03-أغسطس-2019

كان أداء زياد الرحباني خاليًا من أي روح (أنيس ميلي/ أ ف ب)

 

غصّت مدارج مسرح الهواء الطلق بالحمامات، عشية الجمعة 2 أوت/ آب 2019، بجمهور غفير ضمّ شرائح متنوعة من المجتمع التونسي، من نساء ورجال، شباب وكهول، وبعض الأطفال، الذين قدموا غير عابئين بالحرّ الشديد الذي أثقل على نفوسهم، وهم في حالة انتظار جميل لنجم لم يعرف التاريخ الفني حالة فنية شبيهة له، ولم تشهد السير الذاتية لعمالقة الفن مسيرة كمسيرته، وموسيقي اختار التمرّد على السائد والمجتمع والدولة، ليترك أثره في أجيال متعاقبة تغنّت ولا تزال تتغنى بإبداعاته.

وفي حدود الساعة التاسعة والنصف مساء، أي قبل نصف ساعة من انطلاق العرض المرتقب، كان العثور على مكان للجلوس مهمة شبه مستحيلة، والمحادثات الجانبية التي كان يُسمع صداها من هنا أو هناك تتحدث بشوق عن النجم القادم، كيف لا والأمر يتعلق بانتظار الفنان زياد الرحباني، ذلك العبقري الذي قدم أول لحن لوالدته عام 1973، عندما كان في السابعة عشرة من العمر، لتكون أغنية "سألوني الناس" للأيقونة فيروز، باكورة سنوات طويلة من التعاون بين الأم وابنها أثمرت عن نجاحات باهرة من بينها، على سبيل الذكر لا الحصر، "البوسطة"، "كيفك أنت"، "عودك رنان"، "إيه في أمل"، "قديش كان في ناس"..

اقرأ/ي أيضًا: عدنان الشوّاشي في مهرجان قرطاج.. "رحلة فنان" تأبى النسيان

كان لزياد الرحباني الجالس أمام آلة البيانو حضور خاص، فهو إن لم يتحدث فقد ترك لأصابعه حرية الحديث على آلته

ولم تقتصر أعمال زياد الرحباني على التلحين، فكتب الشعر وأعمالًا مسرحية اختلفت بشكل كبير عن أسلوب الأخوين عاصي ومنصور الرحباني (والده وعمه)، فكانت أعماله المسرحية تطرح الواقع اليومي المعاش للمواطن واتخذت شكلًا سياسيًا واضحًا، وعالج من خلالها الرحباني عديد القضايا المجتمعية والسياسية بنبرة منتقدة تحمل بعضًا من السخرية السوداء، فكانت "بالنسبة لبكرا شو" و"فيلم أمريكي طويل" و"شي فاشل" و"بخصوص الكرامة والشعب العنيد" و"لولا فسحة الأمل".

لم تكد تمرّ نصف ساعة ليعلن صوت سيدة عن انطلاق عرض زياد الرحباني وسط هتافات الجمهور المتحمّس لملاقاة صاحب "أنا مش كافر" عبّرت عن تلهفهم لرؤية هذا العبقري على مسرح أحد أعرق المهرجانات لأول مرة في تونس. وحوالي الساعة العاشرة مساء، تقدّم زياد الرحباني فرقته وهو يسير على المسرح ليجلس مباشرة أمام البيانو الخاص به ويتخذ العازفون أمكنتهم وسط تصفيق الجمهور.

نظر الرحباني بهدوء إلى بقية العازفين آذنًا لهم بالانطلاق بالعزف دون أن ينبس ببنت شفة، لتُبعث من رحم الآلات الموسيقية التي جمعت بين العود والساكسفورن والدرام والقيتار ألحان أولى المقطوعات المخصصة للعرض. وفور انتهاء المعزوفة الأولى اكتفى الرحباني بالترحيب بجمهوره بعبارة "بونسوار.. بونسوار تونس".

كانت هذه العبارة الوحيدة التي وجهها زياد الرحباني إلى جمهوره الذي كان ينادي باسمه ويترقب مروره في السهرة الأولى التي يحييها في الحمامات، ضمن فعاليات الدورة 55 لمهرجان الحمامات الدولي، والذي يستضيفه ليومين متتاليين 2 و3 أوت/ آب الجاري).

عرض زياد الرحباني بالحمامات افتقر إلى لمسة من الجنون

كان لزياد الرحباني الجالس أمام آلة البيانو حضور خاص، فهو إن لم يتحدث فقد ترك لأصابعه حرية الحديث على آلته ولنظراته التي تتوجه مباشرة إلى عازفيه حال انتهاء معزوفة ما للمرور إلى أخرى لتنطلق الموسيقى في الفور دون أن يتخلّل العرض أي تشويش على البرنامج المحدّد له.

وعلى الرغم من أن الموسيقى في المقاطع المعزوفة كانت ممتعة وأعادت الجمهور لزمن الجاز الجميل الذي امتزج مع روح التجديد والإبداع التي لطالما ميّزت صاحب أغنية "بلا ولا شي"، وخلقت حالة من الانتشاء لدى محبي زياد الرحباني، إلا أن هذا الأخير بدا طيلة العرض كمن يقوم بعمل أُكره على فعله. لم يبتسم زياد طيلة الحفل ولم يتفاعل مع جمهوره الذي كثيرًا ما نادى باسمه أو طالب بهذه الأغنية أو تلك.

اقرأ/ي أيضًا: "بحيرة البجع" في افتتاح مهرجان قرطاج.. موسيقى ورقص في أرقى حالتهما

اقتصر ردّه على أحد الجماهير الذي طالب بأغنية "أنا مش كافر" بقول "يلا جاي" قبل أن ينهض فجأة من مقعده ويغادر المسرح بعد أقل من ساعة من انطلاق العرض لكي يأخذ استراحة صغيرة دامت حوالي الربع ساعة.

عرض زياد الرحباني الذي راوح بين المقطوعات الموسيقية المعزوفة، وبعض الأغنيات التي أداها ببراعة ومقدرات صوتية هائلة، العازف والفنان حازم شاهين، على غرار "اسمع يا رضا" و"أنا مش كافر" و"تلفن عياش" و"بما إنو" و"شو هالأيام"، كان سلسًا، فكانت الموسيقى الراقية التي تقطع مع ثقافة الاستهلاك السائدة والأغنيات التي تداولتها أجيال وجدت فيها مبادئ وأفكار عكست واقعها الصعب السياسي والاجتماعي بسخرية لطيفة ومستحبة، إلا أنه كان يفتقر إلى أمر ما لا يقلّ عن سلاسة الموسيقى وحسن أداء الفرقة التي يترأسها الرحباني. كانت هناك لمسة من الجنون التي انتظرها الجمهور ولكنه لم يجدها.

زياد حضر ولكن روح الرحباني أبت الظهور، فكان مروره بمسرح الحمامات جميلًا ولكن جليديًا

مما لا شك فيه أنه لم يكن من المتوقع أن يغني زياد الرحباني، فهو مؤد ولم يكن بيوم من الأيام مغنيًا، ومن شاهد جولاته الموسيقية يدرك أنه رصين فوق خشبة المسرح، إلا أن زياد الرحباني لم يلاق جمهوره التونسي باللهفة التي كان ينتظرها به هذا الأخير، واكتفى بتقديم عرض لا يترك معه أي مجال للشك في براعة الرحباني أو أفراد فرقته، وفي قدرته الدائمة على خلق ألحان جديدة ترتقي بالمستمع إليها إلى حالة من الانتشاء الموسيقي، أو سلاسة اللعب على أوتار الآلات، ولكنه في المقابل كان عرضًا خاليًا من روح "الرحابنة" التي يحملها زياد، ومن حالة التفرد والجنون التي يمثلها كحالة فنية نادرة يصعب العثور على مثيل لها.

وزياد الرحباني كان متعاليًا إلى درجة ما مع جمهوره إلى حدّ أنه لم يتفاعل ولو للحظة أو بمجرد كلمة أو حتى ابتسامة لجمهوره الذي أتاه متلهفًا، كما أنه أعلن نهاية الحفل قبل ربع ساعة من منتصف الليل، ولم يكلّف نفسه حتى عناء ذكر أسماء أعضاء فرقته حيث أوكلت المهمة إلى سيدة اعتلت الركح لتقدم أعضاء الفرقة.

زياد حضر ولكن روح الرحباني أبت الظهور، فكان مروره بمسرح الحمامات جميلًا ولكن جليديًا، مرور أشبه بمتابعة شخص يؤدي عمله على مضض، دون أي رغبة منه على أدائه، ويدفعه إلى القيام بالمهام التي أوكلت إليها وأرغم على تنفيذها، دوافع نجهلها.

 

اقرأ/ي أيضًا:

سمر بن عمارة.. العازفة التي أنّثت "الزُكرة"

في أدب السجون: قصائد عمّار منصور المهرّبة من السجن نموذجًا