لا تُغلق المتاحف عادة أبوابها لسنوات طويلة إلا في حالات الحروب والكوارث الطبيعية المدمرة.. لكن المتحف الوطني بباردو -الذي تم إنشاؤه بمقتضى مرسوم ملكي بتاريخ 7 نوفمبر/ تشرين الثاني 1882 منح بمقتضاه "علي باي" الثالث جزءًا من قصر الحكم ليصبح متحفًا وقام بتدشينه بنفسه في 7 ماي/ أيار 1888- أغلق أبوابه في وجه زائريه فجئيًا منذ الحدث السياسي الشهير المتمثل في حلّ البرلمان التونسي بتاريخ 25 جويلية/ يوليو 2021 وقد شملت التدابير الأمنية التي نفذت منذ ذلك التاريخ متحف باردو وذلك لوجود المؤسستين (البرلمان والمتحف) في فضاء تراثي واحد وهو قصر الحكم بباردو في الفترة الحسينية، كما شملت أيضًا كل الطرق المؤدية إليه.
تعالت أصوات المثقفين التونسيين من مختلف مشاربهم العلمية والإيديولوجية منادية بإعادة فتح المتحف أمام زواره، لكن كل ذلك قوبل بصمت الجهات الرسمية طيلة أشهر
- غلق متحف باردو عُدّ مسًّا صارخًا بحق التونسيين في الثقافة
وقد اعتُبر الغلق مسًّا صارخًا بحق التونسيين في الثقافة، كما تعالت أصوات المثقفين التونسيين من مختلف مشاربهم العلمية والإيديولوجية والمجتمع المدني المهتم بالحقوق والحريات والشأن الثقافي على وجه الخصوص منادية بإعادة فتح المتحف أمام زواره.. لكن كل ذلك قوبل بصمت الجهات الرسمية طيلة أشهر وعلى رأسها وزارة الثقافة التونسية وإدارة المتاحف بمؤسسة المعهد الوطني للتراث وإدارة إحياء التراث والتنمية الثقافية.
بعد مضيّ كل ذلك الوقت، وتزايد وتيرة القلق أمام ما يحدث، فتح باب التأويل على مصراعيه بخصوص وضعية المتحف، حيث تم الترويج لعدة فرضيات منها الغلق النهائي للمتحف وإلحاق كامل فضاءاته بمصالح البرلمان، وأيضًا تم تداول فكرة الفصل النهائي بين المتحف والبرلمان وذلك بناء على تصريح صحفي للأستاذ الباحث فوزي محفوظ المدير العام الأسبق للمعهد الوطني للتراث.
وقد أصدرت وزارة الشؤون الثقافية مع نهاية شهر أوت/ أغسطس وبداية شهر سبتمبر/ أيلول 2023 سلسلة من البلاغات الإخبارية والتوضيحية بخصوص المتحف ملخصها أن الغلق لا علاقة له بالبرلمان وبما حدث بخصوصه وإنما كان الغلق للصيانة والتحديث ومزيد العصرنة حتى يصبح على طراز المتاحف العالمية، وحُدّد تاريخ 14 سبتمبر/ أيلول 2023 كموعد رسمي لإعادة فتح المتحف.
- أبرز التغييرات التي عرفها متحف باردو بعد فترة الغلق
"الترا تونس" واكب يوم إعادة فتح المتحف رسميًا والذي حضره عدد من الصحفيين التونسيين وممثلي الصحافة الأجنبية بتونس وبعض الرسميين والجامعين والفنانين كما استقبل المتحف في اليوم ذاته وفودًا عديدة من السياح الأجانب وبعض الرحلات المدرسية المنظمة.. هذا ووضعت إدارة المتحف عددًا من محافظي التراث على ذمة الصحفيين ليكونوا أدلّاء لهم داخل قاعات وأروقة المتحف وإطلاعهم على كل المستجدات طيلة فترة الغلق.
أشغال صيانة واضحة لكل قاعات متحف باردو، شملت النظافة وإعادة الطلاء وصيانة الأسقف القديمة وإعادة انتشار مجموعات التحف والتماثيل
وإلى جانب أشغال الصيانة الواضحة لكل قاعات المتحف التي شملت النظافة وإعادة الطلاء وصيانة الأسقف القديمة وإعادة انتشار مجموعات التحف والتماثيل، فإن الجديد الذي يلاحظه الزائر منذ ولوجه للبهو الكبير، يتمثل في اللوحة الفسيفسائية الضخمة لجزر ومدن البحر الأبيض المتوسط التي عثر عليها صدفة سنة 1995 بالموقع الأثري بحيدرة من ولاية القصرين على إثر أمطار غزيرة تهاطلت على المنطقة، وهي لوحة نادرة تم ترميمها مع شركاء ومتاحف عالمية ولم تعرض إلا في مناسبات قليلة من بينها سلسلة معارض وقع تنظيمها بتسع مدن يابانية بين سنتي 2009 و2010، كما زارت اللوحة ذاتها مدينة آرل الفرنسية سنة 2018 عقب إخضاعها لترميم في الورشة التابعة لمتحف المدينة، وأخيرًا بمتحف حضارات أوروبا والمتوسط بمدينة مرسيليا الفرنسية سنة 2019 لتستقر نهائيًا بالبهو الرئيسي بمتحف باردو بالموطن الأم تونس.
وقبل الشروع في رحلة عبر الحقب والأزمنة التاريخية التي تعاقبت على تونس طيلة 3 آلاف سنة المعروضة في القاعات، يطالعك وجه آلهة السلام "كونكورد" عبر تمثال ضخم من الرخام الأبيض بطول الثلاثة أمتار يسار بوابة الدخول إلى القاعات والأجنحة وقد تم تركيزه في ذلك المكان كدلالة على أن تونس هي أرض سلام وليست أرض إرهاب في إشارة إلى العملية الإرهابية التي جدت بالمتحف في سنة 2018 وتم تخليد ذكراها عبر لوحة فسيفسائية ضخمة ضمت أسماء الضحايا ودولهم.
وداخل قاعة القيروان التي تم تغيير محتواها كليًا، نجد مخطوطات للقرآن الكريم من الحجم الكبير والمتوسط والصغير يعود أغلبها إلى محتويات مكتبة الجامع الكبير بالقيروان مثل "مصحف الحاضنة" المكتوب بخط كوفي مغربي المعروف بالريحاني، والذي يعود إلى سنة 1020 ميلادية، كما تم داخل القاعة ذاتها إحداث غرفة مفتوحة خاصة بـ"مصحف الرق الأزرق" تقدم خمس ورقات نادرة خُطّت بماء الذهب، وهو مصحف ذائع الصيت في العالم حيث فوّت الاستعمار الفرنسي في بعض صفحاته لمتاحف عالمية منها متحف نيويورك ومتحف بوسطن بالولايات المتحدة الأمريكية.
تمثال ضخم من الرخام الأبيض بطول 3 أمتار يطالعك يسار بوابة الدخول إلى القاعات والأجنحة يمثّل وجه آلهة السلام "كونكورد"، وقد تم تركيزه في ذلك المكان كدلالة على أن تونس هي أرض سلام وليست أرض إرهاب
كما تمت تهيئة قاعة صهاريج مياه القصر الملكي (الفسقية) وضمّها للجناح الجنائزي بالمتحف وإضافة تسع قطع أثرية جديدة منها تمثال جنائزي لرجل يجسم هرقل وقد عثر عليه في جهة برج العامري من ولاية منوبة، وجزء من تابوت مجسم لأمازون في مشاهد قتالية مختلفة من موقع تاكيا ببرج المسعودي، ونصب جنائزي لماركوس ليكينيوس الذي عمل كخيال بالفيلق الثالث بأميدرا (حيدرا).. وعدة نقائش ونصب أخرى.
ولأول مرة بعد غلق دام أكثر من عشر سنوات، تم فتح قاعة أوذنة التي اعتمدت كورشة داخل المتحف خاصة بترميم الفسيفساء.
وشملت تهيئة المتحف الوطني بباردو ترميم وصيانة 22 لوحة فسيفساء مختلفة الأحجام داخل قاعة "ألبيتروس" أو قاعة الموسيقى كما كانت تسمى زمن الحسينيين، كما تمت إضافة منحوتات وتماثيل لقاعات أخرى على غرار قاعة "دقة" التي احتضنت تمثال رجل يرتدي ثوبًا ملفوفًا جُلب من معبد "ساتورنوس".
ولأول مرة بمتحف باردو، تم تركيز واجهات عرض خصصت لفخار نساء سجنان من ولاية بنزرت المسجل على القائمة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي للبشرية لمنظمة اليونسكو وتتكون مجموعة فخار سجنان من 16 قطعة.
إن عودة المتحف الوطني بباردو -الذي يعدّ أكبر وأضخم متحف تراثي في تونس ويعتبر من أهم المتاحف المتوسطية والعالمية التي تمتلك مجموعات نادرة- إلى سالف أنشطته، يمكن اعتباره حدثًا ثقافيًا هامًا قد يعيد إلى تونس ملمحًا من ملامحها المشرقة، لكنه في الوقت نفسه ينتظر من يلتقطه ليضعه في الواجهة ونقصد بذلك الدبلوماسية الثقافية والسياحية، على اعتبار أن الثقافة هي من الروافد الأساسية للتنمية.