30-أغسطس-2022
الحديقة العمومية باب عليوة تونس العاصمة

تعيش الحدائق العمومية في تونس حالة "موت رمزي" بسبب التهميش والإهمال (رمزي العياري/ الترا تونس)

 

عندما تتجول الآن في البلاد التونسية من شمالها إلى جنوبها تنتبه إلى مسألة على درجة من الأهمية البيئية والخطورة الجمالية والذوقية والشاعرية، وهي أن أغلب الحدائق العمومية سواء بالعاصمة وضواحيها أو المدن الكبرى أو حتى الصغيرة منها بالمعتمديات والقرى البعيدة قد تحولت إلى خراب قاحل، فهي تبدو حزينة بعد أن كانت إلى حدود بداية الألفية مبهجة وتنهض بأدوارها العمرانية والحضارية.

 تبدو الحدائق العمومية الآن بلا أسيجة مزهرة وبلا أشجار يانعة وبلا نوافير جارية وبلا خضرة واردة على الروح. تبدو عليها مظاهر العطش والإهمال والتهميش والنسيان. حتى أنه إذا ما أقدمت البلاد على استقبال أشغال تظاهرة دولية ما على غرار القمة اليابانية – الإفريقية "تيكاد 8" الأخيرة أو قمة الفرنكوفونية نهاية هذه السنة تتحول عمليات إنقاذ الحدائق من عطشها إلى جهد استثنائي من قبل البلديات والوزارات ذات العلاقة.

تشكو آلاف الحدائق العمومية والمساحات الخضراء والمسالك البيئية الحضرية من الإهمال والتهميش، ولا يُلتفت إليها إلا عند استقبال البلاد أشغال تظاهرة دولية لتباشر الدولة عمليات إنقاذ الحدائق وتزويقها

لقد فقدت الحدائق العمومية التونسية خضرتها ونظارتها وجمالها وجاذبيتها وتمكن منها الذويان وجرفها الذبلان، فلا ورود يانعة تسر الناظرين ولا مساحات خضراء للتريض والسكينة ولا كراسي للجلوس والتأمل ولا إنارة ولا أسوار لائقة. بل أصبحت مكبات للفضلات والنفايات والاعتداءات المتنوعة، أحيانًا تصدر هذه الاعتداءات من قبل المسؤولين البلديين أنفسهم بتحويل بعض المناطق الخضراء وأجزاء من الحدائق إلى مقرات وبناءات. كما استحوذ بعض المواطنين على حدائق بأكملها وحولوها إلى أجزاء من حدائق عمومية فاقتطعوا منها بعض المساحات لتوسيع منازلهم وبناء الأكشاك حتى أن بعضها تحول إلى أرصفة وباحات للمقاهي المجاورة.

آلاف الحدائق العمومية والمساحات الخضراء والمسالك البيئية الحضرية التي تتبع مختلف البلديات والمؤسسات والمنشآت العمومية التونسية والمدرجة بأمثلة التهيئة العمرانية القديمة والجديدة، تتشابه في العطش والإهمال، وفي طريقة التعاطي معها من قبل المسؤولين والمواطنين على حدٍّ سواء، تتشابه في آفاق الاندثار إن لم يتحرك الوطن في اتجاه إنقاذ حدائقه العمومية ومساحاته الخضراء، إن لم تتحرك النخب والجمعيات والفلاسفة والشعراء والمهندسين على دروب الدفاع عن الحديقة العمومية كجزء لا يتجزأ من الفضاء العام ومن المعيش الحضري اليومي ومن الحياة المشتركة لأفراد المجتمع. 

استحوذ بعض المواطنين على حدائق بأكملها واستغلوا منها بعض المساحات لتوسيع منازلهم وبناء الأكشاك حتى أن بعضها تحول إلى أرصفة وباحات للمقاهي

ومن هنا تتبادر إلى الأذهان عدّة أسئلة محيّرة منها سؤالين أساسيين هما: "هل يريد التونسي أن يعيش في مدن بحدائق ميتة؟ لماذا هذا التخلي المادي والرّمزي عن الحديقة العمومية وهي الفضاء الذي يعبّر عن المشترك داخل المجتمع؟".

وللإجابة عن هذه الهواجس فيما يتعلق بوضعية الحدائق العمومية والفضاءات الخضراء، اتصل "الترا تونس" برئيس جمعية "من أجل تونس نظيفة" سامي بن يحيى الذي أكد منذ البداية أن "رصيد الحدائق العمومية التونسية في خطر منذ أكثر من 20 عامًا، وهو ما أوصلها إلى هذه الوضعية السيئة والكارثية"، مرجعًا ذلك إلى "غياب الاستراتيجيات الواضحة من قبل البلديات، فالحدائق والفضاءات الخضراء لا تتصدر جداول الأولويات أمام مشاكل النفايات ومياه الأمطار والمياه المستعملة والتنوير العمومي"، حسب تصوّره.

 وأكد سامي بن يحيى أن ترسانة القوانين والتشريعات التي تحمي رصيد الحدائق والفضاءات الخضراء بالمدن والتي نجدها بمجلات البيئة والفلاحة والجماعات المحلية والتعمير والتجهيز، جزء منها يبقى حبرًا على ورق إذ لا تجد سبيلها للتطبيق خاصة عندما تغيب اليد العاملة المختصة والأدوات والتجهيزات العصرية والأرصدة المالية الضرورية ضمن ميزانيات الوزارات المعنية والمؤسسات البلدية، وفق تقديره.

صورة
الحديقة العمومية بباب عليوة بتونس العاصمة (رمزي العياري/ الترا تونس)

 

 وأشار رئيس جمعية "من أجل تونس نظيفة" إلى أن عمليات نشر الوعي البيئي  تبقى ضعيفة في تونس رغم المجهودات الجبارة التي يقوم بها المجتمع المدني التونسي في هذا الخصوص، وفي اعتقاده  تبقى  المجهودات المبذولة من قبل مجتمع الناشطين والفاعلين البيئيين أحادية الجانب والتصور وبدون بوصلة ومن غير اتجاهات وأهداف واضحة يبدو عليها التشتت خاصة إذا كانت الشراكات التي تجمعها بالمؤسسات الرسمية غير ملزمة ولا تعدو أن تكون بروتوكولية فقط، وبالتالي فإنها  لا تثمر نتائج  حقيقية وملموسة سواء على المدى القريب أو البعيد، وفقه.

كما يرى أن عمليات نشر الوعي البيئي لدى أفراد المجتمع تبدأ فعلًا من المدرسة ومن العائلة، فالتربية على البيئة والدربة على صيانة المحيط والإسهام في العناية به تكون منذ الصغر أي في مرحلة زرع القيم، وفق تأكيده.     

رئيس جمعية "من أجل تونس نظيفة":  لا بدّ من إرادة سياسية عليا تكرس مفاهيم الوعي البيئي عبر برامج التعليم والإعلام والاتصال والتشبيك داخل منظومة المجتمع المدني المهتم بالمسألة البيئية في تونس ومزيد دعمه

وشدد سامي بن يحيى على أن المسألة البيئية في تونس هي مسألة حيوية وليست ثانوية كما يعتقد البعض وبالتالي لا بدّ من إرادة سياسية عليا تكرس مفاهيم الوعي البيئي عبر برامج التعليم والإعلام والاتصال والثقافة والتشبيك داخل منظومة المجتمع المدني المهتم بالمسألة البيئية في تونس ومزيد دعمه وفسح المجال أمامه، حسب تقديره.

صورة
رئيس جمعية "من أجل تونس نظيفة" يؤكد أهمية نشر الوعي البيئي في تونس (وزارة البيئة)

 

وأوضح رئيس جمعية "من أجل تونس نظيفة" أن "هذا الوعي البيئي الضروري قد يغيب أحيانا لدى الناشطين البيئيين أنفسهم ولدى الطبقة السياسية في تونس وهو ما أدى إلى الإهمال البيئي الذي نراه أمامنا اليوم، وما الوضعية السيئة للحدائق العمومية في تونس سوى عينة من وضع عام متسم بالرداءة"، وفق توصيفه.

وختم محدث "الترا تونس" بالقول إن "ما حدث للحدائق العمومية في هذه السنوات الأخيرة من إهمال تام هو إهانة بيئية في حق تونس وفي حق مواطنيها"، حسب رأيه.

صورة
حديقة عمومية بمنوبة تعاني من الإهمال (رمزي العياري/ الترا تونس)

 

ومن جهته، تحدث المختص في علم الاجتماع سفيان الفراحتي، في تصريح لـ"الترا تونس"، عن تاريخية علاقة التونسي بالحدائق، معتبرًا أن "التصميم العمراني للمدن العربية الإسلامية بالقيروان وحاضرة تونس وسوسة والمهدية وبنزرت والكاف وجربة، الذي آوى التونسيين لقرون عديدة والذي يسمى بالهندسة الدائرية أو التخطيط الدائري لا يولي أهمية للحدائق العمومية بل يصبح الجامع أو المسجد ضمن هذه التخطيط الدائري هو الفضاء العمومي الذي يلتقي فيه جميع سكان المدينة"، وفقه.

وتابع قائلًا: "حتى إن وجدت حدائق فهي في أفنية المنازل الفخمة ولا يقدر على إنشائها عامة الناس وتندرج ضمن سلوكيات الأثرياء، الأمر الذي خلق نوعًا من التقاليد والقيم الهندسية والجمالية المتأصلة لدى سكان المدن العربية القديمة والتي تختلف عن باقي المجتمعات الأخرى بأوروبا أو بآسيا أو بأمريكا"، حسب تصوره.

صورة
يرجع مختصون حالة الإهمال التي تعاني منها الحدائق إلى غياب استراتيجية تضعها كأولوية (وزارة البيئة)

 

وأضاف الفراحتي أن "ثقافة الحدائق العمومية على النمط الحالي وفدت مع الاستعمار الفرنسي ومع اعتماد التصميم الهندسي الشطرنجي في أمثلة التهيئة العمرانية والتخطيط للمدن العصرية الذي اقتضى أن تكون هناك حدائق عمومية مهمتها تلطيف العيش المشترك، لكن في جوهر التونسيين لا نجد مكانًا للحديقة العمومية فغالبية سكان المدن ليسوا مدينيين بل هم آفاقيين جبلوا على الريف والزراعة حيث الفلاة والمفازة والحقول والبساتين هي حدائقهم المثلى، وبالتالي فإن الحدائق على الشاكلة الحالية لا تعني لهم شيئًا حتى وإن دمرت أمام أعينهم، حسب رأيه.

مختص في علم الاجتماع: ثقافة الحدائق العمومية على النمط الحالي وفدت مع الاستعمار الفرنسي ومع اعتماد التصميم الهندسي الشطرنجي في أمثلة التهيئة العمرانية لكن في جوهر التونسيين لا نجد مكانًا للحديقة العمومية

وفسّر الفراحتى "الموت الرمزي للحدائق العمومية" بأنه "كناية وبلاغة عن انطفاء جذوة الأمل والمشي حثيثًا على ضفاف الفناء، إنها نوع من الاحتجاج العاطفي غير القصدي، فالتونسي اليوم يلهث وراء لقمة عيشه التي باتت صعبة المنال بعد الأزمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي ألمّت بالمجتمع التونسي في الآونة الأخيرة جراء الفشل السياسي المحلي أو المتغيرات الإقليمية والعالمية"، وفق تقديره.

وختم المختص في علم الاجتماع حديثه بالقول إن "التربية على فلسفة الحديقة العمومية حسب المفاهيم الإغريقية والرومانية تتطلب عقودًا من الزمن حتى يتم تأصيلها في جينات المجتمع التونسي" معتبرًا أن مؤسسة التعليم باعتبارها مؤسسة مجتمعية هي الكفيلة بتلك المهمة.

إن الحدائق العمومية التونسية التي طالها الإهمال وتحولت إلى فضاءات بشعة وطاردة وعائقًا أمام صناعة الذوق والتعايش الهادئ في ظلال المدين تتطلب  استراتيجية إنقاذ وطنية ووقفة من المجتمع كوحدة وككل، فالمدينة لا تكون مدينة إلا إذا صممت حدائقها بعناية وصففت الأزهار داخلها كأبيات الشعر.