كان مولانا جلال الدين الرومي عازفًا بارعًا للناي، وعاشقًا للموسيقى عشقًا لا حدود له، وقد قال قولته الشهيرة: "الموسيقى.. كلّ الموسيقى هي صرير باب الجنة عندما يفتح" في إشارة إلى سماوية المسألة درءًا لمطارق الفقه المتربصة به.
لكن كل من تابع عرض "بحيرة البجع" في افتتاح الدورة 55 لمهرجان قرطاج الدولي، الخميس 11 جويلية/يوليو 2019، يمكن له الذهاب أبعد مما ذهب شيخ المتصوفة، فالموسيقى لم تعد صريرًا جميلًا لبوابة الجنة بل تصبح هي لغة أهل الأرض والسماء بل هي أوتاد الكون والمراقي الحريرية التي تشد الحياة إلى تخوم العرش العظيم.
سمفونية "بحيرة البجع" التي لحنها الموسيقار الروسي بيترو إليتش تشايكوفسكي سنة 1887 جاءت ضمن سياق عام من الرومنطيقية المحلية والمخصوصة التي تشهدها عاصمة قياصرة روسيا "سانت بيترسبورغ" المحفوفة بأبدية الثلج والبحيرات الغابية، لتكون بذلك ومن دون تخطيط، أعظم حدث موسيقي في القرن التاسع عشر.
سمفونية "بحيرة البجع" لحنها الموسيقار الروسي بيترو إليتش تشايكوفسكي سنة 1887
شاهد التونسيون هذا العرض سابقًا في عرض تاريخي لمسرح "البولشوي" بموسكو بالمسرح البلدي بالعاصمة تونس قبل الثورة بسنوات، غير أن عرض افتتاح مهرجان قرطاج الدولي بالمسرح الروماني تكمن خصوصيته في أن هذه النسخة تأتي من مسرح "أوبرا سانت بيترسبورغ"، المنبت الأول لهذه التحفة اللحنية والمسرحية الخالدة.
وهو مسرح يعتبر نفسه وريثًا شرعيًا لرمزية ما خلف تشايكوفسكي من مؤلفات طويلة وسمفونيات وكنشورتوات وألحان، لذلك نجده يجتهد اجتهادًا استثنائيًا في تقديم عروضه سواء داخل روسيا أو خارجها، وهو ما لمسه فعلًا الجمهور التونسي الذي تنقل بالآلاف والجلوس لمدة ساعتين ونصف لمتابعة نسخة أخرى من "بحيرة البجع".
سمفونية "بحيرة البجع" التي لحنها الموسيقار الروسي تشايكوفسكي سنة 1887 جاءت ضمن سياق عام من الرومنطيقية المحلية في عاصمة قياصرة روسيا "سانت بيترسبورغ" المحفوفة بأبدية الثلج والبحيرات الغابية
اقرأ/ي أيضًا: الدورة الثانية لأيّام قرطاج الكوريغرافية.. عن علاقة الجسد بالذاكرة والحرية
ولمن لا يعرف "بحيرة البجع"، هي قصة سردية يطغى عليها التخييل الشعري والأسطوري، تروي أن الأمير "سيغفرايد " ويوم عيد ميلاده الواحد والعشرين أراد الاحتفال مع أصدقائه بعيدًا عن القصر الملكي حيث حفل راقص تعده والدته بعناية لاختيار زوجة المستقبل. يبطئ الأمير الحضور ويظل يشرب الأنخاب في إحدى الغابات المجاورة ليجد نفسه أمام بحيرة مقمرة مليئة بالبجع، وفجأة تتحول أكبر البجعات إلى أميرة ذات جمال آسر وفاتن، ويسعى الأمير المأخوذ بما حدث أمامه إلى الرقص مع الأميرة البجعة والتعبير لها عن حبه المفاجئ.
ولكنها تبوح له بأن اسمها هو "أوديت"، وأنها أسيرة أحد السحرة الذي حولها منذ مدّة إلى بجعة انتقامًا من والدتها وأن ماء البحيرة تشكل من دموع والدتها التي ظلت تبكيها لسنوات، وأنها ستظل ملعونة مدى الحياة عدا الفترة الفاصلة بين منتصف كل ليلة وطلوع الفجر. فيقسم "سيغفرايد" على إنقاذ "أوديت"، ويتحدى الساحر ويفك لعنتها ويخلصها وهو فعلًا ما حدث لينتصر الحب في نهاية المطاف. وقد حوّل "تشايكوفسكي" هذه القصة إلى موسيقى، في نهاية القرن التاسع عشر، وصمم رقصاتها في ذلك الوقت يوليوس وينستل ريسنغر.
يتكون العرض من أربعة فصول راقصة ومتماسكة تترجم روح القصة مع المحافظة على شاعريتها وإغراءاتها الأسطورية والفوق خيالية وعدم إغراقها في الموسيقى
وأن تقرأ القصة بتفاصيلها وزخمها الأدبي والأسطوري والتاريخي، ثم تتفيأ لك مكانًا على مدرج المسرح الروماني بقرطاج، ستكون في مخيلتك سطوة وزحمة تاريخ الحروب القرطاجنية الرومانية مستحضرًا قصة بناء هذا المسرح العظيم حين مشاهدة تجسيد القصة على الركح. إنها قصة "الأنوثة في أرقى حالاتها"، كما كان أول توصيف لتشايكوفسكي بعد أول عرض لبحيرة البجع منذ أكثر من قرن من الزمن.
العرض يتكون من أربعة فصول راقصة ومتماسكة تترجم روح القصة مع المحافظة على شاعريتها وإغراءاتها الأسطورية والفوق خيالية وعدم إغراقها في الموسيقى. وكانت الإضاءة جزءًا من الجهد، فهي ترقص مع الراقصين وتسهم في التسريد وحمل خيال المتفرج على ما تريد الموسيقى الوصول اليه، هي توليفة صعبة قام بها مسرح أوبرا سانت بيترسبورغ من أجل فرجة راقية.
اقرأ/ي أيضًا: المهرجان العربي للموسيقى الملتزمة.. إحياء لذاكرة الفن البديل وتشبّث بالحرية
الراقصات اليانعات الشبيهات بالبجعات والفراشات يتنقّلن على الركح القرطاجي في انسجام، يتحركن على الأنغام التشايكوفسكية بحرفية وقدرات أجساد يبدو جليًا أنها تدربت طويلًا وعميقًا على فلسفة الانسجام والتماهي مع الموسيقى، أو ما يسميه مولانا جلال الدين الرومي بـ"انسجام الحياة مع فراغات الناي أثناء العزف". راقصات بحيرة البجع يركبن الأوتار والنفخات بدقة لا متناهية لا يشوبها خطأ أو انحراف باستثناء سقطة عفوية ولا إرادية لإحدى الراقصات.
قصة الأمير الباحث المثابر من أجل بجعته النقية هي شأن الإنسان أينما كان في رحلته القاسية بحثًا عن الحب، وهي تذكرنا بالشاعر الجاهلي في الحضارة العربية الذي يقطع المسافات في رحلة عجيبة للبحث عن الحب المفقود.
يتكوّن العرض من 4 فصول راقصة تترجم القصة الأسطورية
عرض "بحيرة البجع" الذي يعد من كلاسيكيات الموسيقى والرقص، كان فرصة جمالية منحها مهرجان قرطاج الدولي في نسخة 2019 للجمهور التونسي العريض حتى ينمي قدراته الذوقية والفكرية. كما يمكن اعتباره فرصة للكوريغرافيين والموسيقيين والمهنيين التونسيين للاستلهام من هذا الدرس الفريد.
عرض "بحيرة البجع" لمسرح أوبرا سانت بيترسبورغ بمهرجان قرطاج نفّذه فريق يتكون من 40 عنصرًا بين راقصين وكوريغرافيين وفنيين، وهو فريق ربّما لا يرقى عدده إلى تنفيذ عمل كبير وضخم مثل "بحيرة البجع" ذي الشهرة العالمية خاصة مع غياب الفرقة الموسيقية المرافقة حيث كانت موسيقى مسجلة.
مختار الرصاع (مدير مهرجان قرطاج الدولي): عرض "بحيرة البجع" سيبقى منقوشًا في ذاكرة المهرجان لأهميته الجمالية ولعالميته
في الأثناء وفي تصريح خاص بـ"ألترا تونس" بخصوص هذه النقطة الفنية، أوضح مدير الدورة الحالية للمهرجان مختار الرصاع أن المسألة يمكن تنزيلها بين طموح المهرجان ورغبته الملحة في استقدام هذا العرض الهام وتعزيز رصيده التاريخي من العروض العالمية من جهة، والضغط على المصاريف ضمن تمشي ترشيد المصاريف من جهة أخرى.
وأضاف محدثنا أن تونس ليس لديها فرقة سمفونية يمكن لها تأمين دقة موسيقى تشايكوفسكي لذلك كان الاتفاق على الموسيقى المسجلة، خاتمًا بأن عرض "بحيرة البجع" سيبقى منقوشًا في ذاكرة المهرجان لأهميته الجمالية ولعالميته.
مهرجان قرطاج الدولي في حفل افتتاح دورته الخامسة والخمسين كان وفيًا لتاريخه ومبادئه بمده لجسر يربط التونسيين بالثقافات والفنون الانسانية العريقة، فيما يظل عرض "بحيرة البجع" ومنذ عرضها الأول بمسرح "البولشوي" بموسكو محل جدل إيجابي إلى اليوم على المستوي الموسيقي ولكن أيضًا على المستويين الفكري والحضاري.
اقرأ/ي أيضًا: