06-نوفمبر-2020

لقاءات قليلة جمعت سعيّد والمشيشي لم ترتق لحجم التنسيق الذي ميّز فترة سعيّد ـ الفخفاخ

 

سقطت حكومة الفخفاخ وتمت المصادقة على حكومة خلفه هشام المشيشي وتغيرت سريعًا التحالفات في تونس وبشكل دراماتيكي، فالتي كانت توصم بحكومة الرئيس واختار الأخير رئيسها من خارج دائرة ترشيحات الأحزاب الكبرى ومن دائرته المقربة صارت في أيام معدودات حكومة النهضة وقلب تونس وحلفائهم، واتضح بشكل جلي خلاف رأسي السلطة التنفيذية سعيّد ـ المشيشي. فسرنا في مقال سابق كيف وقع هذا التحول لكن ما تلاه يستحق الفهم الآن.


إثر المصادقة على حكومته فجر الأربعاء 2 سبتمبر/ أيلول 2020، كان على رئيس الحكومة التونسي الجديد أن يثبت إمكانياته واستحقاقه لمنصبه وأن يمر إلى الإنجاز مستعينًا بحزام برلماني داعم للحكومة قوامه أحزاب النهضة، قلب تونس وائتلاف الكرامة وعدد من المستقلين، وهو الحزام الذي رُوّج أنه يتجاوز 130 نائبًا وهذا ما حاولوا العمل عليه. 

غاب تقريبًا التنسيق بين رأسي السلطة التنفيذية عدا لقاءات قليلة جمعت سعيّد والمشيشي لم ترتق لحجم التنسيق الذي ميّز فترة سعيّد ـ الفخفاخ إضافة إلى ما اتضح سريعًا من خلافات بين الرجلين

وكما كان متوقعًا غاب تقريبًا التنسيق بين رأسي السلطة التنفيذية عدا لقاءات قليلة جمعت سعيّد والمشيشي لم ترتق لحجم التنسيق الذي ميّز فترة سعيّد ـ الفخفاخ، إضافة إلى ما اتضح سريعًا من خلافات ونقد ضمني وجهه سعيّد مثلاً للمشيشي في إحدى مداخلاته رفضًا لبعض التسريبات حول تعيينات في قائمة مستشاريه فيما عبر المشيشي بوضوح لوزرائه عن ضرورة استشارته قبل التفاعل مع رئاسة الجمهورية وذلك إبان لقاءات جمعت سعيّد بعدد من الوزراء وأثارت تحفظات عديدة خاصة بالتزامن مع اتهامات توجه للرئيس بفرضه عددًا من الوزراء ضمن حكومة المشيشي. 

خلال شهري سبتمبر/ أيلول وأكتوبر/ تشرين الأول، خفتت تحركات قيس سعيّد الداخلية وتخيل التونسيون أننا سنعيش خلال فترة حكومة المشيشي سيناريو رئاسة المنصف المرزوقي من جديد أو آخر أشهر حكم الباجي قائد السبسي (في ظل حكومة يوسف الشاهد) وتطبيق نظام الحكم الذي أنتجه دستور 2014  (شبه برلماني مع صلاحيات واسعة لرئيس الحكومة).

لا قيس سعيّد ولا الأحزاب المقربة منه والتي كانت لا تزال قد غادرت الحكم منذ فترة وجيزة ـ أساسًا حزب التيار الديمقراطي وحركة الشعب ـ سيرضون بهذا السيناريو. وللخروج من الهامش إلى دائرة الفعل واسترجاع مقود المبادرة كانت فكرة الحوار الوطني الاقتصادي والاجتماعي، في فترة تعيش فيها البلاد تأزمًا اقتصاديًا كان بيّنًا منذ سنوات لكنه استفحل مع انعكاسات الجائحة الصحية.

الخروج من الهامش إلى دائرة الفعل واسترجاع مقود المبادرة كان وراء فكرة الحوار الوطني الاقتصادي والاجتماعي 

اقرأ/ي أيضًا: أزمة النظام السياسي أم أزمة القوى الديمقراطيّة؟

أي حوار؟ وأي دور لمختلف الفاعلين؟ 

كانت البداية، علنًا على الأقل، من خلال تدوينة للقيادي في حزب التيار الديمقراطي هشام العجبوني كان قد دعا، يوم 21 أكتوبر/تشرين الأول 2020، من خلالها إلى إطلاق حوار وطني اقتصادي واجتماعي تحت إشراف رئيس الجمهورية قيس سعيّد.

وأوضح العجبوني في ذات التدوينة أن الغاية من ذلك إيجاد توافق بين مكونات المشهد السياسي والمنظمات الوطنية والخبراء بخصوص منوال التنمية الجديد والإصلاحات الاقتصادية التي يجب الشروع فيها والقيام بها في السنوات المقبلة مهما تغيّرت الحكومات، مؤكدًا أنه "لا يمكن أن تتواصل الخيارات الحالية الفاشلة التي ستؤدي بالبلاد إلى الإفلاس"، على حد تعبيره.

اللافت في مقترح حزب التيار الديمقراطي هو أن الحوار الوطني المقترح سيكون أولاً تحت عنوان اقتصادي اجتماعي من جانب، ومن جانب ثان سيكون تحت إشراف رئيس الجمهورية قيس سعيّد. 

هذا التقارب مع ساكن قرطاج يبدو كمخرج لحزب التيار لتجنب "العزلة السياسية" وهو الحزب الذي أعلن خلافه تقريبًا مع مختلف مكونات الساحة السياسية مع استثناءات قليلة، لا تبدو العلاقة معها متينة بقدر ما فرضتها ضرورات التنسيق البرلماني. لكن لا يمكن تقدير أن هذا الحزب قد نسي أن سعيّد قد أحرجهم بشكل لافت للانتباه خلال اختيار المرشح لرئاسة الحكومة وقد كان حزب التيار يرشح سياسيين من أبرز قياداته وكانت الكواليس تؤكد مراهنته على إمكانية اختيار الرئيس أحدهم لكن سعيّد اختار المشيشي.

بالنظر لما ذكرت، نرجح أن هذا التقارب من جديد هو أيضًا وليد مقتضيات المرحلة فكما لا يرغب رئيس الجمهورية في تواصل سيناريو الجمود عن التأثير داخليًا، لا يرغب حزب التيار ومن ورائه حليفه السابق في الحكم والذي يواصل معه تجربة التحالف برلمانيًا ـ حركة الشعب القومية ـ وبعد أن غادرا الحكم أن يكونا على هامش التطورات والفعل السياسي في البلاد. 

التقارب بين ساكن قرطاج وحزب التيار من جديد لا يعني أن هذا الحزب قد نسي أن سعيّد قد أحرجهم بشكل لافت للانتباه خلال اختيار المرشح لرئاسة الحكومة

بعد أقل من أسبوعين من تدوينة القيادي التياري، تتالت لقاءات جمعت رئيس الجمهورية بقيادات من حزبي التيار والشعب وكانت، وفق ما ورد في بلاغات للأحزاب المعنية، تتنزل في سياق مبادرة الحوار الوطني وأكد التيار ذلك، في بيان مساء الأربعاء 4 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري، أن الدعوة تتعلق بحوار وطني اقتصادي اجتماعي يكون تحت رعاية قيس سعيّد "باعتباره رمز وحدة البلاد"، وأن سعيّد رحب بمبادرة التيار الديمقراطي وتفاعل معها إيجابيًا، ووقع الاتفاق على مواصلة التشاور في آليات تنفيذها.

فكرة عقد حوار وطني حول مواضيع محددة لحل أزمة معينة ليست جديدة على التونسيين، حصل ذلك في 2013 من خلال الحوار الوطني الذي كان برعاية 4 منظمات وطنية و"تنفست البلاد" إثره بعد اغتيالين سياسيين كادا يعبثان بالمسار الديمقراطي في البلاد وتحصلت المنظمات التي أشرفت على هذا الحوار على جائزة نوبل للسلام سنة 2015. 

خلال هذا العام أيضًا، دعا حزب مشروع تونس من خلال رئيسه محسن مرزوق إلى فكرة حوار وطني مشابه وتناقل الفكرة ذاتها العديد من أحزاب المعارضة سواء الممثلة منها في البرلمان أو التي لم تحظ بأي كراس برلمانية. لكن اللافت أنه لم يكن هناك أي تجاوب مع هذه المقترحات رغم تواصل تردي الوضع الاقتصادي والاجتماعي بالبلاد سواء من قبل الأحزاب المسيطرة على المشهد السياسي أو من خلال مؤسسات الحكم (رئاسة الجمهورية والبرلمان خاصة).

تتغير الصورة حاليًا إذ أن المقترح صار يحظى بترحيب رئاسة الجمهورية، وهي مؤسسة لها قيمتها في المشهد التونسي، ويجتمع حوله حزبان على الأقل لكن الصورة تبقى غامضة نوعًا ما. أي حوار وطني تتم الدعوة له حاليًا؟ من سيجمع؟ هل يتعلق الأمر بممثلين عن مختلف الأحزاب الفاعلة في المشهد السياسي التونسي بإشراف رئيس الجمهورية مثلًا؟ أي دور سيكون لمؤسسات الدولة الأخرى (رئاسة البرلمان ورئاسة الحكومة بالأساس)؟ 

تتغير الصورة حاليًا إذ أن المقترح صار يحظى بترحيب رئاسة الجمهورية، وهي مؤسسة لها قيمتها في المشهد التونسي، ويجتمع حوله حزبان على الأقل

يقول حزب التيار الديمقراطي إن الحوار لابد أن يكون تحت رعاية قيس سعيّد "باعتباره رمز وحدة البلاد"، لكن هل يمثل سعيّد فعلًا دور الجامع المحايد البعيد عن كل الحسابات السياسية كما كان الحال مع المنظمات الأربع التي قادت الحوار الوطني السابق؟ هل يمكن أن يكون سعيّد مشرفًا على هذا الحوار رغم انخراطه في صراعات مع عدد من الأحزاب ومع رئيس الحكومة مؤخرًا؟

تتعدد الأسئلة في الحقيقة والتي لا تتوفر أجوبة عنها إلى حد الآن ومنها أيضًا أي دور سيكون للمنظمات الوطنية التي كانت أشرفت على الحوار السابق سنة 2013؟ إذا كان العنوان الأبرز للحوار الوطني هذه السنة ليس سياسيًا بل اقتصاديًا اجتماعياً كما يقول الداعون له، هل يمكن أن يجمع عددًا من المختصين الاقتصاديين بدلًا عن السياسيين وأي ضمانات لإنجاز مخرجاته بينما هذه الشخصيات لا تملك أي تأثير على الأحزاب أو المسؤولين في الدولة؟ ثم من سيختار هذه الشخصيات الاقتصادية ووفق أي معايير؟

فرضية أخرى من المهم طرحها وهي إمكانية تحوّل "الحوار الوطني" إلى مؤسسة من مؤسسات الدولة مهما كانت التسمية المختارة، وهذا قائم فيعديد الدول الأخرى، إذ تعمل هذه المؤسسة بشكل متواصل للتخطيط الاستراتيجي واستشراف الأزمات. وهنا يستحضر الكثيرون أيضًا مؤسسة عمومية تتبع رئاسة الجمهورية وهي المعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية والذي كان سعيّد قد عيّن مديرًا عامًا جديدًا له وأثار جدلًا واسعاً لما اعتبر أنه شخصية إدارية بعيدة عن مجالات البحث والاستشراف. ويتساءل كثيرون اليوم حول مجالات عمل هذه المؤسسة منذ تعيين سامي بن جنات مديرًا عامًا لها في ديسمبر/ كانون الأول الماضي خاصة في ظل الأزمة الاقتصادية والاجتماعية الخانقة التي تعيشها البلاد.

هل يمثل سعيّد فعلًا دور الجامع المحايد البعيد عن كل الحسابات السياسية كما كان الحال مع المنظمات الأربع التي قادت الحوار الوطني السابق؟

في الجانب المقابل، يبدو أن فريق رئيس الحكومة هشام المشيشي رفقة الأحزاب الداعمة لحكومته قد تفطن للتحركات من الجانب الآخر من السلطة التنفيذية. تعددت لقاءات المشيشي حول الشأن الاقتصادي، خلال الأسبوع الأخير، من ذلك لقائه بمحافظ البنك المركزي مروان العباسي وبأسامة الخليفي رئيس كتلة قلب تونس الحزب الداعم لحكومته، وهي لقاءات ركزت على الوضع الاقتصادي والاجتماعي. وسارع المشيشي بعقد ندوة صحفية مفاجئة الاثنين الماضي تطرق فيها إلى تحديات الظرف الاقتصادي للفترة الحالية وأهم الاستعدادات للفترة المقبلة من خلال مشروع الميزانية التعديلي لسنة 2020 ومشروع ميزانية الدولة لسنة 2021 وجملة من الإجراءات الأخرى. 

أما أكبر الأحزاب الممثلة في البرلمان حاليًا والمساند للمشيشي وحكومته ـ حركة النهضة ـ فلا يبدو، بالنظر للصراعات داخله، في وضع مناسب لتقديم أي مبادرات حاليًا ولا حتى راغبًا فيها ومثال ذلك ما صرح به رئيس شورى الحركة من كون "تونس تحتاج اليوم مرورًا للإنجاز أكثر من حاجتها للحوار" وهو ما يمكن أن تستغله الأحزاب المعارضة لتوجه النهضة وحكومة المشيشي لافتكاك المبادرة من جديد.

الصورة إذًا أشبه بمحاولات استباق من كل طرف للمحافظة على خيوط اللعبة بين يديه وهو ما يوحي أن الحوار، إن وقع، لن يكون "وطنيًا" بما تحمله الكلمة من معنى، لكن الأزمة التي تعيشها البلاد تتعمق يوميًا وما هو اختياري اليوم أو مؤجل قد يكون ضرورة غدًا يفرضها الأمر الواقع.

 

اقرأ/ي أيضًا:

هل تتجه تونس نحو حوار وطني؟

حركة النهضة.. بين العريضة والرسالة أو جدل الزعامة والمؤسّسة