مقال رأي
ألغى رئيس الدولة قيس سعيّد تاريخ 14 جانفي/يناير كعيدٍ للثورة معوّضًا إياه بتاريخ 17 ديسمبر/كانون الأول الذي بات يوم عطلة منذ سنتين. وفي توطئة دستور الرئيس، ورد أن يوم 17 ديسمبر/كانون الأول 2010 مثّل "صعودًا شاهقًا غير مسبوق في التاريخ"، لكن الرئيس لا يحتفي بهذا "الصعود الشاهق" أو "الانفجار الثوري" أو "الثورة المباركة"، والعبارات دائمًا من الدستور. اكتفى بإصدار عفو رئاسي عن مساجين يوم 17 ديسمبر/كانون الأول 2023، دون أي نشاط رئاسي ميداني أو خطابي. عمليًا، أظهر الرئيس اهتمامًا بعيد الشجرة، حينما تنقّل الشهر المنقضي إلى منطقة رجيم معتوق ليغرس شجرة، أكثر من عيد الثورة، الذي بات يومًا رسميًا صامتًا.
اكتفى قيس سعيّد بإصدار عفو رئاسي عن مساجين يوم 17 ديسمبر دون أي نشاط رئاسي ميداني أو خطابي.. عمليًا، أظهر الرئيس اهتمامًا بعيد الشجرة، حين تنقّل لمنطقة رجيم معتوق ليغرس شجرة، أكثر من عيد الثورة الذي بات يومًا رسميًا صامتًا
عيد الثورة هو يوم احتفاء بالضرورة، باعتباره عيدًا وطنيًا بدرجة أولى. وهو يوم عطلة رسمي. وليس الاحتفاء يقتضي احتفالات وبهارج لا تستحملها أوضاع البلاد، ولكن العيد يقتضي، على الأقل، ما يظهر اهتمامًا به كتوجيه خطاب للشعب، وإن كان الرئيس مولع دائمًا بالخطابات. لكن مرور عيد الثورة بالذات دون أي خطاب مثير للسؤال، في حين أن الرئيس لا يفوّت أي حادثة عرضية أحيانًا لتقديم خطاب مطوّل أمام أحد وزرائه.
ربّما يريد سعيّد أن يظهر تميًزًا عن سابقيه، من ناحية تفادي الخطابات الرئاسية في الأعياد الرسمية، على نحو عدم اهتمامه بعيد الاستقلال أيضًا، وذلك لتفادي صورة الرئيس الذي يخطب على الشعب دون منجز. لكنّ الصورة معاكسة. فالرئيس دائمًا ما يخطب في الأيام العادية، بما يتجاوز ضوابط الخطاب المؤسساتي. وبالتالي، ليس القصد من عدم مخاطبة الشعب في العيد إلا نشوزًا عن سلوكه.
عيد الثورة هو يوم احتفاء بالضرورة، باعتباره عيدًا وطنيًا بدرجة أولى.. وليس الاحتفاء يقتضي احتفالات وبهارج لا تستحملها أوضاع البلاد، ولكن العيد يقتضي على الأقل ما يظهر اهتمامًا به كتوجيه خطاب للشعب
لكن ربمّا غاية الرئيس بعدم الخطاب، على وجه التخصيص، تفادي ما يقطع مشهد احتجاجه الدائم. فهو لا يظهر دائمًا إلا محتجًّا وغاضبًا، من المعارضين والإدارة ورجال الأعمال والجمعيات. وهذا الاحتجاج يعزّز صورته لدى الرأي العام في السياق الشعبوي، بظهوره كشخص يحارب من داخل الدولة ويتعرض للمؤامرات ولذلك فهو يحتجّ. ثم ماذا يمكن أن يقول الرئيس في خطاب لعيد الثورة وهو الذي يقول كل شيء كل يوم تقريبًا؟ لم يعد خطاب الرئيس حدثًا اتصاليًا في كل الأحوال.
بَيْد أنّ المعضلة أيضًا مضمونية. أيّ فحوى لخطاب رئاسي في عيد الثورة ولم يقدم الرئيس منذ اختطافه للسلطة قبل سنتين ونصف أي منجز جدّي لحلّ الأزمة الاقتصادية والاجتماعية المستفحلة دون عن الوضع السياسي المتأزم بطبعه. الوعود والتعليمات والتهديدات باتت مكرّرة، ويجترّ الرئيس في كل خطاب نفس العناوين والعبارات، في مشاهد مألوفة. يتزامن عيد الثورة مع تمرير البرلمان لقانون المالية لعام 2024 الذي يتضمن ارتفاعًا في اللجوء للاقتراض الخارجي دونًا عن محدودية الإنفاق الاجتماعي مقارنة بالميزانية السابقة.
أيّ فحوى لخطاب رئاسي في عيد الثورة ولم يقدم الرئيس منذ اختطافه للسلطة قبل سنتين ونصف أي منجز جدّي لحلّ الأزمة الاقتصادية والاجتماعية المستفحلة دون عن الوضع السياسي المتأزم بطبعه؟
ويتواصل، في الأثناء، مشهد ندرة المواد الأساسية، آخرها السكر، حتى أصبحت الطوابير أمام المغازات مشاهد يومية وطبّع الناس معها. وعلى مستوى إدارة الدولة، تتواصل سنة الشغورات بداية من مدير الديوان الرئاسي إلى وزيري التشغيل والاقتصاد، دونًا عن منصب الوالي في تونس وصفاقس. شغور بات مستدامًا لا يقلق الرئيس الذي لا يظهر اهتمامًا بوجود المسؤولين لقيادة الإدارات العمومية.
وعيد الثورة هذا العام حلّ أيضًا قبل أسبوع وحيد من موعد انتخابات المجالس المحلية، التي لا يظهر المواطن أي اهتمام بها، ناهيك عن الساحة الحزبية المُقالة والمستقيلة في آنٍ عن التطبيع مع المسار السياسي الذي فرضه رئيس الدولة منذ سنتين ونيف. انتخابات شهدت معدل ترشحات ضعيف والمنتظر نسبة مشاركة محدودة، ولا تزال نسبة الانتخابات التشريعية في حدود 11 في المائة قبل عام، عاكسة للاستقالة العامة عن الانخراط في مشروع الرئيس.
عيد الثورة هذا العام حلّ أيضًا قبل أسبوع وحيد من موعد الانتخابات المحلية، التي لا يظهر المواطن أي اهتمام بها، ناهيك عن الساحة الحزبية المُقالة والمستقيلة في آنٍ عن التطبيع مع المسار السياسي الذي فرضه الرئيس
الثورة التي انطلقت قبل 13 عامًا في تونس وامتدّت في المجال العربي، حاملة لآمال عريضة من أجل حياة كريمة قوامها احترام لحقوق الإنسان وتنمية ضامنة للرفاه، لم تحقق أهدافها بعد. لكنّ الأسوأ أن كل عام تبتعد أهدافها أكثر فأكثر، فالوضع الاجتماعي يسوء، والوضع السياسي والحقوقي يظهر أكثر سوءًا. بالنهاية، الرئيس سعيّد هو فعلًا ثائر، ولكن على كل شيء: على قيم الثورة أيضًا.
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"