24-ديسمبر-2019

أعلن الحبيب الجملي إنهاء المفاوضات مع الأحزاب وتوجهه لتكوين حكومة كفاءات

 

عرف مسار تشكيل الحكومة تطورات مهمّة متعاقبة في الأيام الأخيرة، بعد مبادرة الوساطة التي أطلقها الإعلامي الحبيب بوعجيلة وأستاذ القانون الدستوري جوهر بن مبارك. وقد أتت هذه المبادرة بعد انسحاب كلّ من التيّار الديمقراطي وحركة الشعب من عمليّة التفاوض، وأحيت أملًا جديدًا في تشكيل حكومة تنسجم مع المزاج الشعبي الذي انعكس في الانتخابات الأخيرة التشريعيّة والرئاسيّة. وهو مزاج يُقرَأ على أنّه تفويضٌ للأحزاب المنتسبة إلى الصف الثوري. غير أنّ هذا الأمل سرعان ما تحوّل إلى كابوس خيّم على المشهد السياسي وانتهى بظهور رئيس الحكومة المكلّف الحبيب الجملي ليعلن إنهاءَه المفاوضات مع الأحزاب واتجاهه إلى تشكيل حكومة كفاءات مستقلّة عنها.

اقرأ/ي أيضًا: هل نذهب إلى انتخابات سابقة لأوانها؟

حكومةُ الأحزاب المستحيلةُ

جاوزت المفاوضات على تشكيل الحكومة الشهر دون أن تُفضي إلى نتيجة واضحة، وبدا بأس أحزاب الصف الثوري بينها شديدًا. ويصبّ أغلب اللوم على حزب التيار الديمقراطي وحركة الشعب بسبب ترفيعهما سقف المطالب. ثم كان انسحابهما من المفاوضات عشيّة تلبية جلّ ما طالبا به وظهور بوادر على حصول اتفاق واسع ولم يبق إلاّ الإعلان عن تركيبة الحكومة التي طال انتظارها في ظلّ أزمة ماليّة واقتصاديّة خانقة واستحقاقات اجتماعيّة مؤجّلة.

ومثلما كان للانتخابات الأخيرة رسائل بليغة لم يتمّ الإصغاء إليها بانتباه فإنّ توقّف مبادرة الوساطة بين أحزاب الصف الثوري والفشل في تشكيل حكومة قويّة قادرة على البدء في المطلوب من الإصلاحات العميقة وإنفاذ العاجل من السياسات تركا استياءً واسعًا.

إنّ توقّف مبادرة الوساطة بين أحزاب الصف الثوري والفشل في تشكيل حكومة قويّة قادرة على البدء في المطلوب من الإصلاحات العميقة وإنفاذ العاجل من السياسات تركا استياءً واسعًا

وقد كان أستاذ القانون الدستوري جوهر بن مبارك قد صرّح بأنّ حركة الشعب وحزب التيار نالا أكثر مما طلباه واعتبر انسحابهما من المفاوضات مفاجئًا ومزاجيًا. ومن جهة أخرى أشار الإعلامي وأستاذ الفلسفة الحبيب بوعجيلة بأنّ حركة النهضة أظهرت مرونةً كبيرةً ومكّنت الحزبيْن المذكوريْن تقريبًا من كلّ ما أراداه.  

والأحزاب المعنيّة بالمشاركة في الحكومة هي حركة النهضة المكلّفة بتشكيل الحكومة وحزب التيار الديمقراطي المنشق عن حزب المؤتمر من أجل الجمهوريّة حليف النهضة في تجربة الترويكا التي قادت المرحلة التأسيسية بعد انتخابات 23 اكتوبر 2011 التأسيسية وحركة الشعب وائتلاف الكرامة.

المفاوضات وما رافقها من تجاذبات حادّة وما أفضت إليه من فشل في تشكيل حكومة منسجمة مع المزاج الشعبي العام الذي عبّرت عنه بوضوح الانتخبات أثار أسئلة عن حقيقة الصف الثوري، وأدخل اضطرابًا شاملًا على ما ارتسم من حدود بين القديم والجديد، وأغرى بإعادة تلمّس حدود جديدة.

ومن المفارقات أنّ تعاطي الأحزاب المحسوبة على المنظومة القديمة كان أكثر مرونة وأحرص في أكثر من موقف على تشكيل الحكومة وتجاوز حالة الفراغ. وجاء تبرير حزبيْ الشعب والتيار لانسحابهما من المفاوضات في لحظاتها الأخيرة، وفق متابعين، ضعيفًا وغير مقنع بالمرّة. وقد أعاد هذا المآل أسئلة جادّة عن امتلاك الأحزاب الفاعلة لقرارها الحزبي واستقلالية إرادتها السياسيّة وقدرتها على التحرّر من التجاذبات السياسيّة الحادّة والاصطفافات الحزبيّة المتأثّرة برواسب الأيديولوجيا ومحاور الصراعات التقليدية إقليميًا ودوليًا.

ولكنّ أهمّ سؤال هو عن جدوى الأحزاب والشك في قدرة بنيتها التقليديّة على الفعل، ولقد تأكّد هذا المنحى مع بروز شخصيّة الرئيس قيس سعيّد ودعوته إلى إعادة النظر في الانتظام السياسي في مستوى مؤسسات الدولة الرئيسيّة أو فيما تعلّق بالأحزاب والحياة الحزبيّة التقليديّة.

حكومة الكفاءات الممكنة  

هذا المقترح ليس جديدًا، بل لعلّه كان أولّ ما برز على سطح المشهد السياسي عشيّة الإعلان عن نتائج الانتخابات التشريعيّة، إلى جانب صيغة حكومة الوحدة الوطنيّة وحكومة الإنقاذ الاقتصادي وصيغ أخرى. غير أنّ التأكيد على الطابع السياسي للحكومة المنتظرة كان القناعة الأقوى، وفي هذا تلميح إلى أهميّة المرحلة ودور الحكومة السياسيّة في استكمال عمليّة الانتقال الديمقراطي من ناحية، والاستجابة للاستحقاقات الاجتماعيّة الملحّة ومواجهة الأزمة الماليّة والاقتصاديّة وتداعياتها من ناحية أخرى.

واضح أنّ المنافسة لم تعد خافية بين رأسي الجهاز التنفيذي في رئاسة الجمهوريّة ورئاسة الحكومة، ولا يمكن للحزب الفائز بالمرتبة الأولى في الانتخابات التشريعيّة أن يكون بمعزل عن هذا الصراع الخفيّ

اقرأ/ي أيضًا: أيّ مضمون لـ"صفة الثوريّة" في مرحلة الانتقال الديمقراطي؟

مقترح حكومة الكفاءات الوطنيّة مثّل مفاجأة جديدة في مسار تشكيل الحكومة، وقد جاء هذا المقترح من قبل رئيس الحكومة المكلّف الحبيب الجملي، واعتبر ردًا مزدوجًا، فهو ردّ على الأحزاب التي انسحبت بلا مبرّر، كما يرى، بعد أن استجاب لأهمّ مطالبها وهي ثلاثة أحزاب هي حركة الشعب وحزب التيّار الديمقراطي وحزب "تحيا تونس". وأمّا ائتلاف الكرامة فقد كان سبق إلى الانسحاب لرفضه المشاركة إلى حكومة يشارك فيها حزب "تحيا تونس" بقيادة يوسف الشاهد رئيس حكومة تصريف الأعمال.

والمقترح ردّ على مبادرة أطلقها رئيس الجمهوريّة لم تتوضّح ملامحها بعد، غير أنّها بدات باجتماع ضمّ أحزاب التيار والشعب والنهضة و"تحيا تونس"، وهي الأحزاب نفسها التي انفضّت من حول رئيس الحكومة المكلّف الذي أظهر حماسا لمقترحه الجديد مشدّدًا على أنّ الحكومة ستكون مستقلّة عن الأحزاب، وقد عمد إلى ضبط دقيق لحدود الاستقلاليّة. فالكفاءة المستقلّة ـ حسب رأيه ـ يمثّلها الشخص غير المنخرط بحزب من الأحزاب. وأمّا النزاهة فهي عنده أن يكون قد تعلّقت بالمرشّح للخطّة الوزاريّة أحكام قضائيّة في قضايا فساد أو غيرها.

وواضح أنّ المنافسة لم تعد خافية بين رأسي الجهاز التنفيذي في رئاسة الجمهوريّة ورئاسة الحكومة. ولا يمكن للحزب الفائز بالمرتبة الأولى في الانتخابات التشريعيّة أن يكون بمعزل عن هذا الصراع الخفيّ الذي قد يطفو في الأيام القادمة على السطح، فرئيس الجمهوريّة الذي أعلن في أكثر من مناسبة عن موقف جذري من النظام السياسي برمّته ومن الديمقراطيّة التمثيليّة وطرق الانتظام الأهلي ليس بعيدًا عن التجاذبات الحادّة المتّصلة بتشكيل الحكومة وما عرفه من تعثّر.

اتّساع الازمة وشلل المؤسسات

يبدو أنّ الأزمة لا تنحصر في المؤسسة البرلمانيّة وفيما أنتجته الانتخابات من تشتت كان وراء الصعوبات في تشكيل الحكومة، غير أنّ أداء رئيس الجمهوريّة بدأ يثير كثيرًا من الأسئلة. وقد كان ظهور رئيس الجمهوريّة في الذكرى التاسعة لثورة الحريّة والكرامة بمدينة الثورة سيدي بوزيد مخيّبًا للآمال من جهة الشكل والمضمون. فاللغة الفصحى في تواصله مع جمهور مخصوص في ذكرى الثورة لم يكن ملائمًا، فضلا عن أنّ ما ورد في الكلمة لم يجاوز عموميات مكرورة وتسويًفا لم يعد مستساغًا.

ولم تجب الكلمة عن أسئلة عديدة تشغل الجموع الرازحة تحت وطأة البطالة المتفاقمة وغلاء الأسعار وضعف المقدرة الشرائية، والمؤسسات الرئيسيّة في الدولة التشريعي منها والتنفيذي هي أقرب إلى العطالة أو الانشغال بمشاكلها الداخليّة. فالحياة اليوميّة ومشاغل المواطن وحاجياته تتأرجح بين حكومة تسيير أعمال لا تردّد في استغلال حالة الفراغ للإمعان في تعيينات في مواقع حسّاسة لا تخلو من فئويّة ومن محاباة على حساب الكفاءة فضلا عن عمّا فيها من أعباء مضاعفة على حكومة لم تتشكّل بعد، وهذه التعيينات تمثّل إرباكًا لحكومة لم تتشكّل بعد.

يبدو المشهد برمّته في حاجة إلى إعادة تأسيس سواءً تعلّق الأمر بالدولة ودورها أو بالأحزاب ووظيفتها أو بالنماذج التفسيريّة للمشهد السياسي

يذهب بعض المراقبين إلى أنّ حكومة الكفاءات الوطنيّة ليست إلاّ "الخطّة ب" التي في جُعبة حركة النهضة، وهي الخطّة التي تكون بواسطتها في شراكة غير معلنة مع حزب "قلب تونس" بقيادة نبيل القروي. وقد سبق لحركة النهضة تشديدها على رفض الحكم بالشراكة مع قلب تونس لما يحفّ ببعض من قياداته من شبهات فساد.

وقد تجد هذه الحكومة الأصوات الكافية للمصادقة عليها، ولكن تبقى بلا حزام سياسي حقيقي، وهو ما يجعل من هذه الحكومة صورة من حكومات سابقة هي أقرب إلى حكومات تريف أعمال، فحكومات الإصلاح السياسي العميق والمشاريع الكبرى لم تتوفّر شروطها بعد، فالانتخابات السابقة لأوانها تبقى أقرب الاحتمالات ولو بعد سنتين.    

الأزمة التي يعرفها المشهد السياسي في تونس قابلة للتوسّع، وتحوم أجواء من الشك مشوبة بالإحباط، بعد آمال عريضة صاحبت الانتخابات الأخيرة وخاصّة الرئاسيّة منها، غير أنّ مرور شهرين كان كافيًا لانقلاب الأمل إلى توجّس وقلق. وسيكون لهذا انعكاسًا مباشرًا على مشهد سياسي بدأ يفقد ثقته في بنية السياسة القائمة على نظام تقليدي للأحزاب بدأ يفقد فعاليّته. ولكن لا أفق لهويّة انتظام جديدة، إلا ما كان من تعميمات بقدرما توفّق في نقد السائد تفشل في بلورة ملامح واضحة عن الجديد المأمول.

ويبدو المشهد برمّته في حاجة إلى إعادة تأسيس سواءً تعلّق الأمر بالدولة ودورها أو بالأحزاب ووظيفتها أو بالنماذج التفسيريّة للمشهد السياسي، فقد تغيّرت حدود القديم والجديد وربّما صارت بعض من مكوّنات "الصف الثوري" أقسى على الثورة والحريّة والديمقراطيّة من مكوّنات السيستام.     

 

اقرأ/ي أيضًا:

في الصراع والتدافع أو جدل التأسيس والانتقال الديمقراطي

السياحة الحزبية.. مواقف حربائيّة وقنّاصة جدد