31-يناير-2023
احتجاجات تونس فقر

"لا يمكن للحالة إلاّ أن تتجه إلى مزيد التعفّن وهو ما قد يفرض حلولًا ليست في صالح الديمقراطيّة" (الشاذلي بن إبراهيم/Nurphoto)

مقال رأي 

 

جاء تخفيض وكالة موديز لتصنيف تونس الائتماني من caa1 إلى caa2 مع آفاق سلبية ليشعل الضوء الأحمر إلى جانب أضواء أخرى ملتهبة تنذر منذ أكثر من سنة ونصف بحالة الانهيار المالي والأزمة الاقتصادية المتفاقمة في تونس.

جاء تخفيض وكالة موديز لتصنيف تونس الائتماني مع آفاق سلبية ليشعل الضوء الأحمر إلى جانب أضواء أخرى ملتهبة تنذر منذ أكثر من سنة ونصف بحالة الانهيار المالي والأزمة الاقتصادية المتفاقمة

ولئن كانت الأزمة السياسية صورة من انتقال ديمقراطي متعثر وبلا منجز اجتماعي فإنّ وصول الأزمة المالية الاقتصادية التي تعصف بالبلاد إلى ذروتها نتيجةٌ مباشرة لانقلاب حكم أداؤه على سلطة الأمر الواقع منذ 25 جويلية 2021 بأن تكون بلا أخلاق وبلا شرعية وبلا مستقبل.

وكانت الدورة الثانية من الانتخابات التشريعية على ضوء دستور قيس سعيّد وما عرفته من مقاطعة واسعة لا تخلو من ازدراء شعبي وإعلان عن نهاية انقلاب شعبوي لا تتوفّر شروط إزاحته عن الدولة وما بقي من مؤسساتها وإيقاف عمليّة الانهيار المتسارعة.

 

 

  • حالة الإنكار على أشدّها

لم يظهر قيس سعيّد في الدور الثاني من الانتخابات التشريعية مثلما كان عليه الحال في دورها الأوّل. ولم تنقل الصفحة الرسمية لرئاسة الجمهورية خروجه للإدلاء بصوته وحث "شعب تونس العظيم" على الخروج للقيام بواجبه الانتخابي.

كان خروجه بعد يوم على نتائج الانتخابات الأولية والتي لم تختلف نسبتها المصرّح بها من قبل هيئة الانتخابات المنصّبة عن نسبتها في الدور الأوّل. وهناك إجماع واسع من قبل منظمات مدنية على ما شاب الدورين من خروقات جسيمة جعلت منها انتخابات سخيفة وموضوع تندّر واسع. وهي غير ممثلة للإرادة العامة مقارنة إلى ما كانت عليه الانتخابات من مصداقية عالية تحت سقف الديمقراطية. انتخابات لم يشوّش على نزاهتها وشفافيتها وتجسيدها للاختيار الحر عجزُ من تمّ تفويضهم عن تحقيق الهدف منها.

ما قدّمه سعيّد من "قراءة مختلفة للأرقام" لا يعدو أن يكون مماحكة لا يمكن أن تنقذ العملية الانتخابية من الحكم عليها بكونها مهزلة غير مسبوقة

تكلّم قيس سعيّد، بعد يوم، من القصبة لا من قرطاج. وأشار إلى أنّ ذلك كان منه اختيارًا تاركًا بذلك المجال واسعًا لتأويلات شتّى بلا طائل. فحالة الإنكار التي بدا عليها وهو يتلو "قراءته المختلفة" للحدث الانتخابي على مسامع رئيسة حكومته نجلاء بودن مذهلة.

وما قدّمه من هذه "القراءة المختلفة للأرقام" لا يعدو أن يكون مماحكة لا يمكن أن تنقذ العملية الانتخابية من الحكم عليها بكونها مهزلة غير مسبوقة وألاّ تُلحق الهزيمة الماحقة بمن كان وراءها وبمن انخرط فيها دون أن تُعفي من لم يتصدّ لها من المدافعين عن الدولة والديمقراطية والحداثة السياسية من المسؤولية.

ليس بإمكان سعيّد أمام قوّة الأرقام وشهادتها على سقوط مشروعه المدوّي إلاّ أن يفزع إلى المهاترات والحجاج الشكلاني محاولاً إيجاد صلة بين هذه النتائج ورفض "فكرة البرلمان" من قبل الشعب تلميحًا إلى موقف مبدئي من الأجسام الوسيطة، واستبعاده كلّ علاقة لها برفض أجندته الانقلابية. لذلك يصرّ على أنّه لا أثر لهذه النتائج التي تؤكد عنده "أنّ عمقه الشعبي أوسع من عمق مناوئيه من أنصار الديمقراطية".

ويجعل، بقفزة شاهقة، من نتائج الانتخابات دليلًا على خيانة هؤلاء الخصوم وتأكيدًا لعمالتهم. ولا يضاهيه في القفز على حواجز الانتخابات إلاّ اعتبار النائب السابق عن حركة الشعب سالم الأبيض أن فوز مرشحها في مدينة جرجيس أسقط من داخل منظومة 25 جويلية أوهامَ الشعبويّة التفسيريّةَ وقبر شرعية قيس سعيّد ومشروعيّته.

نحن أمام حالة إنكار قصوى تغذّيها صورة متخيلة عن الشعب ومناهضة جذرية للديمقراطية والاختيار الشعبي الحر

وحركة الشعب جزء من المسار الانقلابي. و لا تزال تحت سقفه الآيل إلى السقوط رغم ما تشير إليه من "توجّه نقدي" لن يُنسي دورها الفاعل في الانقلاب على الديمقراطيّة وهدم مؤسساتها ومسؤوليّتها مع منظومة الانقلاب عما يتهدّد البلد والدولة والاقتصاد من انهيار. 

وفي الحالين، نحن أمام حالة إنكار قصوى تغذّيها صورة متخيلة عن الشعب ومناهضة جذرية للديمقراطية والاختيار الشعبي الحر تمثّلان أساس النزعة الشعبويّة في مشهد سياسي شديد التقلّب.

 

 

  • بلد ينهار

تخفيض وكالة موديز لتصنيف تونس الائتماني الأخير أحد أهمّ مؤشّرات الانهيار، بل هو أخطر هذه المؤشّرات لما يعنيه عند الأسواق الماليّة من أنّ الدولة التونسية على حافة الإفلاس وأنّ التعامل مع تونس ماليّا يعني للجهة الماليّة المانحة دخولها في منطقة المخاطر الكبيرة. ولم يبق في سلّم هذا التصنيف السيادي إلاّ درجة ثالثة caa3 ويمثّل النزول إليها حالة الإفلاس وأنّ تونس دولة مفلسة، ومعناه أنّه ليس بإمكانها الحصول على تمويلات خارجيّة.

تخفيض وكالة موديز لتصنيف تونس الائتماني الأخير أحد أهمّ مؤشّرات الانهيار، بل هو أخطر هذه المؤشّرات لما يعنيه عند الأسواق الماليّة من أنّ الدولة التونسية على حافة الإفلاس

هذا المؤشّر وحده كاف لإطلاق صيحات الفزع والاستنفار السياسي للتصدّي لحالة الانهيار. ذلك أنّ الأزمة رغم وجهها المالي والاقتصادي فإنّها من طبيعة سياسيّة. وأنّ شرط الخروج منها سياسي. وفي الغالب يرتكز التصنيف الائتماني من قبل وكالات التصنيف العالميّة على المعطى السياسي بما هو مشاركة سياسيّة وحرّيات عامّة ومنظّمات مجتمع مدني فاعلة ومؤسسات ديمقراطيّة ممثّلة وتقاليد في الإصلاح السياسي والإداري والاقتصادي.

ومن هذا المنطلق فإنّ الخروج من الأزمة الماليّة الاقتصاديّة مشروط بالحالة السياسيّة وبفعاليّة المؤسسات واستجابتها السريعة للتحديّات المتلاحقة. وقد مثّل حلّ البرلمان وأهمّ الهيئات التعديليّة والدستوريّة وحلّ المجلس الأعلى للقضاء هزًّا عنيفًا للدولة وإثارة غبار كثيف عن مصداقيّتها وقدرتها على مواجهة الأزمة الماليّة الاقتصاديّة والوفاء بالتزاماتها تجاه شركائها الماليين والاقتصاديين. ويأتي استهداف الحريّات والتضييق على أنصار الديمقراطية والدستور وإحالة القيادات السياسيّة في المعارضة الوطنيّة على القضاء العسكري في سياق حالة عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي التي تعيشها البلاد منذ حوالي سنة.

الأزمة رغم وجهها المالي والاقتصادي في تونس فإنّها من طبيعة سياسيّة وشرط الخروج منها سياسي

وقد توسّعت قاعدة القوى المناهضة للانقلاب والمطالبة بعودة الديمقراطيّة. وتجد في نسبة المشاركة الشعبيّة المتدنية فيما اقترحه قيس سعيّد من مسار سياسي للبلاد صدى قويًّا لتيّار استعادة الديمقراطيّة.  وتثير مراوحة الوضع لمكانه أسئلة حادّة داخل الطبقة السياسية، فهذا الانقلاب الذي اجتمعت كلّ المؤشرات على فشله الذريع لا يزال جاثمًا. فالأصل أن يقدّم قيس سعيّد استقالته بعد الإعلان عن نتائج الانتخابات التشريعيّة التي دعا إليها. بل إنّ الاستقالة كانت مطلوبة مع الاستمارة، ثم مع الاستفتاء وصولًا إلى محطّتين انتخابيّتين.

هناك أسباب تفسّر بقاء الانقلاب رغم سقوطه المدوّي في كلّ المحطّات التي مكّن فيها الشعب من أن يدلي برأيه، رغم غياب شروط الاختيار الحر. فكان العزوف والمقاطعة فعلين سلبيين هزما محاولة توجيه العمليّة الانتخابيّة. وحتّى لو عمدت هيئة الانتخابات المنصّبة إلى تزييف واسع لنسب المشاركة فإنّ ما لاصقها من رقابة النشطاء وبعض من القوى المدنيّة قدّم الصورة الأقرب للحقيقة، فاستحالت التغطية على المقاطعة الواسعة.

ومن هذه الأسباب وضع المعارضة من ناحية والجهات التي أسندت الانقلاب من داخل أجهزة الدولة. فالانقلاب ما كان له أن يثبت أمام الرفض الشعبي لولا هذا الإسناد. ومعلوم أنّ تواصل الانتقال الديمقراطيّ لعشر سنوات يعود إلى أسباب منها ما هو في الطبقة السياسيّة ومنها ما يعود إلى أجهزة الدولة.

هناك أسباب تفسّر بقاء الانقلاب في تونس رغم سقوطه المدوّي في كلّ المحطّات التي مكّن فيها الشعب من أن يدلي برأيه

فكان الإجماع على فكرة الدولة وحياد المؤسستين الأمنيّة والعسكريّة، والتقاء القوى السياسيّة الأكثر تمثيليّة في وسط المشهد السياسي على توافقات دنيا الأسباب الرئيسيّة وراء تواصل الانتقال الديمقراطي كلّ هذه المدّة. ولكنّ مع انتخابات 2019 بدأت هذه العوامل تنتفض شيئًا فشيئًا من خلال ما بدأ من خلاف حول مفهوم الدولة إلى جانب محاولات قيس سعيّد جرّ المؤسستين الأمنيّة والعسكريّة إلى دائرة التجاذب السياسي وانهيار الوسط السياسي باضمحلال حزب نداء تونس وضعف النهضة وظهور الأطراف في المشهد السياسي (الدستوري الحر، ائتلاف الكرامة).

وأمّا الأسباب التي يصحّ نعتها بالعميقة فتتمثّل فيما تعرفه البلاد من انقسام هووي واجتماعي يمنعان بناء مشترك وطني بين الفاعلين والتواصل بين الشارع الديمقراطي والشارع الاجتماعي. ويبقى للعوامل الإقليميّة والدوليّة دورها المهمّ، فهي في مجملها لم تكن ظهيرًا للتجربة الديمقراطيّة ولم تمدّ يد المساعدة للديمقراطيّة الناشئة.

في هذه المعادلة السياسيّة بين انقلاب لا يتزحزح رغم هزائمه المتتالية ومعارضة لا تجتمع على خارطة طريق وبرنامج مرحلي لتنفيذها، لا يمكن للحالة إلاّ أن تتجه إلى مزيد التعفّن

في هذه المعادلة السياسيّة بين انقلاب لا يتزحزح رغم هزائمه المتتالية في الاستحقاقات التي فرضها وبشروطه ومعارضة لا تجتمع على خارطة طريق وبرنامج مرحلي لتنفيذها، لا يمكن للحالة إلاّ أن تتجه إلى مزيد التعفّن وهو ما قد يفرض حلولًا ليست في صالح الديمقراطيّة رغم أنّ إعادة إنتاج منظومة الاستبداد تبدو فاقدة لأدنى شروطها.   

 

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"