07-فبراير-2021

بورتريه لـ"سيدة السينما التونسية" مفيدة التلاتلي

 

"المرأة التي غيّرت حياتي رحلت اليوم.."، هكذا نعت الممثلة هند صبري، المخرجة والمونتيرة والكاتبة التونسية المبدعة مفيدة التلاتلي أو "سيدة السينما التونسية بلا منازع"، كما وصفها أستاذ الأدب الفرنسي والسينما الهادي خليل في مؤلفه "من مدونة السينما التونسية: رؤى وتحاليل" (1). 

غادرتنا مفيدة التلاتلي في 7 فيفري/ شباط 2021. غادرت صاحبة أحد أشهر الأفلام التونسية "صمت القصور". الفيلم الذي صُنف في المرتبة الخامسة ضمن قائمة أفضل 100 فيلم عربي، التي أعدها مهرجان دبي السينمائي الدولي عام 2013 بمشاركة 475 خبيرًا في فنون السينما، وهي قائمة مرجعية في المكتبة السينمائية العربية.

يُذكر أن صمت القصور هو أول فيلم طويل تقوم بإخراجه التلاتلي سنة 1994 وهو من بطولة هند صبري وآمال الهذيلي وناجية الورغي وفاطمة بن سعيدان وزهيرة بن عمار وهشام رستم وسنية المؤدب. والفيلم من سيناريو مفيدة التلاتلي ونوري بوزيد. ومثل الفيلم الحضور الأول سينمائيًا لهند صبري وهو الذي أعلنها نجمة للجمهور التونسي والعربي.

هند صبري تنعى التلاتلي: "هي المرأة التي غيّرت حياتي وقد رحلت اليوم.. المرأة التي اكتشفتني ورأت ما لم يراه غيرها"

في هذا السياق، نعت هند صبري الفقيدة قائلة "هي المرأة التي غيّرت حياتي وقد رحلت اليوم.. المرأة التي اكتشفتني ورأت ما لم يراه غيرها، رحلت اليوم وطوت صفحة لم أكن جاهزة لطيّها. "موفا"..المرأة، الأم، الصوت الرنّان، الإحساس المرهف الذي أتعبها وجعلها تصنع روائع سينمائية في نفس الوقت". 

وأضافت صبري، في وصف إحساس وتعامل المخرجة البارعة، "إحساس بحثت عنه كثيرًا ولم أر له مثيلاً لا قبلها ولا بعدها. حضن دافئ احتواني وأنا طفلة خائفة من عالم جديد. حضن يلمس القلب، بشهادة كلّ من اقترب منها أو عمل معها. ابتسامة تخفي حزنًا عميقًا غامضًا رغم الحمرة التي لا تفارق شفاهها.. وعينان لم أر لعمق بصيرتهما مثيلاً".

هند صبري في صمت القصور 1994

 

والقارئ والمتابع لمسيرة مفيدة التلاتلي مُوقن أنه مسار لا يشبه مسارات المخرجين غالبًا. فقد ولدت مفيدة التلاتلي في سيدي بوسعيد في عام 1947، وانتقلت إلى فرنسا لدراسة السينما في باريس وكان اختصاصها المونتاج، وعملت إثر ذلك في التلفزيون الفرنسي كمحررة نصوص ومديرة إنتاج.

هكذا كانت انطلاقة "سيدة السينما التونسية" (1) من عالم المونتاج أساسًا. عادت مفيدة التلاتلي إلى تونس في عام 1972 ونالت شهرة في المجال السينمائي بفضل عملها كمونتيرة أولاً.

كانت انطلاقة "سيدة السينما التونسية" من عالم المونتاج أساسًا، كانت سخية وساهمت في نجاحات العديد من المخرجين التونسيين والعرب

في المونتاج، اشتغلت مع عدد من المخرجين المعروفين، التونسيين والأجانب، وفي أفلام اشتهرت ولقيت نجاحًا واسعًا. تعاونت مع مخرجين مثل عبد اللطيف بن عمار، مرزاق علواش، الطيب الوحيشي، فريد بوغدير، سلمى بكار، ميشال الخليفي (الذاكرة الخصبة 1980)، ناجية بن مبروك وفاروق بلوفة (نهلة 1979) وغيرهم.

كانت سخية مع بقية المخرجين ولم تسرع الخطى نحو فيلمها الطويل الأول، انتظرت وكأنها أرادت أن تفاجئ الجميع ووُفقت في ذلك. وساهم في تأخير فيلمها الأول مرض والدتها، إذ هجرت مفيدة التلاتلي العمل السينمائي عندما علمت بإصابة أمها بمرض الزهايمر.

عن تلك الفترة، تقول التلاتلي (2) "ابتدأ مرض والدتي سنة 1980 وأتى عليها بعد ست سنوات من الآلام المبرحة. لقد كانت نظرة والدتي، طيلة فترة العذاب هذه، شاخصة. كانت بمثابة رضيع محتاج إلينا كليًا. لقد أهملت أبنائي ودراستهم وانقطعت عن العمل. وبعد وفاتها، أحسست بفقدان موجع مخيف. هذا الفراغ هو الذي زودني بطاقة لأنطلق في إعداد شريطي الأول". 

هكذا عادت مفيدة التلاتلي إلى عالم السينما بعد توقف للسنوات، وتحديدًا إلى عوالم الكتابة واﻹخراج، ونالت اهتمامًا كبيرًا بعد إخراجها ﻷول أفلامها "صمت القصور" الذي حازت من خلاله جائزة الكاميرا الذهبية من مهرجان كان السينمائي الدولي في عام 1994، وكذلك مكنها من التانيت الذهبي في نفس السنة وذلك من أيام قرطاج السينمائية وفازت هند صبري بجائزة أفضل ممثلة خلال الأيام.

حاز "صمت القصور" جائزة الكاميرا الذهبية من مهرجان كان السينمائي والتانيت الذهبي في نفس السنة وفازت هند صبري بجائزة أفضل ممثلة في أيام قرطاج

أسال صمت القصور حبرًا كثيرًا. وقيل إنه فيلم يشبه صاحبته، "فيلم حساس، عميق وحزين". الفيلم الذي كان نجاحه خياليًا، أرهق التلاتلي كثيراً. ماذا كانت ستقدم بعد ذلك النجاح تونسيًا وعربيًا ودوليًا؟

ولأن أول أفلامها كان "صمت القصور"، اعتبر عديد النقاد المختصين أن فيلمها الطويل الثاني "موسم الرجال" 1999 ـ 2000 قد خيّب الآمال. وبغض النظر عن كونه لم يصل فنيًا لمستوى صمت القصور فعلًا، إلا أن التلاتلي أعلت الحاجز كثيرًا في صمت القصور وكان ذلك سيظلم أي عمل فني يليه. 

يقول أستاذ السينما والأدب الفرنسي الهادي خليل في كتابه "من مدونة السينما التونسية: رؤى وتحاليل" (1) عن مفيدة التلاتلي "إنها عنصر أساسي في سينما المؤلف التواقة إلى نبرة خاصة بها وتوقيع منعتق من المسالك المعهودة، إن السينما التونسية مدينة بالكثير للنساء ولدقتهن الفنية". ويضيف "هي فنانة مجذوبة بالصورة السينمائية تعرف كل متطلباتها وتتحمل كل عذاباتها".

أستاذ السينما والأدب الفرنسي الهادي خليل: "التلاتلي عنصر أساسي في سينما المؤلف التواقة إلى نبرة خاصة بها وتوقيع منعتق من المسالك المعهودة"

صورت التلاتلي في أفلامها عوالم نسائية مختلفة، واعتبرها عديد النقاد مبدعة في هذه المجالات التي نقلتها بعمق وألم وحس مرهف. نقلت معاناة نساء تونس والعالم، في وضعيات مختلفة، عبر الصمت خاصة وأيضًا من خلال النص في بعض المناسبات. 

 صمت القصور 1994

موسم الرجال 2000

 

في سنة 2001، تم اختيار مفيدة التلاتلي كعضوة في لجنة مهرجان كان السينمائي، ثم وفي سنة 2004 خرج للعلن فيلمها الطويل الثالث "نادية وسارة". وتم تعيينها لفترة وجيزة في جانفي/ يناير 2011 كوزيرة للثقافة في الحكومة الانتقالية التي تلت هروب بن علي.

إثر إعلان وفاتها في 7 فيفري/ شباط 2021، قررت إدارة مهرجان أسوان الدولي لسينما المرأة في مصر، إهداء الدورة الخامسة لروح المخرجة التونسية المميزة عرفاناً بما قدمته طيلة مشوارها.

مهرجان أسوان لأفلام المرأة ينعي مفيدة التلاتلي ويهدي دورته الخامسة لروحها ينعي مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة...

Posted by ‎مهرجان أسوان لأفلام المرأة - Aswan international Women film Festival‎ on Sunday, February 7, 2021

وأكدت إدارة مهرجان أسوان، في بيان، أنه "برحيل مفيدة التلاتلي تفقد السينما التونسية والعربية واحدة من أهم رموزها، التي حملت على عاتقها مهمة التعبير عن معاناة المرأة، ونجحت في طرح مشاكلها على الشاشة الفضية بحرفية شديدة في أفلامها".

صورت التلاتلي في أفلامها عوالم نسائية مختلفة واعتبرها عديد النقاد مبدعة في هذه المجالات التي نقلتها بعمق وألم وحس مرهف

ودعتها بطلة أشهر أفلامها هند صبري قائلة "افتقدتك وأنت حيّة، وسأفتقد جزءًا من نفسي بعد رحيلك. والسينما العربية فقدت أحد عظمائها اليوم.. شكرًا موفا لكلّ شيء.. شكرًا معلّمتي.. لروحك الطيبة السلام".

المرأة اللّتي غيّرت حياتي رحلت اليوم..المرأة الّتي اكتشفتني و رأت ما لم يراه غيرها, رحلت اليوم و طوت صفحة لم أكن...

Posted by ‎هند صبري - Hend Sabry‎ on Sunday, February 7, 2021

كما نعاها نجوم ومخرجون ومنتجون في تونس وعديد الدول العربية، من بينهم الممثلة التونسية درة زروق التي كتبت في نعيها "لا زلت لا أصدق رحيل المخرجة التونسية المبدعة مفيدة التلاتلي.. نحن نفقد في آخر سنتين الجيل الذي جعلنا نحب السينما والفن في الوطن العربي. رحلتي مبكرًا مفيدة! أعرف أن روحًا حساسة مثلك تستطيع تحمل هذا العالم.. لقد غيرت أحلامي وحياتي من خلال النظر إليّ، أنت رأيتني كممثلة قبل أن أعرف ذلك. كنت أتمنى أن أراك مرة أخيرة.. أتمنى أن ترقد روحك بسلام".

لازلت لا أصدّق رحيل المخرجة التونسية المبدعة مفيدة التّلاتلي .. نحن نفقد في آخر سنتين الجيل الذّي جعلنا نحب السينما...

Posted by Dorra Zarrouk on Sunday, February 7, 2021

فيلم صمت القصور (يوتيوب)

 

شخصيًا، أهدي هذا المقال إلى مفيدة التلاتلي، التي كان فيلمها "صمت القصور" سببًا من أسباب عديدة لدراستي السينما.. شكرًا "سيدة السينما التونسية".

 

المصادر:

(1) ـ من مدونة السينما التونسية: رؤى وتحاليل ترجمة لكتاب Abécédaire du cinéma tunisien/ الهادي خليل/ سلسلة عين الروح/ أكتوبر 2008

Le parcours et la trace . Témoignages et documents sur le cinéma tunisien/ Hédi Khelil/ MediaCom/ 2002 (2)

 

اقرأ/ي أيضًا:

يوسف بن يوسف.. ساحر الأضواء و"الكادرات" الخلاّبة

"الرجل الذي أصبح متحفًا".. حينما تحتفي السينما بالتشكيلي علي عيسى