إنّ الحسينيين الذين أطاحوا بالدولة المرادية ذات خريف على تخوم جبال الكاف وحَكم عرشهم المملكة التونسية وسيّر دواليبها من 1707 م إلى حدود إعلان الجمهورية سنة 1957 م، يبدو أن حكمهم الموغل في الزمن، حافل بالقصص والحكايا السياسية والاجتماعية والثقافية والشخصية المثيرة والغريبة والطريفة. حكايا مليئة بالوحشة والأنيس، فيها البطولة ومشبعة بالخسارات، تثقب أسوار الحصار لتخرج للعلن، حكايا خضعت لقانون الضرورة والمستحيل، فيها القوة الهائلة وعوالم الانخطاف والنشوة والغيبوبة.
من هذه الحكايات ما قيل وذُكر ودُوّن وحوته الكتب والمصنفات التاريخية المتداولة، ومنها ما لم يُقل بعد وبقي طيّ النسيان والكتمان والإهمال، ومنها ما أخضع للبحوث والدراسات العلمية بالجامعة ومخابر البحث في العلوم الإنسانية، ونزر قليل منها تم تمريره في البرامج المدرسية وأقصي الجانب الأوفر من ذاك التاريخ عمدًا زمن دولة الاستقلال اعتقادًا بأن الحديث عن سير البايات الحسينيين قد يذكّر الناس في الحكم الملكي ويجعلهم يحنون إليه.
وصلت إلى تونس قطعة فنية نادرة وهامة على المستوى التاريخي والسياسي من الولايات المتحدة الأمريكية، تتمثل في بورتريه فخم ومهيب للمشير محمد الصادق باي واقفًا بإحدى قاعات القصر السعيد
ومن القصص المغمورة التي طفت هذه الأيام على سطح الأحداث الثقافية والسياسية وحملت الأقلام والألسن المختصة على الحديث مجددًا عن وجه من وجوه التاريخ الحسيني، هو وصول قطعة فنية نادرة وهامة على المستوى التاريخي والسياسي من الولايات المتحدة الأمريكية إلى تونس وتتمثل القطعة الفنية في لوحة زيتية تصوّر بورتريه فخمًا ومهيبًا للمشير محمد الصادق باي واقفًا بإحدى قاعات القصر السعيد.
فما قصة هذه اللوحة؟ وما سر عودتها من الولايات المتحدة الأمريكية إلى تونس؟
-
السياق التاريخي وصاحب اللوحة
المشير محمد الصادق باي (1813م - 1882 م) هو الباي الثاني عشر للعرش الحسيني، وقد عرف حكمه الذي انطلق سنة 1859 م إلى حدود وفاته عدّة أطوار كان أغلبها مصيريًا بالنسبة للبلاد ومُحدِدًا لمسارات تاريخها السياسي والاجتماعي إلى اليوم. ففي عهده صدر أول دستور تونسي وعربي يوم 26 أفريل/نيسان 1861م وهو ينص في مجمله على تنظيم الحياة السياسية بالفصل بين السّلط الثلاث والحد من سلطة الباي نفسه، وقد مهد لهذا الدستور الفريد حدثٌ تاريخي سابق عُدّ هو الآخر على أهميّة كبرى زمن حكم "محمد باي" وتمثل في صدور وثيقة "عهد الأمان" يوم 9 سبتمبر/أيلول 1857 م.
كما أنشأ "محمد الصادق باي" سنة 1860 م "المطبعة الرسمية التونسية" التي طبعت أول صحيفة رسمية بالبلاد تحت عنوان "الرائد التونسي" وكان أول مدير لها شخصية مقربة من الباي هو "الجنرال حسين" وهذه الصحيفة مازالت تديرها الدولة التونسية وتصدر عن نفس المطبعة إلى اليوم وتسمى "الرائد الرسمي التونسي".
المشير محمد الصادق باي (1813م - 1882 م) هو الباي الثاني عشر للعرش الحسيني، وقد عرف حكمه الذي انطلق سنة 1859 م إلى حدود وفاته عدّة أطوار كان أغلبها مصيريًا بالنسبة للبلاد
وكان "محمد الصادق باي" مهتمًا شديد الاهتمام بإرساء دبلوماسية ملكية جذابة وطموحة على غرار ما تقوم به الدول الأوروبية، فمنذ توليه الحكم في تونس، أبقى على "جوزيف راف" ذي الأصول الإيطالية كمستشار له للشؤون الدبلوماسية وهو وزير سابق للخارجية لدى أحمد باي وعضو المجلس الكبير (مجلس يشبه مجلس الشيوخ) فخطط معه لإستراتيجية مميزة للعلاقات الخارجية التونسية.
ومن إنجازاته في هذا المجال هو حسن التواصل مع السفراء والقناصل الأجانب المعتمدين لدى المملكة التونسية، حيث مكّنهم من مقرات لائقة تشبه القصور داخل مدينة تونس أغلبها مازال موجود إلى اليوم، وكان يستقبلهم باستمرار بقصر الحكم بباردو بحضور مترجمين انتُدبوا خصّيصًا للعمل بالقصر ويستمع إليهم وينفذ معهم المشاريع المقترحة ذات المصالح المشتركة، كما كان يوفد ممثلين دبلوماسيين في العديد من المناسبات والتظاهرات الإقليمية والدولية الهامة وذلك من أجل توطيد العلاقات مع الدول ورعاية للمصالح التونسية التي تقوم أساسًا على التبادل التجاري والتحالف الحربي حماية لمسالك التجارة البرية والبحرية.
ومن الأحداث التاريخية التي شهدها عهد محمد الصادق باي هو توقيعه معاهدة باردو أو بالأحرى معاهدة القصر السعيد يوم 12 ماي/أيار 1881 م مع الحكومة الفرنسية والتي أدت إلى نظام حماية تطور إلى استعمار مباشر ومروّع، لم تتخلص منه تونس إلا يوم 20 مارس/آذار 1956 م.
-
ولع محمد الصادق باي بالرسم
وفي لحظات استقرار حكمه، كان الصادق باي شغوفًا ولوعًا بفنون الرسم حيث كان يستقدم الرسامين من أوروبا ليقضّوا الأشهر الطويلة يترددون بين قصور حكمه بباردو والقصر السعيد ومنوبة والمرسى وحمام الأنف والقصبة.. يرسمون بورتريهات للباي وعائلته وحاشيته من وزراء ومستشارين، كما كانوا يوثّقون لأحداث كبرى عاشتها المملكة أو عاشها الباي خلال تنقلاته في الداخل والخارج.
كان الصادق باي شغوفًا بفنون الرسم حيث كان يستقدم الرسامين من أوروبا ليرسموا بورتريهات للباي وعائلته وحاشيته ويوثّقون لأحداث كبرى عاشتها المملكة أو عاشها الباي خلال تنقلاته
وقد ورثت دولة الاستقلال أغلب هذه الأعمال التي وجدت بالقصور والأبراج ودور الأمراء وتحولت بذلك إلى مجموعة فنية هامة أغلبها من جنس البورتريه منها ما بقي في مكانه (قصر القصبة وقصر قرطاج) ومنها ما حُمل إلى المتاحف (متحف باردو والمتحف الوطني العسكري) أما أغلبها فقد دفن في مخازن القصر السعيد لعقود من الزمن ولم يتم استغلالها الاستغلال الكافي. وهذه الأعمال النادرة حمل أغلبها تواقيع رساميها ومن هؤلاء المشاهير الذين ترددوا على بلاط الصادق باي نذكر كل من: أوغيست موني ولويس سميل والكسندر ديبال.. ومن الرسامين التونسيين نجد الهادي الخياشي (الرسام الرسمي للعائلة الحسينية) وأحمد عصمان..
ومن الأحداث الخالدة التي عاشتها تونس في ذلك الزمن وأبقت عليها فراشي هؤلاء الرسامين المشاهير، نجد لوحة تؤرخ لحفل إعلان أول دستور تونسي سنة 1861 م من قبل محمد الصادق باي، وأخرى تصور لقاء الصادق باي بنابليون الثالث ملك فرنسا سنة 1860 م بالجزائر، ولوحة أخرى توثق لاستقبال الملك البلجيكي ليوبولد الأول لمبعوث الصادق باي سنة 1861 م ولوحة توثق لثورة علي بن غذاهم على الباي سنة 1864 م ولوحات أخرى تقطف مشاهد من "المحلة" (زيارات جمع المجبى) وبورتريهات لوزراء ومستشارين مثل مصطفى خزندار ومصطفى بن إسماعيل.. وغيرهم.
-
اللوحة التي سافرت إلى أمريكا
أواسط سنة 1859م استقدم المشير محمد الصادق باي الرسام الفرنسي "لويس سميل" من أجل رسم بورتريه جديد له، فقضّى الرسام أسابيع وساعات طويلة يرسم الباي واقفًا بكامل فخامته ونياشينه بإحدى القاعات الفسيحة بالطابق الأول بالقصر السعيد بباردو، وبعد أن جهزت اللوحة الزيتية ذات الحجم الكبير ونالت إعجاب الباي وإعجاب حاشيته واختار لها جدارها المثالي بالقصر لتبقى معلقة في مكانها إلى حدود بداية النصف الثاني من سنة 1865 م وهو التاريخ الذي اهتز له العالم بأسره في ذلك الوقت، فقد تم اغتيال رئيس الولايات المتحدة السادس عشر "أبراهام لينكولن" يوم 14 أفريل/نيسان 1865م عندما كان يشاهد مسرحية "قريبنا الأمريكي" في مسرح "فورد"، فيما يشبه الاحتفال بوشك نهاية الحرب الأهلية الأمريكية.
أرسل الصادق باي وفدًا ديبلوماسيًا رفيع المستوى إلى واشنطن لتقديم التعازي في اغتيال الرئيس لينكولن كما بعث أيضًا بالبورتريه الخاص به الذي رسمه له الرسام الفرنسي "لويس سميل"
وبما أن تونس تربطها علاقة متينة بالولايات المتحدة الأمريكية متوّجة بمعاهدة صداقة وسلام ممضاة بينهما في 28 أوت/أغسطس من سنة 1797 م قرّر محمد الصادق باي إرسال وفد ديبلوماسي رفيع المستوى إلى واشنطن لتقديم التعازي في اغتيال الرئيس لينكولن وفي نفس الوقت تقديم التهاني والتضامن والتآزر بمناسبة انتهاء الحرب الأهلية والجنوح إلى السلم. ومن جملة الهدايا التي أرسلها إلى أمريكا ذاك البورتريه الخاص به والذي رسمه لويس سميل، وقد نالت الإعجاب الأمريكي وتمت المحافظة عليه وجعلت ضمن الرصيد الفني الخاص بوزارة الخارجية الأمريكية.
-
اللوحة توشّي أكبر قاعة استقبال بمقر وزارة الخارجية الأمريكية
يوم غرّة جويلية/يوليو 2016، نُقلت لوحة الصادق باي إلى قاعة "بنجامين فرانكلين" (وهو من الآباء المؤسسين لدولة الولايات المتحدة الأمريكية) بالطابق الثامن بمقر وزارة الخارجية الأمريكية بواشنطن وهي أكبر غرفة استقبال يتم استخدامها في حفلات العشاء الدولية، وفي ذلك إكبار لتونس على اعتبار أن الصادق باي كان من الحكام القلائل الذين اعترفوا بالولايات المتحدة الأمريكية بعد نهاية الحرب الأهلية وعُدّ أيضًا صديقًا قويًا لمستقبل مشترك.
بعد ما يقارب القرنين من الزمن وبقرار سياسي رفيع اتخذته الولايات المتحدة الأمريكية، يعود البورتريه الثمين للصادق باي إلى تونس ليستقرّ بمقر إقامة السفير الأمريكي بالبلاد
-
اللوحة تعود إلى تونس
بعد ما يقارب القرنين من الزمن وبقرار سياسي رفيع اتخذته دولة الولايات المتحدة الأمريكية، تعود اللوحة الفنية الثمينة التي تصوّر المشير محمد الصادق باي إلى موطنها الأصلي تونس لكن لتستقرّ بمقر إقامة سفير الولايات المتحدة الأمريكية بتونس وذلك بمناسبة ذكرى العلاقات الوطيدة بين البلدين.
الأسئلة التي تقفز إلى الأذهان بخصوص هذا الحدث الثقافي هو: هل هذه العودة هي ظرفية أم نهائية؟ وهل سيعود بورتريه محمد الصادق باي إلى الولايات المتحدة الأمريكية مرة أخرى؟ ومتى؟ وكيف السبيل إلى زيارة المختصين وعامة الناس من أجل مشاهدة هذا العمل الفني والتمتع بجماله؟ وحتى إن كانت زيارة اللوحة حينية، فلمَ لَم تذهب إلى "المتحف الوطني بباردو" حتى يكون الحدث أوسع والعمل متاحًا بين عامة التونسيين؟