلوبة من صندوق النقد وآخرها تنقيح قانون المؤسسات العمومية بما يتيح وضع أسهمها في البورصة (تفويت بشكل مستتر).

والأهم مثلما أعلنت مديرة صندوق النقد من دبي الإماراتية أن "أصدقاء تونس" وعدوا بتنفيذ التعهدات. لا يوجد من تعهدات منتظرة أساسًا إلا تلك الخليجية (للتذكير حوالي المليار دولار ونصف المليار) كشرط لاستكمال شروط توقيع الاتفاق النهائي مع الصندوق. وهنا هل نحن إزاء موافقة على شروط خليجية من نوع جديد تشمل التواجد بشكل قوي وجدي في بنية تحتية عمومية استراتيجية من نوع موانئ ومطارات مثلاً؟.

الاقتصاد العنيد سيكون الامتحان الأهم للسردية المؤامراتية الإنشائية التي يتركز عليها حتى الآن حكم الرئيس قيس سعيّد

الاقتصاد العنيد سيكون الامتحان الأهم للسردية المؤامراتية الإنشائية التي يتركز عليها حتى الآن حكم الرئيس قيس سعيّد. وديمومة الحكم لا تتعلق بالكلام الإنشائي.

 

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"