ناجية الورغي، سيدة "مسرح الأرض"، ذاك المسرح المنشق الذي تأسس سنة 1984 بأقاصي الشمال الغربي التونسي بجهة جندوبة، حيث النسيان هناك سماء واطئة تغمر كل شيء، بل هي سيدة أصيلة من سيدات المسرح التونسي، يضيئها صوت الأعماق ورائحة التربة التي تشقها المحاريث الفضية بطاقة إيحائية هائلة فتتحول إلى مجازات واستعارات ولوحات مسرحية محرّضة على الجمال والتفكير ويسيّر فنّها إرادة حادّة تسكن عقلها وتصميم آسر على التوحّد مع خشبة المسرح ونثر المعاني بين المتلقين كما ينثر المزارع حبات القمح فوق الأرض المحروثة الطازجة. المسرح بالنسبة إليها ليس أسير الحياة، بل آسرها ".
كانت ناجية الورغي كغيرها ممن ابتلاهم الفن، تسير على الجمر مثل الدراويش حتى التحقت بالفرقة المسرحية بالكاف، تلك المدرسة الجاذبة للموهوبين ومجانين الفنون الركحية والدرامية على مرّ تاريخها المجيد
يبدو الزمن في ظاهره كتيار يجرف ويمحو لكنه وبعد تأمل فلسفي هو يرينا عمق حياتنا الماضية وأفق حياتنا الآتية، بل ويمنح الأشياء قوتها وتوهجها وحضورها. إنه وسيلة خلاص وأرض للإلهام والتفكير ومصباح يضيء دروب الآتي.
هكذا تبدو الرحلة العاتية للفنانة المسرحية ناجية الورغي. فعندما ننظر بين يديها نجد أن المسافات مترعة بالحكايات والانخطافات، فالمسرحي الأصيل المتوج بالفنّ ميزته أنه عالق بالتاريخ حدّ الانصهار ومنفصل عنه ومفارقه حتى الغربة. إنه بحث مستمرّ عن حياة ثانية كتلك التي حدثنا عنها أفلاطون أو كتلك التي رسمها الشعراء ومدحها الرسامون.
كانت ناجية الورغي كغيرها ممن ابتلاهم الفن، تسير على الجمر مثل الدراويش حتى التحقت بالفرقة المسرحية القارّة بالكاف سنة تأسيسها في 12 نوفمبر/تشرين الثاني 1967 تلك المدرسة الجاذبة للموهوبين ومجانين الفنون الركحية والدرامية على مرّ تاريخها المجيد. والتي أدارها في تلك الفترة المسرحي الراحل المنصف السويسي.
قررت ناجية الورغي مع رفيقها في الحياة والفن والمسرح تأسيس "مسرح الأرض" وتحويل الفضاء الريفي بالشمال الغربي التونسي إلى فضاء ثقافي عام كسرًا للمركزية التي تعاني منها الثقافة التونسية إلى اليوم
داخل تلك الخلية التي لم تلن إلى اليوم اكتسبت ناجية الورغي كل المهارات الفنية لكنها وقفت ذات خريف وقفة تأمل لترى الحدود التي رسمتها الفرقة المسرحية بالكاف لأحلامها الكبرى. فما كان منها إلا حملت حقائبها وقررت مع رفيقها في الحياة والفن والمسرح نور الدين الورغي تأسيس "مسرح الأرض" وتحويل الفضاء الريفي بالشمال الغربي التونسي إلى فضاء ثقافي عام كسرًا لتلك المركزية التي تعاني منها الثقافة التونسية إلى اليوم.
مسرح الأرض، لم يكن فرقة خاصة نشأت سنة 1984 وإنها كانت حركة مجتمعية ثقافية تعرّي الواقع الصادم في الريف التونسي البعيد وأقاصيه المنسية على سفوح جبال خمير... لقد كان الهامش والهشاشة المستبدّة بتلك الأماكن تغريبة هذا الثنائي المسرحي التونسي.
مسرح الأرض، لم يكن فرقة خاصة نشأت سنة 1984 وإنها كانت حركة مجتمعية ثقافية تعرّي الواقع الصادم في الريف التونسي البعيد وأقاصيه المنسية على سفوح جبال خمير
شرعت ناجية الورغي في نسج زمنها السحريّ الخاص خارج الديمومة الرياضيّة في عالم الانخطاف المسرحي، وانطلقت في ركض بلا هوادة على الخشبة بأسلوب المغامر ضمن مدارات لا تعرف الوقت ولا تعرف التوقّف، متشبثة بأحلام الناس البسطاء وقساوة حياتهم الاجتماعية والسياسية، محوّلة إياها إلى قيمة ورصيد معنوي وفلسفي. هكذا تتغيّر وظائف الزمن مع المسرحي العضوي بالمفهوم " الغرامشي" للكلمة فيتحول الزمن "من آلة للموت إلى آلة للذة" على حدّ عبارة رولان بارت.
المسرح من قبلها في تلك الفيافي البعيدة بالشمال الغربي التونسي كان قدرة على التعوّد والألفة مع الواقع وتزييفًا لحقيقته وتاريخه وصار بعدها شهادة على التغيير وصرخة في وجه الواقع وقدرة على المفاجأة والمباغتة الثقافية فتكثّف الإنتاج الفني بمسرح الأرض ليتجاوز الخمسين مسرحية أسهمت فيها الفنانة المسرحية ناجية الورغي وبذلت فيها من عقلها وروحها ونذرت لها جسدًا نحيلًا قدره العطاء بلا حساب.
وكانت بذلك أعمال مسرحية عديدة مثل: "فجرية "، "نوار الكالتونس"، "يا أمّة ضحكت"، "حبق" ، "عشق وزنود"، "حرقوس" ، "حوافر السّبول"، "ريح ومديح وكلام فصيح"، "خيرة"، "تراجيديا الديوك"، جاي من غادي"، "إليك يا معلمتي"... وهي أعمال خالدة في تاريخ المسرح التونسي تناولت بشجاعة واقع الحال بتونس والعالم العربي في مستوياته البائسة وقد نالت تلك الأعمال الجوائز المرموقة والحضوة النقدية والعلمية من الجامعات التونسية والعربية.
المسرح قبل ناجية الورغي في تلك الفيافي البعيدة بالشمال الغربي التونسي، كان قدرة على التعوّد والألفة مع الواقع وتزييفًا لحقيقته وتاريخه وصار بعدها شهادة على التغيير وصرخة في وجه الواقع
لقد كانت "تونس تكتب الشعر على خشبات المسرح"، هكذا وصف النقاد "مسرح الأرض" في أكثر من مرّة وذلك بفضل كتابات مسرحية تعلي القيم الجمالية الفنية الإنسانية والمسرحية خصوصًا فتحضر نصوص مسرح الأرض حضورًا مختلفًا فتنقد الأوضاع وتثوّر الشعب وتستنهض همم الثّوار والغيورين على الوطن من أجل حياة أفضل، نصوص خطّها نور الدين الورغي بوعي فلسفي وجمالي طافح بالشعرية والأنين والأيديولوجيا والتقاط المعاناة ورائحة الأرض وصوت الريح.. فقط من أجل كسر جدار الصمت ونشر البهجة والتحليق بالوطن نحو سماء الحرية.
"مسرح الأرض " الذي تنبت من أديمه السنديانة السامقة الظلّيلة ناجية الورغي هو تركيب جدلي رحب بين الهدم والبناء، هدم الانتماء إلى المسرح الكلاسيكي وبناء رؤية جديدة ترتقي بما يعرف "بالمسرح الشعبي" نحو آفاق جمالية غير معهودة. لقد سجّل التاريخ الثقافي التونسي ذلك بأحرف من ذهب.
كان لناجية الورغي حضور مختلف في الدراما التلفزية التونسية وهي أدوار مصبوغة بروح المسرح أما أدوارها السينمائية ورغم ندرتها إلا أنها تأتي بآداء متين تسكنه شاعرية المسرح ولافتة لانتباه النقد السينمائي
كان لناجية الورغي حضور مختلف في الدراما التلفزية التونسية على غرار دورها في مسلسل "بين الثنايا" أو "من أجل عيون كاترين" أو "عنبر الليل". هي أدوار مصبوغة بروح المسرح. أما أدوارها السينمائية ورغم ندرتها إلا أنها تأتي بآداء متين تسكنه شاعرية المسرح ولافتة لانتباه النقد السينمائي، مثل دورها البديع في شريط "صمت القصور" للمخرجة مفيدة التلاتلي.
ناجية الورغي، ذاك الينبوع الخالد الكريم الذي يبسط الأمل بين الناس بالفن دون غيره، والمسرح بالنسبة إليها روح ثانية في جسدها يمنحها الطاقة والبقاء والخلود. إنه مقدّسها الأبدي. ناجية الورغي غير مدينة لأحد غير نفسها الأمّارة بالفن داخل أكوان المسرح، بالمسرح تحيا وبفضل المسرح هي خالدة.