"رجم تمساح في حديقة عمومية حتى الموت من قبل بعض زوار الحديقة"، هذا ما راج خلال اليومين الأخيرين في تونس وأحدث غضبًا شعبيًا واسعًا. وقد سبق هذه الضجة، نشر بلدية تونس، على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، صور تمساح، يظهر فيها رأسه ملطخًا بالدماء وإلى جانبه حجارة بحجم كبير.
يعتبر منتزه البلفيدير أقدم حديقة في تونس، تقع وسط العاصمة، تبلغ مساحتها 110 هكتارًا ويعود إحداثها إلى فترة الاستعمار الفرنسي
وأُدرج مع الصور تعليق جاء فيه: "تصرف وحشي من قبل مجموعة من زوار الحديقة التي قامت برشق تمساح بالحجارة على مستوى الرأس مما تسبب له في نزيف دموي داخلي، أدى إلى نفوقه على عين المكان". هذه الحادثة وإن كانت الأكثر انتشارًا حول الحديقة العمومية منذ سنوات نظرًا لخطورتها، إلا أنها ليست معزولة، فبالأمس أثار فيديو انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي أيضًا، يبين مجازفة عدد من الأطفال للركوب واللعب فوق ظهر حيوان الكركدن، جدلًا جديدًا واستفسارات عن حجم الإهمال الذي تعاني منه الحديقة.
اقرأ/ي أيضًا: بعض الأحياء الجزائرية.. النّفايات ليست قدرًا
في هذا السياق، يقول الدكتور عمر النيفر، مدير حفظ الصحة في بلدية تونس والمشرف لسنوات على حديقة الحيوانات في منتزه البلفيدير، لـ"الترا صوت": "تعتبر حادثة قتل التمساح من حيث الخطورة واستفزازها لمشاعر التونسيين من أسوأ ما حصل خلال السنوات الأخيرة، وهي ذات انعكاس سلبي مباشر ومثلت صدمة". ويستطرد: "لكن عديد الحوادث الأخرى كانت لها انعكاسات سيئة من نوع آخر كإلقاء الفضلات في الحديقة وخاصة البلاستيكية منها، وهو ما أثر على البيئة والمشهد العام ولكن أيضًا على الحيوانات التي تتناول أحياناً هذه القاذورات، وخاصة الحيوانات العاشبة، وتضر بصحتها بشكل ملحوظ".
ومنتزه البلفيدير، يعتبر أقدم حديقة عمومية في تونس، تقع وسط العاصمة، تبلغ مساحتها 110 هكتارًا ويعود إحداثها إلى فترة الاستعمار الفرنسي. تصنف كمنتزه حضري، والكساء النباتي فيها يقدر بحوالي 70 في المئة من مجموع المساحة، حسب أرقام موقع بلدية تونس الرسمي.
دشن المنتزه بصفة رسمية سنة 1910، وأشرف على تصميمه جوزيف دو لافوركاد، المهندس والأخصائي في تجميل الحدائق بباريس. ولا يزال منتزه البلفيدير إلى اليوم أكبر المنتزهات الحضرية وأهمها في البلاد، وأعتبر لسنوات طويلة المكان المفضل للنزهة والتجوال ولعب الأطفال بالنسبة لسكان العاصمة وأحوازها، قبل أن يتردى وضعه الجمالي والصحي وتظهر منتزهات أخرى، عمومية وخاصة، قلصت من دوره رغم تواصل الإقبال عليه خاصة في الأعياد والعطل المدرسية.
وأبرز ما يميز المنتزه الضخم حديقة الحيوانات داخله، وهي التي تأسست سنة 1963 تحت إشراف مهندسين ألمان، وفتحت أبوابها للعموم سنة 1966 وتقدر مساحتها ب 12 هكتارًا. توجد بها أنواع عديدة من الأشجار من صنوبر ونخيل وغيرها. كما تحتوي على عدة أصناف من الحيوانات والطيور خاصة. وثراء مخزون الحديقة النباتي أهلها ليطلق عليها سابقًا اسم "رئة مدينة تونس"، إلا أنها ومع تراجع مخزونها الحيواني والنباتي مع مرور السنوات، إضافة إلى انتهاج عدد من زوارها لسلوكيات سيئة على عديد الأصعدة ساهمت في تردي وضعها.
اقرأ/ي أيضًا: ماجوريل المغرب.. حديقة مراكش الساحرة
تعلق منيرة، ربة بيت أربعينية، لـ"الترا صوت": "كل شيء مهمل في الحديقة، إنها الفوضى، أرافق أبنائي خاصة في العطل، المكان مزدحم، تلويثه من قبل الزوار صار القاعدة، وحوادث اقتراب بعض الأطفال من الحيوانات تتكرر وتشكل خطرًا يوميًا". تشاطرها وسيلة، أستاذة في الخمسين من العمر، والتي تضيف لـ"الترا صوت": "أكثر ما يضايقني عند اصطحاب الأطفال في السابق هم المتطفلون غير المهتمين لا بالطبيعة ولا بالحيوانات ولا باللعب، بل تعتبر الحديقة بالنسبة لهم مكانًا للاختلاء وتعاطي بعض المخدرات مثلاً، وهو ما كنت أحرص أن لا يشاهده أطفالي خوفًا من التقليد".
ورغم تردي وضعها، لا يزال الإقبال على حديقة البلفيدير والمنتزه بشكل عام واسعًا، ويفسر الكثيرون ذلك بمعلوم الدخول البسيط والذي يكاد يكون مجانيًا مقارنة بفضاءات ترفيهية او منتزهات خاصة أخرى، لذلك طالما عرفت بـ"ملجأ الفقراء". وهي بذلك الحل الوحيد تقريبًا لمحدودي الدخل للحصول على جولة ترفيهية تمكنهم من اكتشاف بعض الحيوانات والتعرف على خصوصياتها، إضافة إلى استعمال عدد من الفضاءات المتوفرة للاستراحة والتغذية، على قلتها.
يُذكر أن النيابة الخصوصية في بلدية تونس قد خصصت 572 ألف دينار، حوالي 250 ألف دولار أمريكي، للاعتناء وصيانة حديقة الحيوانات بالبلفيدير سنة 2016، 74 في المئة منها مخصصة لتغذية الحيوانات والاعتناء بها. وقد تضاعفت الحصة المخصصة للحديقة من ميزانية بلدية تونس، بين سنتي 2012 و2016، لكنها تبقى محدودة حسب الكثيرين مقارنة بما تتطلبه الحديقة من تجهيزات لتكون في مستوى عالمي.
خصصت بلدية تونس حوالي 250 ألف دولار للاعتناء وصيانة حديقة الحيوانات بالبلفيدير سنة 2016 لكن الحديقة لا تزال تعاني إهمالًا واضحًا
وفي ظل ضعف الوعي بأهمية الحفاظ على بيئة الحديقة ومكوناتها من قبل جزء من الزوار، يقترح عمر النيفر، مدير حفظ الصحة في بلدية تونس والمشرف لسنوات على حديقة الحيوانات، خلال حديثه لـ"الترا صوت" ما يعتبره حلًا . ويقول: "للنهوض بوضع الحديقة لا يمكن مواصلة العمل بالطريقة الحالية والاقتصار على صيانة بسيطة، تأخذ عادة وقتًا طويلًا لقلة المتوفر من العملة، لابد من إعادة هيكلة للحديقة بشكل كامل حسب المقاييس العالمية".
ويوضح: "غلق الحديقة لسنة أو أكثر قد يمثل حلًا وخلال تلك الفترة يمكن درس المشاكل وفهمها وحلها، لتعود الحديقة بعد توفير الراحة لحيواناتها ونباتاتها وأيضًا للزوار، لكن الغلق لأيام قليلة يعتبر حلًا ظرفيًا لا يمكّن إلا من القيام بحملة نظافة واسعة ربما".
وجُهزت حديقة البلفيدير منذ عامين بـ16 كاميرا مراقبة، ثم منذ أشهر قليلة تمت إضافة 6 كاميرات أخرى. يذكر النيفر أنه تم تركيزها في أماكن محددة نظرًا لشساعة مساحة الحديقة في محاولة لتجنب السرقة أو إلحاق الخطر بالحيوانات فيها، ولا يتجاوز عدد حراس الحديقة ثلاثة حراس، ويستدرك: "لكن للأسف المكان الذي حصلت فيه الحادثة الخاصة بالتمساح لا توجد به كاميرا مراقبة".
تقرر غلق حديقة البلفيدير في تونس بعد حادثة قتل الزوار أحد التماسيح من أجل صيانة مستعجلة تشمل جميع أقسامها
أما رئيس بلديّة تونس سيف الله لصرم، فقد صرح لوسائل إعلام محلية أنهم اتخذوا قرارًا بتخفيف الأسلاك الحديدية بين الزوار وأقفاص الحيوانات منذ فترة لكن تبين أنّ القرار خاطئ، على حدّ تعبيره. وأكد لصرم أنّه "من الضروري اليوم الاستنجاد بأعوان من وزارة الداخلية وتوزيعهم على كامل مساحة الحديقة لفرض النظام وردع المخربين".
وجاء في بلاغ، نشر في ساعة متأخرة يوم أمس، صادر عن وزارة الشؤون المحلية والبيئة، اطلع "الترا صوت" على نسخة منه أن الوزير رياض المؤخر، قد قرر إثر حادثة تعرض التمساح بحديقة البلفيدير إلى الرشق بالحجارة على مستوى الرأس مما تسبب في موته، "مضاعفة أعوان الحراسة في الحديقة وتمكينها من 3 أعوان شرطة بيئية، يتم تسخيرهم من بلدية تونس وتكوينهم في إطار برنامج الشرطة البيئية وهو برنامج جديد من المتوقع البدء بالعمل به خلال الأشهر القليلة القادمة في تونس.
كما تقرر غلق الحديقة إثر انتهاء العطلة المدرسية، أي في غضون يومين، "للقيام بعمليات النظافة والصيانة المستعجلة وتركيز إجراءات التصرف في دخول وخروج الزوار حسب طاقة استيعاب الحديقة". ودعا ذات البلاغ إلى "منع إدخال الأكياس البلاستيكية إلى حديقة الحيوانات نظرًا لما تتسبب فيه من أضرار مباشرة للحيوانات والتصدي للبيع العشوائي أمام وداخل الحديقة ومراجعة طريقة عملها"، أخذا بعين الاعتبار سلامة وراحة الحيوانات. ومن المتوقع أن يعقد اجتماع بمقر وزارة الشؤون المحلية والبيئة لمزيد تدارس الحلول العملية لتحسين التصرف في "رئة العاصمة التونسية"، أملًا في انتشالها من إهمال طال لعقود.
اقرأ/ي أيضًا: