في أواخر خريف 1993، كنّا طلبة وكنّا يسارًا لا نستقرّ ولا نهدأ عن الرّكض في كورّيدا الإيديولوجيا. نطارد اللقاءات الشعرية ونحصّل ما تيسّر من الأدب والفنّ، ونستكين لندرة اللقاءات الفكرية مع المثقفين التونسيين الغرامشيين، المغيّرين والمحيّرين المنشقّين عن السلطة.. الكبار اللذين علّمونا السّحر وتركونا في البيداء بأسلحة من حبر: أولاد أحمد، محمد الطالبي، هشام جعيّط، الطاهر الهمامي، الطاهر شريعة، عبد المجيد الشرفي، سعاد الحداد، النوري بوزيد، محمد لطفي اليوسفي، الطاهر البكري، حسونة المصباحي، الحبيب بوعبانة، الفاضل الجعايبي، جليلة بكار، نور الدين الورغي وغيرهم.
كان التياترو، هذا الفضاء الثقافي الذي أسسه المسرحي المثقف توفيق الجبالي ورفيقته في الحياة والنضال الثقافي والإيديولوجي زينب فرحات، منشقًا وعصيًّا على التدجين
كان البلد حينها منهمكًا في تسوير نفسه باللون البنفسجي وصنع رايات الحزب الحاكم بأمره، لكن بعض الغيمات التي قدّت من ثقافة وأدب وفنّ كانت تأتي بين الحين والحين لترذّ على القلوب العطشى، فتنبت زهرات الأمل بالحرية والديمقراطية، وتبزغ شمس جديدة أكثر نضارة تحت سماء الوطن.
لازلت أذكر جيدًا ذاك المساء الخريفي عندما قصدنا فضاء التياترو بالمشتل لمتابعة أحد عروض "أيام قرطاج المسرحية" وهي من التظاهرات التي تأتي كل سنتين لتغيّر من إيقاع حياتنا وتدفع بمزيد من الأكسجين في بلد البنفسج الحزين. كان هذا الفضاء الثقافي، الذي أسسه المسرحي المثقف توفيق الجبالي ورفيقته في الحياة والنضال الثقافي والإيديولوجي زينب فرحات، منشقًا وعصيًّا على التدجين، وهو أيضًا مظلة لمن لا مظلة له.. يستظلّ بظلها طيف من المعارضة الثقافية التي رفضت المشاركة في الحفلة التنكرية التي شارك فيها فنانون وكتّاب انتهوا إلى مزابل التاريخ بعد أن اصطبغوا بالسلطة المتجبّرة إلى الأبد.
كنّا طلبة مسحوقين على بوابة التياترو بلا أموال تذكر، وبلا تذاكر، وبلا دعوات، وبلا واسطات... لكنّنا كنّا نريد الدخول ومشاهدة العمل المسرحي ومُنعنا لأننا بلا أي سند. وفجأة، لمع وجهها كنجمة قطبية على البوابة بعد أن علت الأصوات مطالبة بحق الطلبة في الثقافة، همس أحد الرفقاء أنها قلب الأسد زينب فرحات.
لم أكن أعرفها من قبل، لكن وجهها الذي تغمره نظّارة طبيّة وابتسامة واسعة مشرقة انطبع في ذاكرتي إلى الأبد، وما إن انبرى أحد الرفقاء في شرح ما يحدث حتى أشارت إلينا بأن نرافقها إلى داخل المسرح وذلك بعد أن فُسح لنا المجال فدخلنا.
وبهدوء ليّن فورتنا قالت لنا زينب ونحن نصعد تلك الدرجات المؤدية إلى رواق فخم يفضي إلى المسرح والمشرب: "الطلبة ملح الأرض ومن حقهم الدخول مجانًا لكل العروض الفنية والثقافية، لكن ما يحدث في هذا البلد هو مخالف لما يحدث في البلدان التي تحترم نفسها..".
زينب فرحات: الطلبة ملح الأرض ومن حقهم الدخول مجانًا لكل العروض الفنية والثقافية، لكن ما يحدث في هذا البلد هو مخالف لما يحدث في البلدان التي تحترم نفسها..
بعد أن دعتنا إلى حضور العرض المسرحي وغادرت، حدثنا أحد الرفقاء عن زينب فرحات قائلًا: "إنها أيقونة من أيقونات تونس، فهي صحفية صاحبة قلم، وحقوقية لا يشق لنضالها والتزامها غبار، إنّها سليلة عائلة فرحات، ووالدها الصحبي فرحات هو واحد من رفقاء فرحات حشاد، وأحد مؤسسي الاتحاد العام التونسي للشغل".
انبهرت لما قاله رفيقي وأيقنت منذ تلك اللحظة أن لا خوف على تونس والتونسيين ما دامت هذه الوجوه موجودة، وما دامت هذه الأصوات صدّاحة بالحق.
مع مرور السنين، أنضجتنا الحياة وصقلت أفكارنا وعلّمتنا أن الإنسان هو كائن تاريخي بامتياز، فمن جهتي خفّفت العدو في كورّيدا الإيديولوجيا وصرت أتردّد على التياترو متابعًا لأنشطته المميّزة من معارض تشكيلية، ولقاءات فنية وفكرية، وعروض موسيقية ملتزمة.. وهناك التقيت زينب أكثر من مرّة، ودارت بيننا أحاديث سطحية بخصوص المسرح والثقافة وإمعان السلطة في حرمان فضاء التياترو من الدعم من المال العمومي الذي كان يُمنح للمسرحيين الذين يدورون في أفلاك السلطة.
على أني كنت دائمًا ما أسترق النظر إليها منبهرًا بمسيرتها الذهبية المتوجة، فيسرح خيالي في حياتها الثرية فأتخيلها طفلة تمرح في براءتها رفقة أشقائها رجاء وأسامة وصفية بأزقة مدينة تونس العتيقة قرب باب الخضراء. وأجدني أتمثل اللحظات الفارقة التي عاشتها زينب فرحات بعمق وساهمت في تشكيل شخصيتها، وطبعها بطابع مخصوص رافقها إلى آخر يوم في حياتها.
ولعلّ من أبرز هذه الأحداث نجد سفر شقيقتها الكبرى صفية إلى الولايات المتحدة الأمريكية سنة 1957 للتعريف بـ"مجلة الأحوال الشخصية" التي عدّت ثورة حقيقية عاشها المجتمع التونسي في السنة الأولى التي تلت الاستقلال وأسهمت في تغيير ملامحه إلى اليوم.
من اللحظات الفارقة التي عاشتها زينب فرحات بعمق، اعتقال والدها وعودته ميتًا بعد سنة من السجن.. وسفر شقيقتها الكبرى إلى الولايات المتحدة الأمريكية سنة 1957 للتعريف بمجلة الأحوال الشخصية
زينب فرحات كانت متأثرة بشقيقتها الكبرى صفية المتخرجة من مدرسة الفنون الجميلة بتونس، وكانت رسامة ونحاتة رائدة وجريئة، ومدافعة شرسة عن حقوق المرأة ومؤسسة لجمعية النساء الديمقراطيات سنة 1989، كما يعدّها تاريخ تونس الحديث والمعاصر من باعثات الحركة النسوية في تونس وفي الوطن العربي.
أما الحدث الثاني الذي عاشته زينب فرحات وهي طفلة، فيتمثل في اعتقال والدها المناضل الوطني "الصحبي فرحات" في سنة 1962 وعودته ميتًا بعد سنة من السجن. والصحبي فرحات كان قياديًا في الحزب الدستوري الجديد وقريبًا من الزعيم الحبيب بورقيبة، وكان نقيب المعلمين في أربعينات القرن العشرين ورفيقًا لفرحات حشاد وأحد القادة الكبار الذين أسسوا المنظمة الشغيلة في تونس، لكنه اتُهم مع زمرة المتهمين في محاولة الانقلاب على الرئيس بورقيبة في 19 ديسمبر/ كانون الأول 1962 والتي شارك فيها عشرات السياسيين والعسكريين والنقابيين ومن أبرزهم الأزهر الشرايطي وأحمد الرحموني وعمر البنبلي ومحمد صالح البراطلي..
اقرأ/ي أيضًا: فرحات حشاد.. زعيم وطني أحب الشعب وناضل من أجل تحريره
لقد نحتت زينب فرحات نفسها على إيقاع هذين الحدثين فجعلاها امرأة من فولاذ في وجه النظامين البورقيبي والنوفمبري. لا تنحني أبدًا في الدفاع عن الحرية والديمقراطية وخاصة القضايا المتعلقة بحرية وحقوق المرأة.
وفي إحدى لقاءاتي القصيرة والعابرة بزينب فرحات في سنة 2005 بمناسبة بعث التياترو لتظاهرة "اتجمعوا العشاق" احتفاءً بذكرى رحيل زعيم الأغنية الملتزمة "الشيخ إمام عيسى" حدثتني عن المقاومة الثقافية ودورها في تثوير المجتمع وإنارة الطرق أمامه، وعرّجت على القضية الفلسطينية التي ترى أنها لا تبقى حية نضرة في عقول الأجيال القادمة إلا بالفن والفكر، وأنها تعتبرها أم القضايا الإنسانية ومظلمة شعب، وهي عار على البشرية جمعاء.
اقرأ/ي أيضًا: من 1948 إلى اليوم.. قوافل الشهداء من تونس إلى فلسطين لا تتوقف
بعد هذا الحديث جلست بمفردي في مقهى التياترو وتساءلت: لماذا تصر زينب فرحات وزوجها المسرحي القدير توفيق الجبالي على حمل هذه الأوزار؟ وكنت أبحث في وجهها وهي تتحرك أمامي وتلتقي ضيوفها عن الإجابة، فأرجل مجددًا ومجدفًا إلى ذاكرتها، فأجد أن عائلتها التقدمية قد هيّأتها لذلك، كما كانت دراستها بمعهد الصحافة وعلوم الإخبار هي ما ساهم في تحرير قلمها وتوجيهه نحو الكتابات السياسية والاجتماعية، فكتبت أمتع مقالاتها بجريدة "لوطون" التي تصدر باللسان الفرنسي عن دار الصباح إحدى أمجد الصحف التونسية وأعرقها.
كما كانت زينب فرحات بحكم عملها الصحفي، صديقة للفلسطينيين إبّان إقامتهم بتونس، وكانت تجمعها علاقات متميزة بقيادات منظمة التحرير الفلسطينية على غرار ياسر عرفات وأبو إيّاد.. كما كان فضاء التياترو يستقبل كل الأنشطة والتظاهرات التي تهتم بفلسطين والقضية الفلسطينية من ذلك حفلات مارسيل خليفة ونصير شمة واللقاءات الشعرية لسميح القاسم وتوفيق زياد وغيرهم.
اقرأ/ي أيضًا: شمس فلسطين الغائبة عن برامج التعليم في تونس..
زينب فرحات لم تتراجع يومًا عن نصرة الإنسان في حقه، سواءً كان هذا الحق أرضًا أو معنى أو كلمة. حيث نجدها بعد الثورة تذهب إلى تأسيس "جمعية زنوبيا"، وذلك سنة 2014، فتتوغل أكثر فأكثر في العمل الخيري والإنساني لتقدم المسرح بالأرياف وتنشئ المكتبات، ولتصدر الكتب لمن عجز عن الطبع. وجعلت أطفال منطقة "الشرف" من ولاية نابل يتنقلون إلى مدرستهم البعيدة على متن "كرّيطة" في إحراج للسلطة.
زينب فرحات رحلة نضال من أجل الحقوق والقضايا العادلة في تونس وفي العالم، عاشتها بمنتهى الشجاعة والقناعة لتتحول بذلك إلى درس خالد تلفّه نظرتها الثاقبة من وراء نظارتها الطبية، وابتسامتها المشرقة إلى الأبد.
زينب غادرتنا باكرًا يوم 19 ماي/ آيار 2021، لكنها في حقيقة الأمر لم تغادر، إنها تنبت كالعشب في جنباتنا مع كل ربيع.
اقرأ/ي أيضًا:
الساحة الفنية والإعلامية تنعى فقيدة المشهد الثقافي زينب فرحات