07-يونيو-2020

جنود فرنسيون يفتشون مارة تونسيين خلال معركة بنزرت سنة 1961 بعد إعلان استقلال تونس (تيري فنشر/جيتي)

مقال رأي

 

خطوة تاريخية غير مسبوقة أن يناقش مجلس نواب الشعب في جلسة عامة لائحة برلمانية مقدّمة من ائتلاف الكرامة بهدف "مطالبة الدولة الفرنسيّة بالاعتذار للشعب التونسي عن جرائمها في حقبة الاستعمار المباشر وبعدها"، وهو يأتي تنفيذًا لوعود الائتلاف، الفاعل السياسي الجديد الصاعد في موجة انتخابات 2019، والذي بنى حملته الانتخابية على نقطتين محورتين وممّيزتين مقارنة ببقية المنافسين: إثارة ملف العلاقة بفرنسا وفي جانب منها ملف "الثروات المنهوبة"، والخطاب "الصدامي"، الخارج عن المألوف حزبيًا، تجاه الاتحاد العام التونسي للشغل. ولكن هذه اللائحة ليست، في عمقها، إلا تنزيلًا لأحكام الدستور وقانون العدالة الانتقالية، وهو ما يكسبها في هذا الجانب، أساسًا قانونيًا متينًا بل يوجبها في مظهر تنفيذ التزامات الدولة، بغض النظر عن البعد السياسي والذي يصطبغ، للأسف، بالمناكفة والمزايدة بالنظر للنقاش الدائر حتى الآن على الأقل حول اللائحة، وخاصة أن عرضها يأتي في سياق سياسي متوتّر تحديدًا داخل البرلمان بعد "مهرجان" لائحة الحزب الدستوري الحر حول ليبيا.

يأتي عرض اللائحة البرلمانية المقدمة من ائتلاف الكرامة لمطالبة فرنسا بالاعتذار عن عقود الاحتلال في سياق متوتّر خاصة داخل البرلمان بعد "مهرجان" لائحة الحزب الدستوري الحر حول ليبيا

وإن الأساس الدستوري للائحة هو فيما تضمنه الفصل 9.148 من الدستور بخصوص التزام الدولة بـ"تطبيق منظومة العدالة الانتقالية"، وهي المنظومة التي نظمها قانون العدالة الانتقالية لسنة 2013 والتي أنشأت، بموجبه، هيئة الحقيقة والكرامة التي قدمت توصيات ومقترحات، مُلزمة التنفيذ حسب الفصل 70 من القانون المذكور، ومنها تبني مطلب اعتذار الدولة الفرنسية عمّا ارتكبته من انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان وفي مقدمتها انتهاك الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للتونسيين، والمطالبة أيضًا بجبر الضرر والتعويض المادي للضحايا أفرادًا أو جهات، وتعويض الدولة التونسية بصفتها "ضحية استغلال اقتصادي غير عادل"، مع المطالبة بإعادة الأرشيف التونسي من 1881 إلى 1963 وإلغاء الدين الخارجي التونسي لأنه "غير شرعي". وقد تبنى ائتلاف الكرامة، المطالب الثلاثة الأولى في لائحته.

اقرأ/ي أيضًا: فرنسا مطالبة بالاعتذار والتعويض عن جرائمها بحق التونسيين.. هل ترضخ؟

وقد كان من باب أولى وأحرى، أن تبادر الحكومة التونسية بتنفيذ التوصية أو المقترح تطبيقًا لأحكام الفصل 70 من قانون العدالة الانتقالية الذي ينص أنه "تتولى الحكومة خلال سنة من تاريخ صدور التقرير الشامل عن الهيئة إعداد خطة وبرامج عمل لتنفيذ التوصيات والمقترحات التي قدمتها الهيئة وتقدم الخطة والبرنامج إلى المجلس المكلف بالتشريع لمناقشتها". ويبدو أن ائتلاف الكرامة لم ينتظر ليمارس البرلمان دورها الرقابي بخصوص مدى التزام الحكومة بتنفيذ توصيات ومقترحات هيئة الحقيقة والكرامة، أي تبنيها لمطلب الاعتذار من عدمه، ليطرح مبادرته عبر آلية اللائحة البرلمانية، وهو ما يعني تصدير للملف للنقاش العام تحديدًا مع مختلف الفاعلين السياسيين وإحراجهم في ملف مثقل بجروح التاريخ وبمعاني الكرامة والسيادة والوطنية أمام الرأي العام الذي عبر، بشكل بين، عن خياراته عبر دلالات تصويته في انتخابات 2019 خاصة في شقها الرئاسي.

في هذا الجانب، يمثل ملف مطالبة فرنسا بالاعتذار اختبارًا، ربما قد يكون حرجًا، لرئيس الجمهورية قيس سعيّد انطلاقًا من عنصرين: أولًا العنصر الدستوري القانوني على النحو السابق عرضه بخصوص مدى تبني الأستاذ المتقاعد في القانون الدستوري لمخرجات أعمال هيئة الحقيقة والكرامة تطبيقًا لأحكام الدستور وقانون العدالة الانتقالية، وثانيًا هو العنصر السياسي المحض باعتبار أن رئيس الجمهورية بنى حملته الانتخابية على مفهوم السيادة الوطنية، وعدم الولاء للخارج، وعزّة المواطن التونسي والعنوان المؤسس "الشعب يريد" ليأتي السؤال: هل سيكون رئيس الدولة وفيًا لشعاراته؟ فبغض النظر عن النقاش البرلماني اليوم حول اللائحة، أعدت هيئة الحقيقة والكرامة، مراسلة رسمية للرئيس الفرنسي عام 2018 تتضمن جملة مطالبها الأربعة وأسسها التاريخية والقانونية، وهي مراسلة لازالت لدى وزارة الخارجية التونسية تنتظر تأشيرة سياسية بقرار من رئيس الدولة باعتبار أن مجال العلاقات الخارجية هي من اختصاصه الحصري. فهل سيتبنى سعيّد هذه المطالبة أو على الأقل سيطرح هذا الملف، في الوقت الراهن، على فريقه من المستشارين في قرطاج لدراسة أسسه وفرضياته وتبعاته ومنافعه المحتملة؟

 كان من باب أولى وأحرى، أن تبادر الحكومة التونسية، بتنفيذ مقترح/توصية هيئة الحقيقة والكرامة بخصوص مطالبة فرنسا بـ4 نقاط هي الاعتذار وجبر الضرر وإرجاع الأرشيف التونسي عدا عن إلغاء الدين غير الشرعي

في الواقع، لا يمكن نكران أن ملف فرنسا بالاعتذار عن عقود الاحتلال وانتهاكات الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية للتونسيين، يعدّ من الملفات المستجدة والوافدة المطروحة على النقاش في الأوساط السياسية والحقوقية في المجال العام، فعدا إثارة بعض الحركات القومية، قبل الثورة، للملف، فقد بقي في الظل، خاصة وأن الدولة التونسية زمن الاستبداد، تحديدًا في عهدي بورقيبة والمخلوع بن علي، لم تطرح يومًا هذا الملف، وذلك على خلاف الحالة الجزائرية، إذ يعدّ ملف الاعتذار نقطة خلاف جوهرية في العلاقات الفرنسية الجزائرية لم تُتجاوز رغم تأسف ماكرون عن جرائم التعذيب زمن الاحتلال.

ولكن تجاوزًا للحقل السياسي الحزبي، وفي إطار النخبة العلمية المختصة في التاريخ المعاصر، لم نشهد، وبالخصوص في علاقة بالدراسات الاستعمارية، بحثًا مكثفًا ومركزًا محوره ملف الاعتذار، بما يعنيه من تأسيس تاريخي وإحصائي محددّ الهدف، ولا يوجد توجه عام نشط داخل هذه النخبة، عبر مراكز البحث مثلًا، يتبنى بصفة جلية ملف الاعتذار وكل ما يحول حوله من قضايا مترابطة: الاعتراف بالانتهاكات وجبر الضرر وغيرها من النقاط التي تُثار في ملف مطالبة بلد ما بالاعتذار عن احتلال بلد آخر. وهو جانب بات من الضروري الاهتمام به في الدراسات المستقبلية.

اقرأ/ي أيضًا: الجرائم الفرنسية ضدّ التونسيين والثأر غير المنسي

بالعودة للائحة البرلمانية المعروضة، يُشار إلى صعوبة تبنيها برلمانيًا باعتبار أن جهة المبادرة تعدّ عنصرًا إشكاليًا لدى كتل برلمانية، فيما يعدّ الملف من المحرج المضي نحوه بالنسبة للإسلاميين لأسباب يطول شرحها، كما تحل اللائحة في سياق توتّر لتُحشر في دائرة تسجيل النقاط بين الكتل "المتحاربة". ومن المؤكد أن الأحزاب الستة المكونة للائتلاف الحكومي لن تتوافق حول اللائحة، لما وقع ذكره.

ورغم الإقرار بصعوبة إقرار اللائحة في نهاية المطاف، يجب الإقرار أن عرضها فرصة لعرض ملف لطالما تأخرنا في طرحه في الأوساط السياسية والحقوقية والعلمية وليستنفذ حظه في النقاش العام بين التونسيين بالخصوص، عدا عما يمثله من "إحراج" للسلطة التنفيذية في علاقة بتذكيرها بتوصيات هيئة الحقيقة والكرامة. واللائحة تأتي في وقت مناسب أيضًا من حيث أنها قد تحقق اختراقًا داخل البرلمان بين ائتلاف الكرامة والكتلة الديمقراطية وتحديدًا حركة الشعب القومية، الذي أعلنت سابقًا دعمها لمطالبة باعتذار فرنسا، وهو ما يهيئ أرضية لتنسيق مشترك بينهما فيما يجمع بين الفريقين اللذين يختلفان أشد اختلاف في الأسس الفكرية والتقديرات السياسية المحلية والإقليمية ولكنهما يشتركان، ودونًا عن غيرهما بالخصوص، في إثارة ملفات السيادة الوطنية ومنها هذا الملف.

رغم الإقرار بصعوبة إقرار اللائحة في نهاية المطاف، يجب الإقرار أن طرحها مفيد من حيث أنها تطرح للنقاش ملفًا نحن بحاجة اليوم للتباحث بشأنه في الأوساط السياسية والحقوقية والعلمية

ولكن الخطر يظل، بتقديري، في سقوط ملف الاعتذار، تحديدًا في المستقبل، ضحية للمناكفات الحالية حول اللائحة البرلمانية لائتلاف الكرامة، وقبلها المواقف المتوترة حول هيئة الحقيقة والكرامة، أي أن يتحوّل الملف، الذي يحتاج لاهتمام أكاديمي يدعم أسس المطالبة وتعبئة شعبية للرأي العام لممارسة الضغط على أصحاب القرار، إلى موضوع مرتبط بحديث ادعاء الشعبوية، والمنفعية الحزبية وتسجيل النقاط، وبذلك، يضيع الحق التاريخي والاستحقاق الدستوري. وعليه، وبغض النظر عن مآلات اللائحة المعروضة، نحن بحاجة إلى إخراج ملف الاعتذار من التجاذبات السياسية إلى النقاش العميق حول مشترك "تدعي" جل الأحزاب، إن لم يكن كلها، أنها تدعم مطالبة فرنسا بالاعتذار "من حيث المبدأ" وذلك بغض النظر عن مبدئيتها حقيقة. وتأتي، في هذا الإطار، مسؤولية النخبة العلمية المشتغلة حول التاريخ المعاصر، ولكن يظل الاختبار راهنيًا، وفي كل الأحوال، موجهًا نحو قيس سعيّد، وهو يعلم أنه يلامس، اليوم أو غدًا، ملفًا مفصليًا تُقاس به "مبدئيته" بحقّ.

 

اقرأ/ي أيضًا:

هل أتاك حديث البكتيريا السياسية في تونس؟

هل كان الحبيب بورقيبة عنصريًا؟