03-يناير-2020

تركّز جميع وضعيات المسرحية على الجانب النفسي الفردي أو الجماعي

 

المسرح هو فعل فنّي اكتشفه الإنسان منذ الأزل ليكون وسيلته المشتهاة للتعبير عن خوالجه وأفكاره حول الحياة وحيرة الوجود وأداة لمقاومة الرداءة وإعلاء قيم العيش المشترك. هذا "المسرح العالم" المسكون بالتساؤل، والذي حاول آباء المسرح التونسي غرسه على أديم الثقافة وتمريره للأجيال المتعاقبة علّهم ينهضون بإيقاد المصابيح في دروب مسرح عويص يريد التفكير ومواجهة الحقيقة في مخابئها، هذا الفعل المسرحي المختلف قد نجد له أصداء وإضاءات متناثرة هنا وهناك في تونس.

مسرحيّة "ذئاب منفردة" يبدو عنوانها مغريًا ولاقطًا ذكيًّا لجمهور المتلقّين لأنه يحيل أذهانهم مباشرة على حقول دلالية اشتغلت عليها ماكينات الإعلام في كل مكان

ومن هذه التجارب غير النمطيّة، والتي واجهت الحقيقة بحدّ السؤال وبأدوات جمالية متجددّة، هي ما شرع فيه منذ مدّة الدّراماتورج والمخرج المسرحي التونسي وليد دغسني الذي أنجز هذه الأيّام مسرحيّة "ذئاب منفردة"، وهي من إنتاج مركز الفنون الدّراميّة والرّكحيّة بالكاف ومدعومة دعمًا خاصًا من قبل وزارة الشؤون الثقافيّة. وعرضت يوم 26 ديسمبر/ كانون الأول 2019 بمسرح الجهات بمدينة الثقافة بالعاصمة تونس وذلك ضمن فعاليات الأسبوع الثقافي الذي نظّمته نقابة أساتذة التعليم الثانوي بتونس. 

اقرأ/ي أيضًا: عن أشهر لوحة فسيفساء تونسية.. "فرجليوس" الذي لا ترى وجهه إلاّ في تونس

مسرحيّة "ذئاب منفردة" يبدو عنوانها مغريًا ولاقطًا ذكيًّا لجمهور المتلقّين لأنه يحيل أذهانهم مباشرة على حقول دلالية اشتغلت عليها ماكينات الإعلام في كل مكان، وهي التعصّب الديني والإيديولوجي، وتلك المغامرات الإرهابية التي يقوم بها أفراد ينتمون الى مجموعات دينية أو إيديولوجية متشدّدة بمحض إرادتهم دفاعًا عن أفكار الجماعة.

"الذئاب المنفردة" تحوّل منذ تسعينيات القرن الماضي إلى مفهوم شديد الرّواج في العلوم الإنسانية بشتى تفريعاتها وخاصة العلوم السياسية والعلوم الاجتماعية، لكن للفنون رأي آخر، فهي تأتي المفهوم "من حيث لا تأتي الإبر"، فتشققه وتعيد ترتيب الأمر كما يريد الفن ذلك.

 

"ذئاب منفردة" تشتغل على مفهومين فلسفيين هما "الأنا" و"الغير" أو "الآخر"

إن تفكيك معالم هذا العمل الإبداعي المسرحي ليس بالأمر الهيّن والسهل فهو كالسير على حقل ألغام أو كأننا إزاء ما يشبه المتاهة المسرحية المحيّرة، تمامًا كمتاهة الحياة والوجود. ففي هذا العمل المسرحي يتوخّى الفريق قصدًا كتابة مرتبكة وغير متماسكة فتكسر بذلك جديّة النص المسرحي النمطي والمترابط والأليف والمألوف والذي يشعر معه عقل المتلقي بالدفء الفكري. إنّنا أمام نص عنقودي يتضمّن مجموعة من النصوص الصغيرة والتي سمّاها المخرج في ورقة التقديم "لحظات مبتورة وغير مكتملة تبحث عن معنى لوجودها، في حيّز العبث واللاّجدوى".

تعوّل مسرحية "ذئاب منفردة" على جماليّة الانفعال الجماعي للممثّلين على حساب جماليّة الديكور والإضاءة وبقيّة المتمّمات

"ذئاب منفردة" ومنذ اللحظة الأولى ترفع عاليًا موّالها أو لازمتها أو فاتحتها أو بيانها:

" عبث ...

إلى أين المصير؟  بلا رفيق ولا صديق ولا حبيب...

أنا المخطئ... أنا المذنب... أنا الكاذب... أنا المجرم... أنا السّاكت...  أنا الصّمت...

عبث".

هذه الكلمات هي مفاتيح المسرحية ومساربنا المظلمة للوصول إلى جواهرها والبحث فعلًا عن "الذئاب المنفردة". أين توجد؟ ومن يشكّل ماهيتها؟ ومن يلاعبها؟ ومن يراقص هواها؟ أسئلة عديدة يطرحها هذا العمل لكن أغلبها تبقى بلا أجوبة.

مع تمام العمل، نكتشف أنّ المسرحية، وبمجهود ركحي كبير، تعوّل على جماليّة الانفعال الجماعي للممثّلين على حساب جماليّة الديكور والإضاءة وبقيّة المتمّمات. كما نكتشف أنها مقاربة فنّية تتحدّث عن سوء وتشظي فضاء التواصل الاجتماعي كإطار عام للعيش المشترك بالمفهوم "الخلدوني" للكلمة، وتركّز جميع وضعيات المسرحية على الجانب النفسي الفردي أو الجماعي.

اقرأ/ي أيضًا: كتاب "فنانو تونس".. محاولة أنطولوجية لرسم معالم الفنون التشكيلية التونسية

 

يمكن الإشادة بمجهود كامل فريق "ذئاب منفردة" وخاصّة أداء الممثلين

 

"ذئاب منفردة" تشتغل على مفهومين فلسفيين هما "الأنا" و"الغير" أو "الآخر"، وتحدث بينهما جدالًا علائقيًا فنشاهد توترات وحيطة وحذر ومكر وخداع وشراسة وعنف، وهي صفات متأصلة في الإنسان هذّبها الاجتماع وروّضها التعايش، لكنها تنبثق كالبثور وكالطفح الجلدي جرّاء الغياب الكلّي للثقة والأمل والتحابب والإحساس بالأمان بين الناس المجتمعة على رقعة جغرافية واحدة، فتتشوه الحياة تمامًا ليتحول الآخر أو الغير إلى جحيم كما يذهب إلى ذلك جون بول سارتر في مقولته الشهيرة "الجحيم هو الآخرون"، أو "يتحوّل الإنسان ذئبًا لأخيه الإنسان" كما يؤكد ذلك الفيلسوف الأنقليزي توماس هوبز. وما اختيار الذئب هنا إلا كعلامة للشراسة والخديعة والمكر والقسوة، وهو ما بات يميّز إنسان اليوم ومعنى من معاني العيش المشترك. 

إن انهيار العلاقات داخل منظومة المسرحية لم يكن محض خيال بل تأتّى من صميم ما نعيش إذ يتحوّل بعض الأفراد داخل مجتمعاتهم من فرط هشاشتهم وتألمهم وخوفهم من المستقبل إلى "ذئاب منفردة" بالمعنى السوسيولوجي للكلمة، فتبدو شخصيات المسرحية مهتزّة وقلقة وذئبويّة وتسلّطيّة ولكل واحدة منها أجهزتها الدفاعية التي تواجه بها مصيرها على الركح تمامًا كما في الحياة المشتركة.

مسرحية "ذئاب منفردة" يطلّ من ردهاتها مفهوم "الفردانيّة " الذي بات مفهومًا معولمًا متلبسًا بأغلب المجتمعات

كما يعمد المخرج وليد الدغسني في هذا العمل المحمول على مدارات التفكير والتفلسف إلى التلميح السياسي فيصور بطريقة تفكّهيّة وكاريكاتوريّة تميل الى سواد الكوميديا ما يحدث في الحياة السياسية من نفاق وتحيّل أخلاقي وسوء تدبّر لقضايا الناس، وهو ما ينعكس سلبًا على مجريات الحياة المجتمعيّة التي تفترض بالضرورة مناخًا سياسيًا لائقًا وسليمًا حتى ينعم الفرد والمجموعة بطيب العيش.

مسرحية "ذئاب منفردة" يطلّ من ردهاتها مفهوم "الفردانيّة " الذي بات مفهومًا معولمًا متلبسًا بأغلب المجتمعات بما في ذلك المجتمع التونسي في تأكيد صارخ على فشل الليبرالية كنموذج اقتصادي وخيار سياسي، لكن المخرج يمعن في تبيان الفردانية السوسيولوجية التي يبدو من خلالها الفرد منفصلًا عن المجموعة لكنه يعيش معها دفاعًا عن مصالحه المتنوّعة وذاتياته المتعدّدة فيما يشبه قول الشاعر أدونيس" أسير مع الجماعة وخطوتي وحدي".

الدغسني يبدو ركحه حذرًا كفيلسوف وقلقًا كشاعر حالم آلمه ما يدور أمامه من انهيارات داخل منظومة القيم الإنسانية فانبرى للترميم والتقليم والتوجيه والإشارة ورسم معالم جديدة بتشريك المتفرّج وإدخاله العفوي في أحابيل المسرحية بكسر كل الجدران المؤديّة إليه عسى يولد الفجر من عتمة الأشياء. ختامًا يمكن الإشادة بمجهود كامل فريق "ذئاب منفردة" وخاصّة أداء الممثلين الذين يتقدّمهم الفنان القدير المنجي الورفلّي.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الموهبة حسام خالد: خلقني الله رسامًا من وراء "البلايك"

مسرح قفصة.. ذاكرة وذكريات