02-فبراير-2022

موقع "زاما" بسليانة يستحق المزيد من الصيانة والعناية ويستحق الاشتغال عليه أكثر فنيًّا ودعائيًا وإخراجه من دوائر التهميش

 

إذا ما توخينا قراءة نفسية متأنّية للوحة "زامة.. المعركة الأخيرة" التي أنجزها الرسّام  والحفّار الهولندي "كورنليس كورت" سنة 1567 والتي تعد مفخرة "متحف المتروبوليتان" بمدينة نيويورك بالولايات المتحدة الأمريكية وتُشاهد يوميًا من قبل آلاف الزّوار ويجلس أمامها تلامذة المدارس الأمريكية مع مدرّسيهم مستلهمين من همّة بطلها "حنبعل" وهو يدافع ببأس شديد سنة 202 قبل الميلاد عن آخر حصون  قرطاج بتلك السهول ذات الخصوبة الأبدية  لمنطقة "زاما ريجيا" أسفل سفوح جبل "مسّوج" وجبل "السّرج" بجهة سليانة حاليًا وتحديداً بين منطقتي "سبعة أبيار" و"سيدي عمر الجديدي"، نجد أنه الرسّام الهولندي كورنليس كورت يقدّم هزيمة جيش قرطاج بقيادة  حنبعل في شكل انتصار عظيم  لقائد كبير، فلا الموت موت ولا الهزيمة هزيمة. هي لوحة تشبه الموجة ولا تشبه الشاطىء، يتقبلها العقل كجمرة متوهجة بلا انطفاء. 

لوحة "زاما.. المعركة الأخيرة"

اقرأ/ي أيضًا:  بلاريجيا.. مدينة تاريخية تروي الأمجاد النوميدية

إن هذه "المحفورة" الفنية تمنحنا قوة المنهزم وتضيفها الى سجل انتصاراته التاريخية السابقة فهي تصوّر فيلة إفريقية مدرّعة، تتحرك في ساحة الوغى كقطع حربية، يركبها رماة عتاة من أبناء قرطاج الفينيقيين ومن تحالف معهم من قبائل. وفي أسفل اللوحة يبدو جيش القائد الروماني "سكيبيو الإفريقي" الذي انتصر في هذه الواقعة وأنهى أسطورة حنبعل في موقف ضعيف رغم زحف المشاة ورغم العضلات ورغم القتال. معادلة الفرشاة والفنّ هنا غير معادلة التاريخ.

لقد انحاز الرسام الهولندي في لوحته "زاما.. المعركة الأخيرة" إلى العقل والقوة والانتصار الدائم. لقد انحاز إلى التاريخ بالرغم من انبهاره بالحضارة الرومانية والانتقال خلال العشر السنوات الأخيرة من حياته إلى العيش بإيطاليا مقتفيًا خطى الأباطرة والقادة والفنانين والرجال الذين طبعوا تاريخ الإمبراطورية الرومانية فرسم وحفر بعض الأمجاد الحقيقية من وجهة نظره كفنّان.   

اللوحة التي خص بها الرسام  "كورت"  واقعة زاما الشهيرة لم تصور الخذلان الذي حصل للجيش القرطاجي بل قدمت جملة الأحاسيس الإنسانية الجياشة المتعلقة بالنصر والانتصار الرمزي، لقد قدّمت اللوحة روح ما حصل

اللوحة التي خص بها الرسام  "كورت"  واقعة زاما الشهيرة لم تصور الخذلان الذي حصل للجيش القرطاجي من قبل أبناء الأرض الأصليين من بربر ولوبيين وأمازيغ،  الحالمين بمملكة نوميديا الكبرى التي تمتد من "بلاريجيا" شرقاً وبرقة جنوبًا إلى حدود "مورطانية" غربًا، ولم تصور القائد حنبعل شريدًا تحت زياتين وكروم "مكتريس" أو "سيراس" أو "اللاّس".. بل قدمت جملة الأحاسيس الإنسانية الجياشة المتعلقة بالنصر والانتصار الرمزي، لقد قدّمت اللوحة روح ما حصل.

الموقع الأثري بزاما

 

اقرأ/ي أيضًا: أقدم القرى المأهولة في تونس.. "اللّاس" زهرة لا تبصر جمالها

هذا العمل الفني الفريد يدفع بأي متبصر تونسي إلى زيارة "زامة" والوقوف كشاعر جاهلي على طلل الحبيبة، ويدفع أي باحث إلى المبيت عند أقدامها لإخراجها من رماد النسيان ورفعها إلى أكوان النور، ويدفع أي سياسي إلى جعلها مشروعه في جهة سليانة، ويدفع أي شركة سياحية في الوطن تونس إلى جعلها وجهة عالمية أو لم ينم حنبعل تحت سمائها وشرب من مائها وأكل من كرومها وحلم بمجد الانتصار على روما وهو ينام بأحد البيوت القريبة من مخيم عسكره.  

وأنت تقف على عتبات الهضاب الجميلة أسفل جبل "مسّوج" قادماً من "مكتريس"، ثم تجول ببصرك في السهول الممتدة والفسيحة، سرعان ما تشعر برهبة المكان فلكأنّ الأسلاف لم يشقوا الغياب بعد ومازالوا يرتبون أمجادهم التليدة. 

تكاد تسمع دبيب حياتهم ووقع حوافر جيادهم وقرع نصال فرسانهم وضرب الأزاميل على صخر الرخام. تتقدم  قليلاً، متوغلًا في السهل الأخضر الشاسع فإذا "زامة" تتراءى كلمعة ثغر متبسّم، تتلألأ كنجمة قطبية على خدّ شفق ربيعي أو كنعناع برّي فوّاح  ينام على ضفاف واد بعيد. 

أفنى الباحث التونسي أحمد الفرجاوي عمرًا بأكمله في الموقع الأثري بزامة، لكن جهده لم يتم الاستثمار فيه، فقط هي وعود من المعهد الوطني للتراث بإنشاء متحف في المكان لكن دون جدوى 

تتقدم أكثر فأكثر فإذا أنت في الموقع الأثري بزامة، الذي أفنى الباحث التونسي أحمد الفرجاوي عمرًا بأكمله (من 1996 إلى 2011) وهو يسترجع ذاكرة أُعدّت للنسيان، لكن جهده لم يتم الاستثمار فيه لا علميًا ولا سياسيًا ولا ثقافيًا ولا سياحيًا، فقط هي وعود من المعهد الوطني للتراث بإنشاء متحف في المكان لكن دون جدوى وما أكثر التعلل بالورق والبيروقراطيات أمام التشبث بالمعنى الذي مازال يقاوم إلى اليوم أزهار التلاشي وترك تاريخ الوطن للإهمال والخذلان.

اقرأ/ي أيضًا: كسرى.. زهرة الصخور الفاتنة التي تشكو الإهمال

"زاما" وقبل سقوطها مستعمرة رومانية كانت منتجعاً ملكيًا ربيعيًا لآخر ملوك نوميديا الملك "يوبا الأول" الذي بنى  قصرًا فخمًا بشرفات نصف دائرية وصواري سكرية اللون نقشت من صخر رخام المكان. 

كانت العائلة الملكية تأتي بكامل بهرجها وجوقها للتريض والاستجمام والقنص والتمتع بأجود منتجات الكروم والبساتين، الملك "يوبا الأوّل" أغوته "زامة" إلى الأبد وقد أسرّ لمستشاره السياسي أنه سيجعلها عاصمة نوميديا في قادم الأيام.

"زاما" وقبل سقوطها مستعمرة رومانية كانت منتجعاً ملكيًا ربيعيًا لآخر ملوك نوميديا الملك "يوبا الأول"

في ربيع سنة 45 قبل الميلاد، كان الملك النوميدي يوبا يجلس بمفرده في شرفة قصره بزاما أمامه جرّة ماء نمير وآنية فخارية بزركشات أمازيغية بها مشكّلات من الفواكه والغلال، ينظر بانبهار إلى الغابات الداكنة الخضرة بأعالي جبل السّرج ويسرح خياله حالماً بالتوسع جنوبًا من أجل قوة  "نوميديا الكبرى"، عندما وفد عليه أحد مستشاريه يعلمه أن أخبارًا سيئة وصلت لتوها من روما مفادها أن الإمبراطور الروماني يوليوس قيصر قرر الدخول غربًا للاستيلاء على سائر أفريكا.

انزعج الملك يوبا وتلبّدت غيوم على وجهه المستدير، لكنه حافظ على هدوئه وقرر الاستعداد للحرب من أجل الدفاع عن حلمه وأرضه.  وفي واقعة "تابسوس" قرب الحدود الجزائرية وتحديدًا يوم 6 أفريل/نيسان من 46 قبل الميلاد، انهزم آخر الملوك النوميديين أمام الجيوش الرومانية وتم الاستيلاء على "زاما" وتمت رومنتها وتسميتها "نوفا أفريكا" ومن ثمة تحويلها إلى مستعمرة ولمواطنيها نفس الحقوق التي يتمتع بها سكان روما.

موقع "زاما" بسليانة الذي يحج إليه علماء الآثار الرومانية من شتى بقاع العالم والباحثين في شأن الخطط العسكرية، يستحق المزيد من الصيانة والعناية ويستحق الاشتغال عليه أكثر فنيًّا ودعائيًا وإخراجه من دوائر التهميش والنسيان      

موقع "زاما" بسليانة الذي يحج إليه علماء الآثار الرومانية من شتى بقاع العالم والباحثين في شأن الخطط العسكرية حتى يقفوا على الأرض التي وقف فوقها القائد حنبعل في مواجهة قادة جيوش روما وملوك نوميديا من سلالة ماسينيسا، يستحق المزيد من الصيانة والعناية ويستحق الاشتغال عليه أكثر فنيًّا ودعائيًا وإخراجه من دوائر التهميش والنسيان.       

 

اقرأ/ي أيضًا:

دواميس سوسة.. أسرار سراديب الموتى ورحلة البحث عن "الراعي الطيب"

رباط المنستير.. حصن دفاع ومزار عبادة وبوابة علم