مقال رأي
لم يكن ليكتمل مشهد النزوع السلطوي المتصاعد لرئيس الدولة قيس سعيّد إلا بتبنّيه، أيضًا، لخطاب عنصري تجاه المهاجرين من دول الساحل والصحراء، سرعان ما استشهد به اليميني الفرنسي المتطرّف إريك زمّور لاحقًا لتبرير أطروحته العنصرية المعادية للمهاجرين في فرنسا. لم يجتمع مجلس الأمن القومي في تونس منذ نحو عام. لم يجتمع بسبب الأزمة غير المسبوقة لنقص المواد الغذائية الأساسية أو بسبب شح مياه الأمطار بما ينذر بموسم فلاحي صعب، ولكنه اجتمع بدعوة من سعيّد لاتخاذ "الإجراءات العاجلة" لظاهرة المهاجرين من جنوب الصحراء في تونس.
المسيء هي النبرة العنصرية في الخطاب الرئاسي باستعمال لفظ "جحافل المهاجرين" وربط ذلك بجرائم العنف وممارسات غير مقبولة وجميع الإقرارات مؤسسة على انطباعات الرئيس لا أكثر
رئيس الدولة كعادته حسم جازمًا أن تصاعد أعداد المهاجرين خلفه "ترتيب إجرامي" و"مشروع توطيني" وهدفه هو اعتبار تونس دولة إفريقية فقط ولا انتماء لها للأمتين العربية والإسلامية، هكذا ببساطة.
المسيء هو النبرة العنصرية في الخطاب الرئاسي باستعمال لفظ "جحافل المهاجرين" وربط ذلك بجرائم العنف وممارسات غير مقبولة حسب قوله. جميع الإقرارات مؤسسة على "قناعات" الرئيس لا أكثر، وانطباعاته، ولا تسندها أرقام رسمية أو دراسات إحصائية. لم يثبت مثلًا بالخصوص وجود علاقة عضوية بين ارتفاع أعداد المهاجرين من جنوب الصحراء وارتفاع عدد الجرائم.
التحرّك الرئاسي تجاه المهاجرين من دول الساحل والصحراء جاء، واقعًا، على خلفية تصاعد تحرّك حزب يُسمي نفسه "الحزب القومي التونسي" يقود منذ فترة حملة إعلامية وميدانية لطرد المهاجرين غير النظاميين القادمين من الدول الإفريقية ذات الأغلبية من سود البشرة بتعلّة وجود مخطط استيطاني يستهدف جعل التونسيين أقلية.
التحرّك الرئاسي جاء، واقعًا، على خلفية تصاعد تحرّك حزب يقود منذ فترة حملة إعلامية وميدانية لطرد المهاجرين غير النظاميين القادمين من جنوب الصحراء بتعلّة وجود مخطط استيطاني
أثارت هذه "المخاوف" الشعور الجمعي، كيفما تعكسه التفاعلات على مواقع التواصل الاجتماعي، خاصة في سياق تردّي الوضع المعيشي في البلاد، وتقديم المهاجرين السود على أنهم منافسين للتونسيين في قوتهم، إضافة إلى كونهم السبب لانتشار الجريمة، رغم عدم وجود رابطة سببية مثبتة لذلك.
لا يجب أن نتناسى، في هذا الجانب، الممارسات العنصرية لجزء هامّ من التونسيين تجاه سود البشرة عمومًا ليس فقط تجاه المهاجرين، بل أيضًا تجاه أبناء البلد، ولا حاجة لتبيان ذلك، وهو ما جعل ملف الميز العنصري ملفًا أولويًا في سياق الانتقال الديمقراطي تم تتويجه بإصدار قانون خاصّ لمكافحة التمييز العنصري.
إجمالًا في هكذا سياق، وجد قيس سعيّد، كأي حاكم شعبوي، فرصة مناسبة لتبيان تبنّيه لـ"مخاوف الشعب" خاصة إثر الصفعة التي تلقاها بعد العزوف الشعبي غير المسبوق في المشاركة في الانتخابات التشريعية التي لم تبلغ إلا نسبة 11%، وأيضًا في سياق تواصل تردي الوضع الاجتماعي والاقتصادي.
من المهمّ ألا نتجاوز الواقع المعاين لتزايد أعداد المهاجرين السود في تونس، رغم غياب أرقام رسمية دقيقة، ومن المهمّ دراسة ملف الهجرة وأسبابها وانعكاساتها الإيجابية والسلبية على حد السواء دون مواربة.
سعيّد يؤمن كثيرًا بالمؤامراتية، فهو يعتبر أصلًا أن الأزمة الاجتماعية هي نتيجة مؤامرات، وبالتالي لم يكن من الغريب أن يوظّف إثارة ملف المهاجرين السود لتعزيز سرديته المؤامراتية
فهذه الظاهرة، ان استقام أصلًا إطلاق هذا اللفظ السوسيولوجي تجاهها، يمكن تناولها في إطار جمعياتي أو بحثي، أو عبر الأجهزة الإدارية المتخصّصة، بيد أن إفرادها بمجلس أمن قومي انتهى ببلاغ رئاسي بنزعة عنصرية وفي سياق شعبوي بطبيعته، فتلك المصيبة. الرئيس سعيّد يؤمن كثيرًا بالمؤامراتية، فهو يعتبر أصلًا أن الأزمة الاجتماعية هي نتيجة مؤامرات، وبالتالي لم يكن من الغريب أن يوظّف إثارة ملف المهاجرين السود لتعزيز سرديته المؤامراتية.
يعود ارتفاع أعداد المهاجرين السود في تونس أساسًا للأزمة الاقتصادية العالمية التي زادت الوضع المعيشي في دول الساحل والصحراء سوءًا بما زاد في تصاعد الهجرة نحو شمال القارة بالأساس للهجرة غير النظامية نحو شمال المتوسط أو لتحسين مستوى العيش في شمال إفريقيا بدرجة ثانية.
ألا يصحّ أن نتساءل أيضًا عن سبب تصاعد هجرة التونسيين، سواء عبر الطرق النظامية أو غير النظامية، لأوروبا طيلة السنوات الأخيرة؟ الصورة ذاتها
ألا يصحّ أن نتساءل أيضًا عن سبب تصاعد هجرة التونسيين، سواء عبر الطرق النظامية أو غير النظامية، لأوروبا طيلة السنوات الأخيرة؟ الصورة ذاتها. عامل آخر زاد في تصاعد أعداد المهاجرين السود وهو الوضع الليبي وما حمله من موجة نزوح للمهاجرين نحو تونس، دونًا عن تزايد صعوبة الهجرة عبر قوارب الموت لشمال المتوسط، بما جعل الإقامة في بلد العبور ضرورة. موضوع الهجرة كما نطلب معالجته في أوروبا بموضوعية وعقلانية وبإعمال المبادئ الحقوقية والإنسانية، يجب أن نعالجه أيضًا بنفس الطريقة في تونس بمنطق المبدئية.
إن الخطير في الخطاب الرئاسي، في الأثناء، ليس فقط أنه يمثّل غطاء رسميًا لتزايد الخطابات والممارسات العنصرية والحاملة للكراهية داخل المجتمع التونسي تجاه المهاجرين السود، وما قد يؤديه ذلك من جرائم عنصرية وتحريض لممارسة العنف المعنوي والمادي ضدهم، بل أيضًا أن هذا الخطاب يتعارض مع التزامات الدولة تجاه المهاجرين واللاجئين حسب المواثيق الدولية، إضافة إلى التعارض مع الخطاب الحقوقي الكوني القائم على مبدأ حرية التنقل.
الانحدار القيمي في الخطاب الرسمي في تونس يبلغ كل مرّة درجة منذرة بأن البلد يسير عكس اتجاه التاريخ
في هذا الجانب، تبنّي الدولة لسياسة عنصرية أو تمييزية أو إقصائية تجاه المهاجرين السود في تونس، يعني شرعنة اعتماد نفس السياسة تجاه المهاجرين التونسيين في أوروبا على وجه الخصوص، الذين تتهدّدهم برامج اليمين المتطرّف المعادي للأجانب. خطاب رئيس الدولة، بالنهاية، متحامل ومؤامراتي في ملف المهاجرين السود، وهو مخجل. الانحدار القيمي في الخطاب الرسمي في تونس يبلغ كل مرّة درجة منذرة بأن البلد يسير عكس اتجاه التاريخ.
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"