20-سبتمبر-2021

صورة نادرة للحديقة خلال خمسينيات القرن العشرين

 

مع بداية الألفية وفي إحدى الصباحات الربيعية المشمسة من شهر ماي/ آيار 2001، كان البحر هادئًا على عتبات قصر قرطاج الرئاسي، دخل بن علي مكتبه الرئاسي الفسيح، أشعل سيجارة الصباح، تأمل عناوين الصحف الصادرة في ذاك اليوم، رنّ هاتف المكتب على غير العادة، رفع السماعة وكان في الجهة الأخرى مستشاره السياسي ليعلمه أن بعض الصحف الأوروبية كتبت عن إهمال وجلسات خمرية و"ممارسات غير أخلاقية" تحدث على مرأى من الناس في "حديقة الباساج"، وهي التي يعتبرها يهود أوروبا مربّع أجدادهم عندما كانت الحديقة مقبرة ليهود العاصمة تونس لأكثر من قرن من الزمن، ويعتقدون أن "ترابها عجن بأجساد أجدادهم وكان في يوم ما محجًّا مقدسًا لهم". 

انزعج بن علي لهذا الخبر فأشعل سيجارة ثانية و"أسدى تعليماته" بأن يسوى هذا الأمر بشكل عاجل، ليتبين فيما بعد أن سائحًا يهوديًا زار الحديقة ولاحظ الإهمال الذي تعرضت له فقام بالتصوير وهو من أعطى المعلومات لبعض الدوائر اليهودية الأوروبية، التي كانت سببًا في نشر المقال.

اقرأ/ي أيضًا: تجارة المخطوطات العبرية.. تاريخ يهود تونس المهرّب

لكن ما هي قصة حديقة الباساج أو حديقة الحبيب ثامر؟ وهل فعلاً هي تراث رمزي ليهود تونس؟ وكيف تحولت من مقبرة إلى حديقة عمومية؟ 


مع بداية الاستعمار الفرنسي لتونس في سنة 1881 وشروع الجاليات الأوروبية في التوافد على تونس، حصل توسع عمراني كبير خارج أسوار مدينة تونس العتيقة طيلة القرن التاسع عشر وهو ما يطلق عليه بالأحياء الأوروبية الجديدة مثل الحي الإيطالي والحي الإسباني والحي المالطي والأحياء الفرنسية.

اصطدم التوسع العمراني الكبير خارج أسوار تونس العتيقة، مع بداية الاستعمار الفرنسي، بوجود العديد من المقابر فتم التخطيط لإزالتها ومن بينها "المقبرة الإسرائيلية"

واصطدم هذا التوسع بوجود العديد من المقابر فتم التخطيط لإزالتها ومن بينها "المقبرة الإسرائيلية" وهي كبرى المدافن اليهودية وأقدمها ومساحتها لا تتجاوز 65 ألف متر مربّع وذات شكل رباعي الأضلاع وتنقسم بين اليهود التونسيين واليهود الأوروبيين الذين وفدوا مع الاستعمار الفرنسي ويعرفون بالّيفورنو. 

يهود تونسيون عند زيارة إحدى مقابرهم

 

لكن الطموح الفرنسي بالتوسع على حساب المقبرة لاقى صدًا كبيرًا من الجالية اليهودية بتونس وحتى حين امتلأت المقبرة ولم تعد مساحتها تكفي لدفن الموتى الجدد اقتنى اليهود أرضًا جديدة على تخوم حي لافيات وفي اتجاه الضاحية الشمالية، ذلك في سنة 1894، أما مساحتها فهي لا تتجاوز 13 هكتارا وسميّت "بمقبرة بورجل" نسبة لتسمية المنطقة الفلاحية والغابية التي توجد بها الأرض وشرع رسميًا في استغلالها كمقبرة سنة 1898 وإلى جانب اليهود التونسيين والأوروبيين، فسح فيها المجال "لليهود القرنة".

بقي يهود تونس يترددون على "المقبرة الإسرائيلية" القديمة التي يحدها شمالاً نهج الملاحة وجنوبًا شارع روسطان، الذي أصبح بعد الاستقلال يحمل اسم الحبيب ثامر

لكن بقي يهود تونس يترددون على "المقبرة الإسرائيلية" القديمة التي يحدها شمالاً نهج الملاحة وجنوبًا شارع روسطان، الذي أصبح بعد الاستقلال يحمل اسم شارع أحد رموز الحركة الوطنية وهو الدكتور الحبيب ثامر، يزورون مقابر موتاهم أسبوعيًا ويحجون حجًا سنويًا مقدسًا لمدافن الحاخامات على غرار مدفن إسحاق حي طيب وجوشوا بسيّس وإسحاق لمبروزو وغيرهم. 

وفي سنة 1911، قررت السلطات الاستعمارية الفرنسية أن تدفع للجالية اليهودية بتونس مبلغًا قدره 50 ألف فرنك فرنسي سنويًا مقابل الإبقاء على المقبرة الإسرائيلية القديمة واعتبار ذلك مقابلاً للخدمات البلدية واعتبر يهود تونس ذلك مناورة فرنسية للاستيلاء على المقبرة وتعطل القرار الفرنسي، لكن في 25 فيفري/ شباط 1948 وبشكل مفاجئ أعلن الرائد الرسمي التونسي (وهو الصحيفة الرسمية للدولة التونسية التي تصدر بها الأوامر والقرارات والتعيينات الرسمية)، طلب تسجيل المقبرة الإسرائيلية بدفتر خانة وذلك في إطار خطة بلدية يراد من خلالها تفكيك وإغلاق العديد من المقابر التي أصبحت موجودة في مناطق العمران وفي حال لم يتم التسجيل العقاري يصبح العقار ملكًا بلديًا، للبلدية الحق في التصرف بالإزالة وإعادة الإعمار.

ولاقت هذه القرارات غضبًا من الجالية اليهودية بتونس وصدًا رسميًا من رجال الدين اليهود.. وبقي حال ملف المقبرة يراوح مكانه إلى حين الاستقلال سنة 1956 وعندما تولى الزعيم الوطني علي بلهوان مشيخة مدينة تونس ورئاسة بلدية العاصمة اقترح على الجالية اليهودية تعويضات مقابل إزالة المقبرة وتكفل البلدية بنقل رفاة كل قبر إلى مقبرة بورجل لكن هذا الاقتراح قوبل بالرفض من قبل الجالية.

اقرأ/ي أيضًا: جورج عدّة.. اليهودي التونسي الذي واجه الاحتلال والصهيونية

حديقة الباساج خلال سنتها الأولى

 

ومع وفاة علي بلهوان سنة 1958 وحلول خلفه أحمد الزاوش على رأس البلدية تغير وضع ملف المقبرة، إذ قام الزاوش باستدعاء كبير الحاخامات ورئيس الجالية اليهودية بتونس شارل حداد دوباز وأعلن لهم رفض البلدية لأي تعويضات ممكنة وأي حلّ توافقي وسلمهم قرار المصادرة الرسمية لأرض المقبرة.

وفي اليوم الموالي مباشرة، داهمت جرّافات البلدية المقبرة وسط حضور شعبي واستنكار واسع من اليهود والمسلمين على حد السواء وأخرجت كل الجثث وتم وضعها في صناديق خاصة في انتظار دفنها مجددًا في مقبرة بورجل بما في ذلك مربّع الربّيين أو ما يسميه اليهود "بيت هاهيم" أو منزل الأحياء.

كما توجهت جرافات أخرى في نفس ذاك اليوم إلى حارة اليهود بالحفصية، قرب المدينة العتيقة، لإزالة ما اعتبرته البلدية بيوتًا آيلة للسقوط فتم جرف أنهج بأكملها وهدمت دور للعبادة وتم استثناء المعبد اليهودي الكبير من قبل مصلحة الآثار بالبلدية لكن في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني 1961، تم إزالته هو الآخر.

تم تحويل أرض المقبرة إلى حديقة عمومية غنّاء مليئة بالأزهار والأشجار وبها نافورة واسعة وكراس للجلوس وتم تسييجها بسور حديدي أخضر اللون

وفي نفس الشهر تم تحويل أرض المقبرة إلى حديقة عمومية غنّاء مليئة بالأزهار والأشجار وبها نافورة واسعة وكراس للجلوس وتم تسييجها بسور حديدي أخضر اللون. وتعرف الآن لدى عامة التونسيين بحديقة الباساج ورسميًا اسمها حديقة ثامر.     

وكان ذلك حدثًا عظيمًا وصادمًا ليهود تونس الذين اعتبروها قطيعة نهائية وطردًا تعسفيًا، فكان القرار الفوري الذي اتخذوه هو هجرة مئات العائلات اليهودية إلى فرنسا  وتلتها هجرات أخرى مما أضعف الحضور اليهودي بتونس وقلصه بشكل لافت.

اتهم بعض اليهود ابن ديانتهم "اندري باروش" وزير التعمير والإسكان في حكومة الحبيب بورقيبة بالخذلان تجاه القرار الذي اتخذته البلدية في حق مقبرتهم التاريخية

واتهم بعض اليهود ابن ديانتهم "اندري باروش" وزير التعمير والإسكان في حكومة الحبيب بورقيبة بالخذلان تجاه القرار الذي اتخذته البلدية في حق مقبرتهم التاريخية، وهو ما حدا برئيس مجلس الجالية "شارل حداد دوباز"  إلى كتابة كتاب سجل فيه كل وقائع تلك الحادثة متطرقًال إلى علاقة يهود تونس بالعرب المسلمين سمّاه  "يهود وعرب في بلاد بورقيبة"، كما اتهمت دولة الاستقلال برمتها "بالتآمر على التراث اليهودي بتونس". 

تلك الحادثة التي عاشها المجتمع التونسي أواسط القرن العشرين وما حف بها من ملابسات سياسية واجتماعية بقيت لها تداعيات إلى اليوم، إذ ما انفك يهود تونس في أوروبا أو بالأراضي الفلسطينية يتذكرون الحدث. كما أن إدارة الاحتلال الإسرائيلي، عبر قسم معاداة السامية بوزارة خارجيتها، ما انفكت تعد التقارير الخاصة بحديقة الباساج، المقبرة الإسرائيلية سابقًا أو غيرها من المقابر الأخرى الموجودة على طول البلاد التونسية، وتتابع ما يحدث داخلها وتوعز لسفرائها بالدول العظمى كي يمارسوا ضغوطهم على المسؤولين التونسيين حتى يتحركوا في اتجاه حماية التراث اليهودي بتونس وهو ما حدث مثلًا أثناء حكومة حمادي الجبالي عندما تم هدم بعض القبور بمقبرة اليهود بمدينة سوسة بالساحل التونسي.

         

اقرأ/ي أيضًا:

اليهود في الحياة السياسية التونسية.. حضور محتشم ومحاولات للتوظيف

جيلبار نقاش.. عندما يترجّل أحد رموز النضال في تونس