24-يونيو-2024
التوجيه الجامعي في تونس.. اختيار شخصيّ أم اضطرار واستجابة لرغبة العائلة؟

إنّ أيّ نصيحة لا تأخذ بعين الاعتبار ما العالم مُقبل عليه في قادم الأيام، لا يمكن الاعتداد بها

مقال رأي 

 

قد يبدو من البداهة بمكان أن تكون الإجابة الطبيعية والعفوية الأولى لدى طرحنا سؤال "هل أنّ التوجيه الجامعي في تونس اختيار شخصيّ أم اضطرار واستجابة لرغبة العائلة؟" هو أن يتم اختيار الفرضية الأولى.. غير أنّ عدة شهادات وتجارب حية صادفناها، يمكن أن تثبت عكس ذلك.

  • التوجيه الجامعي في تونس.. إلى أيّ حدّ مسموح للعائلات بالتدخّل؟

ما هو الحدّ الذي لا يمكن للعائلات اجتيازه في "مساعدة" التلميذ على اختيار توجيهه الجامعي؟ لا شكّ أنّ هناك خطوطًا حمراء يجب على مجتاز مناظرة البكالوريا بنجاح، أن يضعها ويختارها بنفسه. فاختيار الاختصاص الجامعي، وإن كان على قدر كبير من الأهمية، ومحددًا لحياة كاملة بعدها، فإنه يبقى بدوره رهين اختيار سابق، يكون التلميذ قد "اختاره" سلفًا -إما طوعًا أو كرهًا- إثر نجاحه في السنة الأولى من التعليم الثانوي.. نتحدّث هنا عن اختيار الشعبة والمسلك.

لا شكّ أنّ هناك خطوطًا حمراء يجب على مجتاز مناظرة البكالوريا بنجاح، أن يضعها ويختارها بنفسه في علاقة باختياره لتوجيهه الجامعي

العائلة التي أقنعت/فرضت على ابنها أو ابنتها شعبة بعينها يسلكها/تسلكها في التعليم الثانوي، ستستسهل إلى حدّ كبير، التدخّل من جديد في قرار الاختيار الجامعي.. سيكون ذلك طبعًا من باب النصيحة الصادقة والحب اللامشروط، والرغبة المحمومة لأيّ أب أو أمّ في رؤية نجلهما يبلغ أعلى المراتب.

على أنّ بونًا شاسعًا بات يباعد بين العقليات في إطار ما يُعرف بصراع الأجيال (generation gap). والاختصاص الذي كان بالأمس مطمح كلّ شابّ في السبعينيات، تحوّل اليوم مع عصر الذكاء الاصطناعي إلى مجرّد توجّه غير ذي قيمة مضافة حقيقية. عدد الوظائف المهددة بالزوال في غضون السنوات القادمة يبدو مرعبًا، ولا يمكن التعامل مع وظائف المستقبل بعقليات الماضي!

العائلة التي أقنعت/فرضت على ابنها شعبة بعينها يسلكها في التعليم الثانوي، ستستسهل إلى حدّ كبير، التدخّل من جديد في قرار الاختيار الجامعي

إنّ أيّ نصيحة لا تأخذ بعين الاعتبار ما العالم مُقبل عليه في قادم الأيام، لا يمكن الاعتداد بها.. وصاحبها مهما كانت تجمعنا به من صلة قرابة، لا بدّ أن يتفهّم الإطار العام لمتطلبات سوق الشغل في تونس والعالم، بقطع النظر عن المميّزات التي يعدّدونها لتلك الاختصاصات التي تُكسب وجاهة اجتماعية أو تدرّ مالًا وفيرًا، على حسب المعتقدات الشائعة.

 يحضرنا في هذا الإطار، أمثلة متعددة لعائلات دمّرت -عن غير قصد- أبناءها بدفعهم لاختيار توجه جامعي لا يناسب ميولاتهم وقد يتعارض حتّى مع طباعهم الشخصية والنفسية.

  • أولياء يسعون لتحقيق أحلامهم الشخصية عبر الأبناء

الدافع الأسريّ للنصح والتوجيه لم يكن يومًا أمرًا مذمومًا ومستهجنًا، بل إنّه مفروض في حالات بعينها.. والعائلة التي لا تأخذ بيد أبنائها في مختلف مشاكل ومتطلبات الحياة، لا يمكن أن نطلق عليها حقًا لقب "عائلة". بيد أنّنا قرأنا عن ضرورة الانتباه لصنف من الأولياء يريدون أن يروا أبناءهم يحقّقون ما عجزوا عن تحقيقه هم أنفسهم!

اختيار الاختصاص الجامعي، وإن كان على قدر كبير من الأهمية، فإنه يبقى بدوره رهين اختيار سابق، يكون التلميذ قد "اختاره" سلفًا -إما طوعًا أو كرهًا- إثر نجاحه في السنة الأولى من التعليم الثانوي

ليس الابن صلصالًا نريد أن نشكّله وفق القالب الذي نريده. والوليّ الذي عجز مثلًا عن امتلاك وظيفة تجنّبه أجرتها التداين والقروض البنكية، يطمح إلى أن يعوّض ابنه كل ما لم يُوفّق في تحقيقه، فتجده يدفعه إلى اختصاصات قد تكون أكبر من قدراته. وجميعنا يعرف ذلك الجار الذي دفع ثروة طائلة على الدروس الخصوصية في سبيل حصول ابنه على مجموع كبير يخوّل له الدخول إلى كلية الطب مثلًا، أو تلك الصديقة التي رسّمت ابنتها قسرًا في معهد خاص طمعًا في الشهادة على حساب التكوين، أو ذلك القريب الذي احتجّ على عدم دخول ابنيه إلى المعهد النموذجي ظنًا منه أنه مفتاح مستقبلهما.

  • لماذا يجب على مجتاز البكالوريا بنجاح أن يختار اختصاصه بنفسه؟

لماذا يجب على مجتاز البكالوريا بنجاح أن يختار اختصاصه بنفسه؟ والسؤال أصلًا لا يمكن الإجابة عنه إلا بسؤال: "ولماذا لا يفعل؟" أليس من الأسلم أن يختار الابن مصيره بنفسه ويتحمّل فيما بعد تبعات هذا الاختيار؟ ألسنا نريد لأبنائنا أن يقتحموا الحياة الجامعية وبعدها الحياة المهنية بكل ثقة ودون اهتزاز أو اضطراب في الاختيارات؟

منظومة التوجيه نفسها تتيح للمترشحين خيار التدارك فيما بعد وتغيير الشعبة وغيرها من الفرضيات الأخرى التي تمت فيها مراعاة هامش الخطأ وسوء التقدير التي يمكن أن تضعنا فيها جسامة المسؤولية

إنّ توجيه أصابع اللوم من قبل الأبناء إلى الوالدين وظروفهما المادية، ظاهرة شائعة في أغلب العائلات التونسية، حتى إن لم يصرّح الشاب بذلك علنًا فإنه بالتأكيد يستبطن هذا الشعور ويكرّر طرح هذه الأسئلة مرارًا.. وبالتالي، لا فائدة تُرجى من مزيد تحمّل أعباء هذه المسؤوليات، إذ يجب إطلاق يد الأبناء لاختيار ما يرونه مناسبًا لهم بناءً على رغباتهم وأحلامهم الخاصة.

منظومة التوجيه نفسها تتيح للمترشحين خيار التدارك فيما بعد وتغيير الشعبة وغيرها من الفرضيات الأخرى التي تمت فيها مراعاة هامش الخطأ وسوء التقدير التي يمكن أن تضعنا فيها جسامة المسؤولية، ولذا فإنّ الناجح في البكالوريا في أحوج ما يكون إلى دعم خياراته ومساندتها وإبداء الملاحظات بشأنها بشكل موضوعي، بدل انتقاد رغبته وقمعها، ومقارنته بغيره ممّن لا يملكون قطعًا الظروف نفسها، بما يجعل من المقارنة غير منصفة من الأساس.

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"