مقال رأي
"هل التونسيون عنصريون تجاه أفارقة جنوب الصحراء؟".. يتناول السؤال مشكل العنصرية، لكن السؤال ذاته إشكالي باعتبار صبغته الاختزالية حول وصف شعب ما بصفة محددة. بيد أن الإجابة ممكنة، مع حذر عدم التعميم، بالاعتماد على معطيات ومؤشرات.
نهاية عام 2019، أفادت دراسة إحصائية أعدها المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية بأن أكثر من نصف المهاجرين من إفريقيا جنوب الصحراء أكدوا تعرّضهم لممارسات عنصرية من التونسيين، ويعتقد 61% من المستوجبين أن التونسيين هم ببساطة عنصريون تجاههم. والتقدير أن هذه النسبة ارتفعت بشكل بيّن في السنوات الأخيرة وتحديدًا خلال الفترة الماضية مع تفاقم خطاب الكراهية بل والانزلاق نحو ممارسة العنف المادي تجاههم.
المشاهد القادمة من صفاقس التي تبيّن اعتداء مجموعات من التونسيين على مهاجرين من جنوب الصحراء وطردهم من منازلهم ومعاملتهم بطريقة مذلّة ومهينة للذات البشرية، تكشف عن وجه قبيح بات متكررًا في تونس
المشاهد القادمة من مدينة صفاقس هذه الأيام التي تبيّن اعتداء مجموعات من التونسيين على المهاجرين من جنوب الصحراء وطردهم من منازلهم ومعاملتهم بطريقة مذلّة ومهينة للذات البشرية، تكشف عن وجه قبيح بات متكررًا في تونس. في فيفري/شباط الفارط، ساهم الخطاب الرسمي لرئاسة الدولة في إشاعة مناخ من الترهيب والتحريض ضد المهاجرين باعتبارهم ينفذون مخطط "الاستبدال الكبير"، وهو الموقف الذي اعتُبر غطاءً لمجموعات موتورة من التونسيين لممارسة أشكال من التنكيل والعنف ضد المهاجرين في تونس العاصمة وتحديدًا في جهة سكرة. نشر خطاب الكراهية والتحريض على المهاجرين وجد أيضًا بوقًا حزبيًا عبر الحزب القومي التونسي الذي يقدّم خطابًا علنيًا يضعه تحت المساءلة القانونية.
لا توجد أرقام رسمية حول عدد المهاجرين من إفريقيا جنوب الصحراء في تونس، وهم يتواجدون بها أساسًا كمنطقة عبور نحو جنوب أوروبا، لكن أدت، تبعيًا، التضييقات على قوارب الهجرة غير النظامية إلى الحيلولة دون مواصلتهم مسار الهجرة الذي ابتدؤوه من بلدانهم التي لازالت تعاني الأزمات السياسية والاجتماعية وغير القادرة على توفير شروط الحياة الكريمة لمواطنيها.
ساهم الخطاب الرسمي في إشاعة مناخ من الترهيب والتحريض ضد المهاجرين باعتبارهم ينفذون مخطط "الاستبدال الكبير" وهو الموقف الذي اعتُبر غطاءً لمجموعات من التونسيين لممارسة أشكال من التنكيل والعنف ضد المهاجرين
المهاجرون الضحايا بطبعهم تحولوا أيضًا إلى ضحايا للعمل الهش والاستغلال الاقتصادي في تونس، ولكن أيضًا لخطاب الكراهية والتحريض بشكل ممنهج، غالبًا بعنوان أنهم خطر على الأمن المجتمعي. في هذا الجانب، لا توجد أرقام رسمية تبيّن تسجيل ارتفاع في ارتكاب جرائم العنف في صفوف المهاجرين. ولكن واقعًا، بات ارتكاب مهاجر لجريمة ما مبرّرًا لمزيد التحشيد للقيام بجرائم جماعية ضد المهاجرين، وبات كل صاحب بشرة سوداء معرّضًا للضرب والتعنيف في الشارع.
ارتفاع الكراهية في صفوف التونسيين ضد المهاجرين من إفريقيا جنوب الصحراء هو من تبعات تأزم الوضع الاقتصادي والاجتماعي في تونس الذي زاد في تعزيز النفور من الأجانب بوصفهم منافسين اقتصاديين أو بوصفهم خطيرين على الأمن العام أو أيضًا بوصفهم أدوات مشروع استعماري يستهدف الأمن القومي للبلاد. وتبيّن التفاعلات على منصات التواصل الاجتماعي بصفة إجمالية عن حجم استفحال العنصرية والوحشية. هي حالة من التوحّش تنذر بحركية خطيرة داخل المجتمع.
والعنصرية ضد المهاجرين من إفريقيا جنوب الصحراء هي عنصرية مضاعفة، فهي ضد المهاجرين بوصفهم أجانب من جهة أولى وضدهم باعتبارهم من سود البشرة من جهة ثانية. إذ أن التونسيين سود البشرة لم يسلموا من الخطاب والممارسات العنصرية على مر عقود، وليس في تقديم ملف جماعي باسمهم كضحايا في إطار العدالة الانتقالية، إلا مؤشرًا عن عمق العنصرية في الثقافة التونسية.
وإجمالًا، يوجد نوع من التعالي تجاه شعوب جنوب الصحراء في تونس، باعتبارهم مجرّد "جحافل"، كما ردّد قيس سعيّد بنفسه في وصف المهاجرين، وهم شعوب دون المستوى الحضاري أمام انتشار سردية الاستعلاء في الثقافة التونسية الشعبية، التي عزّزها الخطاب الرسمي زمن الدولة الوطنية بعنوان تميّز "الأمة التونسية".
التونسيون الذين يمارسون العنصرية قولًا وفعلًا هم ليسوا فقط نتاج استعلاء ثقافي ومحدودية وعي حقوقي، بل أيضًا نتاج انتشار الترويج لسردية التخويف من مخططات تآمرية عبر المهاجرين من جنوب الصحراء
التونسيون الذين يمارسون العنصرية قولًا وفعلًا هم ليسوا فقط نتاج استعلاء ثقافي ومحدودية وعي حقوقي، بل أيضًا نتاج انتشار الترويج لسردية التخويف من مخططات تآمرية عبر المهاجرين من جنوب الصحراء. يوجد استثمار مشبوه خاصة عبر وسائل الاتصال الاجتماعي في هذه السردية، ولا ريب أن الخطاب الرئاسي القائم على توزيع تهم التآمر يمنة وشمالًا هو بذاته رافعة رسمية لإشاعة هذه السردية بما يعنيه من تبرير خطاب الكراهية بالأمن القومي مع اعتبار ممارسة العنف هو من قبيل الحماية الذاتية.
حالة السُعار ضد المهاجرين تتعارض وتاريخ البلاد في التسامح ومكافحة العنصرية انطلاقًا من إعلان رق العبيد نهاية القرن التاسع عشر ووصولًا لسن قانون لمكافحة التمييز العنصري عام 2018، وبهذين الحدثين، في التاريخ البعيد والمعاصر، أخذت تونس تميزًا في محطيها العربي. بيد أن الواقع اليوم يكشف عن فارق بيّن جعل تونس، في أعين العالم هذه الأيام، بلدًا موصومًا بالعنصرية.
يدغدغ خطاب الكراهية ضد المهاجر القادم من جنوب الصحراء والتحريض عليه مشاعر الهوجاء في سياق شعبوي أقال صوت العقل والموضوعية لحساب رغبات الجمهور العام القائمة على الانطباعية والمواقف الحديّة
ويدغدغ خطاب الكراهية ضد المهاجر القادم من جنوب الصحراء والتحريض عليه مشاعر الهوجاء في سياق شعبوي أقال صوت العقل والموضوعية لحساب رغبات الجمهور العام القائمة على الانطباعية والمواقف الحديّة. فبقدر ما يستوجب معالجة مسألة المهاجرين من إفريقيا جنوب الصحراء في تونس في إطار حل شامل ونافع وإنساني في الآن نفسه، فإنه يستوجب أيضًا النأي بكل صرامة عن خطاب الكراهية والعنصرية وممارسة العنف.
من قدموا إلى تونس هم ضحايا الفقر والتجويع، مثل التونسيين الذين يهاجرون يوميًا في قوارب الموت إلى جنوب أوروبا. ولا يمكن ادعاء رفض خطاب العنصرية المتصاعد في أوروبا مقابل ممارسته وبشكل أكثر خطورة وتهديدًا للسلم في تونس. في الأثناء، أنتجت أزمة القيم الرديفة بالأزمة الاجتماعية حالة من التوحّش في تونس عبر مشاهد قبيحة ومرعبة في آن. العنصرية والعنف ليسا وجهة نظر أو خيارًا ممكنًا. إن عدم مواجهة حالة السعار اليوم يعني تمهيد الطريق لسيناريو مرعب في المستقبل لا تُحمد عقباه.
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"