مقال رأي
ربما لم يقم أي رئيس دولة سابق في تونس بزيارة مقر وزارة الداخلية، على الأقل في مرات متتابعة وفي فترة وجيزة، كما الرئيس الحالي قيس سعيّد. وفي نفس الوقت، ربّما أيضًا لم يسعَ أيّ رئيس سابق لتكثيف الزيارات الميدانية وخاصة التجوّل في الشارع كما الرئيس الحالي.
تواتر زيارات الرئيس إلى مقر وزارة الداخلية غايته المعلومة هي الدعاية، وتلك غاية كل سلطة في العموم، ولكنها دعاية تتكثّف الحاجة إليها لدى السلطويين خاصّة في سياق أزمة مزدوجة سياسية ومعيشية وضعف استجابة السلطة في مواجهتها
تواتر هذا النوع من الزيارات غايته المعلومة هي الدعاية، وتلك غاية كل سلطة في العموم. ولكنها دعاية تتكثّف الحاجة إليها لدى السلطويين خاصّة في سياق أزمة مزدوجة سياسية ومعيشية مع ضعف استجابة السلطة في مواجهتها. وهو يجعل الحاجة إلى صورة الحاكم الذي يعمل من جهة والذي يحتكّ بالناس من جهة أخرى حيوية. ولكن عدا الغاية الدعائية، فهي رسائل كاشفة عن خيارات أيضًا.
فلا يمكن قراءة تواتر زيارات سعيّد إلى مقرّ وزارة الداخلية وسعيه لمقابلة وزير الداخلية مصحوبًا بالقيادات الأمنية إلا في سياق مقاربة الرئيس لإدارة البلاد في جميع المجالات. ففي المجال السياسي، لم يؤدِّ طغيان معجم الخيانة والعمالة والتآمر ضد معارضي قرارات 25 جويلية في الخطاب السياسي الرسمي إلّا لإثارة السلطة عبر أدواتها القضائية لملفات أمنية-قضائية ضد المعارضين بعنوان "التآمر على أمن الدولة".
الغاية من تواتر زيارات الرئيس لمقرّ الداخلية هي إظهار سلطته وسطوته، هو الذي كان حريصًا دائمًا على استعراض مظاهر "التحامه" بالقوات الأمنية والعسكرية منذ صعوده لقرطاج
ويُستذكر، في هذا الجانب، وفي قضية التآمر التي أدت لإيقاف قيادات معارضة، أنه قد انطلقت القضية بمراسلة إدارة أمنية لوزيرة العدل مباشرة حول وجود مخطّط تآمري، دون المرور حتى بالنيابة العمومية. ولاحقًا، توجّه رئيس الدولة بنفسه لمقرّ الداخلية ليلتقي قيادات أمنية ليشكرهم على دورهم في إيقاف "الإرهابيين" الذين "أثبت التاريخ قبل أن تثبت المحاكم أنهم مجرمون" بتعبير الرئيس. وهو الذي أقرّ بنفسه أنه كان يتابع إلى ما بعد منتصف الليل أطوار عمليات الإيقاف. ثم استقبل بنفسه بعد أيام وزير الداخلية ومدير الأمن بقصر قرطاج لمتابعة تطورات القضية، وقد كانت وقتها الأبحاث الأوليّة جارية ولم تقم النيابة بفتح تحقيق بعد.
ومن مقرّ وزارة الداخلية أيضًا، أعلن رئيس الدولة حلّ المجلس الأعلى للقضاء في شهر فيفري/شباط 2022، على نحو يعكس جليًا وضع السلطة التنفيذية يدها على القضاء بقوّة. كان إعلان قرار الحلّ من مقرّ وزارة الداخلية معبّرًا على ما يمكن توصيفه "أمننة" القضاء، وهو الأمر الذي تأكّد بإعفاء عشرات القضاة في شهر جوان/يونيو من نفس العام على أساس بطاقات أمنية، دون تمكين المعفيين من الدفاع عن أنفسهم.
وقد أوردت شهادات عديد القضاة أن إعفاءهم جاء على خلفية عدم مسايرتهم لطلبات الأجهزة الأمنية، كشهادة وكيل الجمهورية بقفصة عن رفضه تلبية مطالب فرق أمنية للإذن لهم للقيام بـ"مداهمات" دون تحقق شروط الإذن بالتفتيش طبق القانون. وقد تعددت شهادات مساعدين لوكيل الجمهورية بعدد من المحاكم في ذات المضمار.
تواتر الزيارات الميدانية للرئيس وإظهار "التحامه" بالناس ونشر صور العناق مع الأطفال، يعكس رغبة مستديمة في إظهار صورة الرئيس الذي ينتمي للشعب وليس الجالس في الغرف المغلقة على رِسل النخبة السياسية التي لم ينتم إليها الرئيس سابقًا
وفيما يتعلق بأزمة المواد الأساسية وارتفاع الأسعار، لا يتحدّث الرئيس أساسًا إلا عن الاحتكار ومسالك "التجويع لا التوزيع" على نحو أن حلّها رهين قيام الأجهزة الأمنية بدورها لمواجهة "العصابات".
لكن الغاية أيضًا من تواتر الزيارات لمقرّ الداخلية هي إظهار الرئيس سلطته وسطوته، وإثبات سيطرته. ورئيس الدولة كان حريصًا دائمًا على استعراض مظاهر "التحامه" بالقوات الأمنية والعسكرية منذ صعوده لقرطاج. ويُستذكر بالخصوص التأويل الدستوري الذي طرحه، قبل 25 جويلية/يوليو 2021، بأن مفهوم القائد الأعلى للقوات العسكرية يشمل الأجهزة التابعة لوزارة الداخلية.
في الأثناء، إن تواتر الزيارات الميدانية وإظهار "التحامه" بالناس ونشر صور العناق مع الأطفال على صفحة الرئاسة، يعكس رغبة مستديمة في إظهار صورة الرئيس الذي ينتمي للشعب وليس الجالس في الغرف المغلقة على رِسل النخبة السياسية التي لم ينتم إليها الرئيس سابقًا، والتي ركّز هجماته عليها لاحقًا.
توجد حاجة عند الرئيس للتعبئة الدورية في الشارع، خاصة وهو يعاين أن الأزمة المعيشية منذ استحواذه على السلطة قبل نحو 3 سنوات زادت حدّة على جميع المستويات، وقد بدأ الضجر يتسلّل بين الناس
يسعى الرئيس دائمًا لإثبات القطيعة عمّا سبقوه، وهو الذي يمارس في خطابه السياسي صورة المعارض من داخل الدولة كعدم تردده في توجيه السهام الحادّة نحو الإدارة بل والحديث عن خدمة أعوان فيها ضد مصالح الشعب. توجد حاجة عند الرئيس للتعبئة الدورية في الشارع، خاصة وهو يعاين أن الأزمة المعيشية منذ استحواذه على السلطة قبل نحو ثلاث سنوات زادت حدّة على جميع المستويات، وقد بدأ الضجر يتسلّل بين الناس الذين باتوا يقفون طويلًا على الطوابير من أجل الحصول على فتات المواد الأساسية.
وما يعزّز الغاية الدعائية البحتة من الزيارات خاصة للمناطق خارج العاصمة هو اقتصارها على نشاط رئاسي أساسي وهو مقابلة المواطنين والجلوس معهم، دون القيام بأنشطة عملية ناجعة تنتهي لاتخاذ قرارات، كالإشراف على اجتماعات هياكل جهوية حول التنمية، أو عقد مجلس وزاري مخصّص لفائدة منطقة ما. فالرئيس توجّه مؤخرًا لقرية النوايل بتوزر، جنوبي العاصمة، ليستمع لمصاعب المواطنين في بعث المشاريع وعدم استجابة الجهات المعنية لمطالبهم وفق بلاغ الرئاسة، ثم وجه رسائل جميلة لهم مثل الصحراء التونسية فيها خيرات وأن مناطق عديدة فيها يمكن أن تتحوّل إلى مناطق خضراء. هي إذًا زيارة أساسًا للاستماع ولإظهار الالتحام بالناس بمشاهد العناق والتقبيل.
تكثّف زيارات الرئيس إلى وزارة الداخلية يتزامن مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية، ولهذا تكتسي هذه الزيارات صبغة الحملات الانتخابية المبكرة، خاصة وأن الرئيس يبدو بيّنًا أنه منزعج من بعض الترشحات الرئاسية المنتظرة
وتكثّف هذه الزيارات، التي يُردّد أنّ بعضها فجئية، يتزامن، في الأثناء، مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية في الخريف المقبل مبدئيًا، والتي لم تضبط هيئة الانتخابات، التي عيّن الرئيس -للتذكير- أعضاءها، تاريخها إلى الآن. ولهذا تكتسي هذه الزيارات صبغة الحملات الانتخابية المبكرة، خاصة وأن الرئيس يبدو بيّنًا أنه منزعج من بعض الترشحات الرئاسية المنتظرة، على نحو أن بعضهم وجدوا أنفسهم اليوم ملاحقين قضائيًا.
أصبحت جولة الرئيس في شارع الحبيب بورقيبة نموذجًا لزياراته، إذ جرت العادة أن تجمع بين زيارة مقرّ وزارة الداخلية لمقابلة المسؤولين الأمنيين وتوجيه رسائل شتّى، وثم القيام بجولة في الحبيب بورقيبة والناس ملتفّون حوله. وهو يسعى للمزاوجة بين صورة الرئيس الذي يقود ويسود والذي يعطي الأوامر للأجهزة الأمنية، وصورة الحاكم الملتحم بشعبه خاصة لإظهار قدرته على التعبئة. والمعضلة أن هذه الزيارات مكرّرة في عناوينها ومضامينها، لم تعد في ذاتها إلا مجرّد حدث اتصالي لا أكثر. فكثرة الزيارات لا تحلّ الأزمات في نهاية المطاف، وهو الأمر الذي بدأ يتقيّنه الناس جيدًا.
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"