13-مايو-2024
قيس سعيّد والعلم

في قضية الوطن والعلَم، هناك باستمرار مغالطة تعتمدها أي سلطة للتعمية على استبدادها وانتهاكها للحقوق

مقال رأي 

 

كانت الزيارة المفاجئة لرئيس الجمهورية قيس سعيّد للمسبح الأولمبي برادس على تخوم العاصمة التونسية مؤثرة حيث بدا غاضبًا من المسؤولين الذين قبلوا بتغييب الراية الوطنية من المسابقة بقرار من اللجنة الأولمبية الدولية، كإجراء عقابي بسبب عدم تحيين البرلمان التونسي قانون مكافحة المنشطات الرياضية. بدا الرئيس غاضبا جدًا من المسؤولين الذين رضوا بإهانة العلم التونسي في أرضه، مهددًا بمحاسبتهم ومحاكمتهم. 

في موقعة العلَم يظهر بُعد آخر لموضوع السيادة عند الشعبويين، وهو ذلك المتعلق بالرموز. يجتهد الشعبويون كثيرًا في العمل على الرموز، باعتبارها اختزالًا تاريخيًا للمشاعر الوطنية وتركيزًا أقصى لمعاني السيادة والاستقلال

قدِمت مع الرئيس للمسبح الأولمبي فرقة الشرف الموسيقية التابعة لوزارة الدفاع ورُفع العلم التونسي على أنغام النشيد الوطني في أجواء شديدة التأثر من وقع الإهانة الكبرى التي ألحقتها اللجنة الأولمبية الدولية بتونس، وقد صرح الرئيس بنبرة غاضبة جدًا أن تونس ليست تحت حكم اللجنة الأولمبية حتى يرضى التونسيون بتغييب رايتهم، وأن من يحكم البلاد هم تونسيون حريصون على احترام رموزهم الوطنية.

 

صورة
صورة من زيارة الرئيس للمسبح الأولمبي برادس عقب حادثة "حجب" علم تونس (الرئاسة التونسية)

 

وبالرغم من أن زيارة الرئيس والأحداث التي شهدتها قد وقعت بعد نهاية المسابقات التي تشملها عقوبة عدم رفع العلم، وبالرغم أيضًا من أنّ وزير الرياضة وكذلك والي المحافظة التي يقع فيها المسبح كانا حاضرين على حادثة تطبيق العقوبة دون أن يعترضا، فإن تهديدات الرئيس بالعقاب لم تشملهما وشملت جامعة السباحة التي لم يلبث أن أعلن بيان رسمي عن حلها وكذلك تم عزل مدير وكالة مكافحة المنشطات.

 

 

يطرح عزل مدير الوكالة إشكالًا حقيقيًا. وبغضّ النظر عن مسؤوليته عما حدث، فإن العقاب الذي سلطه الرئيس عليه يعني أنه لم يقم بالمطلوب منه من أجل أن تتطابق التشريعات التونسية مع قوانين اللجنة الأولمبية الدولية. يكمن الإشكال في أنّ الرئيس الذي يبدو أنه استعجل البرلمان للمصادقة على التشريعات الجديدة، كان واعيًا بأنّ الأمر يتم تحت ضغط اللجنة الأولمبية الدولية، وقابلًا بالتالي لتغيير تلك التشريعات في الاتجاه الذي تريده اللجنة المذكورة، وهو ما يعني أن خطابه عن السيادة التونسية في المسبح وعن أنّ البلاد يحكمها أبناؤها وليس اللجنة الأولمبية الدولية وفيض الحماس الوطني الذي صاحب تلك الزيارة، ربما لم يكن متلائمًا مع سياق الأحداث والالتزامات الرسمية الواقعية. بل إن بعض الألسن الخبيثة جدًا تقول إنّ الرئيس ذهب للمسبح بعد نهاية المسابقات الرسمية حتى لا يؤدي رفعه للعلم وبالتالي الإمعان في تحدي العقوبات الأولمبية، إلى عقوبات جديدة.

هناك تناقض رئيسي بين الخطاب والممارسة الشعبويّيْن، ليس بإمكان سلوك الرئيس سوى أن يؤكده، وهو يظهر أساسًا في كل ما يتعلق بالخطاب حول السيادة والقدرة الفعلية على أن تعبر السياسة عن ذلك الخطاب

الحقيقة أن الرئيس قيس سعيّد، كشعبويٍّ صميم، لم يكن بإمكانه تجاوز الفرصة التي أتاحتها العقوبات الأولمبية من أجل التعبير عن تقديسه للراية الوطنية كرمز للكرامة الوطنية، أي السيادة. بل إن الموقعة أصبحت منتظرة منذ أن انتشرت صور حجب العلم على الشبكات الاجتماعية خلال الـ24 ساعة التي فصلت الحادثة عن الزيارة. 

عبّر معظم المتفاعلين عن صدمتهم إزاء ما حدث، لذلك فإن صدمة الرئيس كانت تعبيرًا عن شعور عام بالإهانة، وهذا ما يفسر انفعاله الشديد إبان الزيارة. يبقى أنّ هناك مشكلًا صغيرًا جدًا، وهو أن العقوبات الأولمبية كانت معلنة أشهرًا قبل بداية تطبيقها، بل إنها كانت معروفة بتفاصيلها.

 

صورة
صورة من زيارة الرئيس للمسبح الأولمبي برادس عقب حادثة "حجب" علم تونس (الرئاسة التونسية)

 

هناك تناقض رئيسي بين الخطاب والممارسة الشعبويّيْن، ليس بإمكان سلوك الرئيس قيس سعيّد سوى أن يؤكده، وهذا التناقض يظهر أساسًا في كل ما يتعلق بالخطاب حول السيادة، والقدرة الفعلية على أن تعبر السياسة، في المقابل، عن ذلك الخطاب.  

ظهر ذلك إزاء موضوع الهجرة غير النظامية لمواطني جنوب الصحراء حيث ترافق الخطاب الرسمي بعدم قبول تحول تونس إلى محتشد للمهاجرين كما يريده الإيطاليون، إلى تحولها فعليًّا إلى ذلك وإلى ورطة داخلية لا تعرف السلطة منها فكاكًا. 

بالرغم من أنّ المؤسسات التي يديرها الرئيس هي المسؤولة عن العقوبات التي أهانت الشعور الوطني، وبالرغم أيضًا من أنّ هذه العقوبات لم تكن مفاجئة، فإنّ كل ذلك لا قيمة له مطلقًا لدى الشعبويين عندما تحين لحظة استغلال شعور الإهانة الوطنية

وفي حين لم تصرح الحكومة بطبيعة الالتزامات التي قدمتها للإيطاليين في هذا الخصوص، فقد تحولت البلاد واقعيًا، بحكم تلك الالتزامات غير المعروفة، إلى مصيدة للمهاجرين غير النظاميين، كما كان يريد الأوروبيون بالضبط.

في موقعة العلَم يظهر بُعد آخر لموضوع السيادة عند الشعبويين، وهو ذلك المتعلق بالرموز. يجتهد الشعبويون كثيرًا في العمل على الرموز، باعتبارها اختزالًا تاريخيًا للمشاعر الوطنية وتركيزًا أقصى لمعاني السيادة والاستقلال. الشعبوية استغلال "للمشاعر الحزينة" التي تشق الجمهور، ومنها الإهانة التي يشعر بها هذا الجمهور من حين لآخر بسبب حادثة كالتي حصلت أخيرًا في مسابقات السباحة.

وبالرغم من أنّ المؤسسات التي يديرها الرئيس هي المسؤولة عن العقوبات التي أهانت الشعور الوطني، وبالرغم أيضًا من أنّ هذه العقوبات لم تكن مفاجئة بل معلنة، وبالرغم مرة أخرى من أنّ الحكومة والبرلمان وكذلك الرئيس كانوا جميعًا قابلين بتغيير التشريع التونسي كما طلبت اللجنة الأولمبية، فإنّ كل ذلك لا قيمة له مطلقًا لدى الشعبويين عندما تحين لحظة استغلال شعور الإهانة الوطنية.

في قضية الوطن والعلَم، هناك باستمرار مغالطة تعتمدها أي سلطة للتعمية على استبدادها وانتهاكها للحقوق. يصبح تقديس "الوطن" و"العلم" بذلك ضربًا من الابتزاز العاطفي للجمهور

هناك جانب آخر من الموضوع يتعلق بالعلَم نفسه، بغض النظر عن اللجنة الأولمبية وعقوباتها والرئيس وعقوباته، وهو أن الشعبويين يميلون لتقديس الرموز مجردة من كل معانيها. ففي حين تستهدف حكومة الرئيس خصومها ومنتقديها بكثير من القسوة وباستعمال أجهزة الدولة الخشنة، وبغض النظر عن تطابق التهم الموجهة لهم مع الوقائع، فإن مفهوم السيادة وكذلك الكرامة يأخذان، في هذه الظروف التي تمر بها البلاد، معنى المفارقة العظمى. يستغل الشعبويون حالة التحفز العاطفي باستمرار، ويحولون الرموز الوطنية إلى أدوات بروباغندا لترسيخ حكمهم.

في قضية الوطن والعلَم، هناك باستمرار مغالطة تعتمدها أي سلطة للتعمية على استبدادها وانتهاكها للحقوق. يصبح تقديس "الوطن" و"العلم" بذلك ضربًا من الابتزاز العاطفي للجمهور ودعاية تستهدف الجمهور الواسع من الشاعرين بالإهانة، وفي الوقت نفسه حصارًا للمنتقدين عندما يشرعون في استغلال ما حدث لتحميل السلطة المسؤولية عما وقع. 

الوطن تحرُّر، والعلَم بصفته رمزًا للوطن هو أيضًا رمز للتحرُّر، أي النقيض الكلي مبدئيًا وفلسفيًا وأخلاقيًا لكل الدعاية التي يمارسها الاستبداد عبر تطويع هذه الرموز

 يقع بذلك ضمان انخراط الجمهور في الإحساس بالإهانة وطُرق رد الاعتبار لـ"الرمز الذي يمثل الوطن" وكرامته واستقلاله، فتضيع المسؤوليات تمامًا. في الأثناء يصبح "الوطن" لدى ذلك الجمهور "ترابًا"، مجرد فضاء جغرافي من دون الروح التي يمثلها الإنسان وحقوقه وكرامته. 

أمّا العلَم فيتحول إلى نوع من الصنم المقدس الذي يحتاج شعب المؤمنين رؤيته ولمسه وضمه وتقبيله عندما تهيج مشاعرهم. لكن الوطن تحرُّر، والعلَم بصفته رمزًا للوطن هو أيضًا رمز للتحرُّر، أي النقيض الكلي مبدئيًا وفلسفيًا وأخلاقيًا لكل الدعاية التي يمارسها الاستبداد عبر تطويع هذه الرموز.

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"