لم تعرف الأزمة التي شهدتها الساحة الثقافية مؤخرًا بين بلدية تونس و"فرقة مدينة تونس" حول تجديد العقود حلحلة نهائية لكن النقاش حولها شهد خفوتًا على إثر وعد رئيسة البلدية سعاد عبد الرحيم بإعادة الحياة للفرقة البلدية للمسرح التي تأسست منذ 28 جويلية/يوليو 1958 على يد المسرحي المصري زكي طليمات، وتداول على إدارتها كبار المسرحيين التونسيين مثل محمد العزيز العقربي، وحمادي الجزيري، وعلي بن عياد، ومحسن بن عبد الله وعبد العزيز المحرزي.
وقد شكّلت الفرقة البلدية جزءًا نيرًا من تاريخ المسرح التونسي والحركة الثقافية الوطنية، وبات من محل الإجماع، اليوم، اعتبارها معلمًا ثقافيًا مسكونًا برمزية الفعل الفنّي التونسي بما يستلزم استمرارها.
مسرحية "النفس" هي من إخراج الممثلة القديرة دليلة المفتاحي ألّف نصّها الكاتب والشاعر الطاهر الرضواني وهو عمل يتنزّل ضمن شراكة مسرحية بين الفرقة البلدية ومجموعة دليلة المفتاحي للمسرح
اقرأ/ي أيضًا: "أوبيريت بوستيل": عرض فنّي إنساني يجمع بين خرافات تونس وألمانيا
الفرقة البلدية، التي تديرها حاليًا الممثلة القديرة منى نورالدين بميزانية محدودة ومجموعة من الممثلين الذين لا يتجاوز عددهم ستّة أفراد منهم كوثر الباردي وريم الزريبي وفيصل بالزين، استأنفت أنشطتها بتقديمها السبت، 30 نوفمبر/تشرين الثاني 2019، بفضاء المسرح البلدي مسرحية "النفس" من إخراج الممثلة والمسرحية القديرة دليلة المفتاحي، وتأليف الكاتب والشاعر الطاهر الرضواني، وهو عمل يتنزّل ضمن شراكة مسرحية بين الفرقة البلدية ومجموعة دليلة المفتاحي للمسرح.
"النفس" مسرحية يستوقفك عنوانها المحيّر والذي يمكن حمله على قراءتين: الأولى هي "النّفس" التي تسكن الإنسان ويسكنها ولا تستقيم الحياة من دونها، والثانية قد تكون قصديتها هي "نفس" الهواء النقي أو جرعة الهواء التي ترمز للحرية والتي بدونها لا تستقيم الحياة أيضًا. ولهذا العنوان قد نجد أصداء واضحة وجلية وأخرى شفيفة قد تستنطقها عين المتلقّي لتقف على دلالات "النفس".
تتنزّل مسرحية "النفس" ضمن شراكة مسرحية بين الفرقة البلدية ومجموعة دليلة المفتاحي للمسرح (حسّان فرحات)
تدوم المسرحية قرابة الساعة والنصف، وقام بتمثيل محطاتها السينوغرافية كل من ريم عبروق، وليلى الرزقي، وليلى الطرابلسي، وعبير الصميدي وكمال الكعبي وهم مجموعة من الممثلين من ذوي الخبرة المسرحية تُوجوا مؤخرًا في مهرجان صيف الزرقاء المسرحي بالأردن ضمن عمل "قمرة 14" للمخرجة دليلة مفتاحي الذي حصد سبع جوائز.
"النفس" وضمن إطار مكاني هو سجن للنساء بتونس، أما الإطار الزماني فهو فترة انبلاجة الثورة التونسية والأيام التي تلتها. وتقدم المسرحية ثلاث سجينات داخل زنازين شفّافة ومتحركة ساهمت في البناء المشهدي للعمل مما خلق نسق من زوايا تساعد الرائي على بناء خطية سردية ومحاولة فهم ما يدور على الخشبة من حركة وحكي وأحداث متواترة.
ذهبت "النفس" عميقًا بحفرها في نفسيّة السّجينات الثّلاث خاصة في لحظات التّداعي والشّروع في حكي آلامهنّ ومآسيهن وأحزانهنّ وقصص حبّهنّ والشروخ العديدة التي طالتها وبقيت كأوشام في أرواحهنّ
اقرأ/ي أيضًا: مسرح الشارع.. فنّ خارج الستار الأحمر
قد يبدو الحوار بين أبطال المسرحية في مستواه السطحي ملامسًا لحياة السجن والسجناء، وعلاقتهم مع السجّانين، وما يتعرضون له من انتهاكات وعنف هاتك لكرامة الانسان، وغياب تام للأدوات الضرورية للسجين حتى ينعم بالحدّ الأدنى من الأمن والسّلامة، وأيضًا غياب كل نشاط تأطيري وتأهيلي للسجناء يساعدهم فيما بعد على استنشاق نفس الحرية من جديد.
ذهبت "النفس" عميقًا بحفرها في نفسيّة السّجينات الثّلاث خاصة في لحظات التّداعي والشّروع في حكي آلامهنّ ومآسيهن وأحزانهنّ وقصص حبّهنّ والشروخ العديدة التي طالتها وبقيت كأوشام في أرواحهنّ. وفي هذه اللحظات، تدخل الخشبة في عتوّ آخر وهو الكوميديا السوداء حيث الضحك الموسوم بالحزن والألم، "كثر الهمّ يضحّك"، وهنا لا يجد المتفرج من حيلة سوى التضامن الإنساني مع هذه الشخصيات المألومة والمكلومة فكما يقول الشّاعر "قد نلتقي في الحزن أكثر".
ذهبت "النفس" عميقًا بحفرها في نفسيّة السّجينات الثّلاث (حسّان فرحات)
أحيانًا، قد يمعن الحوار في العنف اللّفظي بين السّجينات لكنه قشر سميك يبطن رأفة وتكاتفًا وتضامنًا فيما بينهنّ لأنّ السّجن كفيل بإعادة تفكيك وترتيب العلاقات الإنسانية وهذا ما حدث خلال مسرحية "النّفس".
في قراءة اجتماعية نفسية، تذهب مسرحية "النفس" بعيدًا في تقديمها لمعاناة السّجينات وخاصة في اللّحظة التي تمّ فيها تمتيعهنّ بالعفو العام إثر ثورة 14 جانفي/كانون الثاني 2011، حيث رفضن الخروج وفضّلن البقاء داخل السّجن، وخيّرن حياة الزّنازين على الخروج لـ"السجن الواسع" على حدّ عبارة إحدى إحداهنّ. لم يردن الخروج رغم فتح البوابات ولم يغريهنّ "نفس" الحرية.
إنّ الحرية التي تدافع عنها مسرحية "النفس" للمخرجة دليلة مفتاحي هي حرية شاملة يشعر معها الإنسان بإنسانيته واكتمال حركة الذّات، هي حرية ضامنة للوجود ومدافعة عن بهاء الحياة. وعدا ذلك، لم يعد السجن سجنًا بل هو غرفة خلفية لواجهة السّجن الكبير وهو المجتمع الذي تغيب من ردهاته الحقوق الدنيا لأفراده بما فيهم نزلاء السّجن الذين أخطؤوا وهم بصدد التمتع بعقوبة وقتية لاغير.
مسرحية "النّفس" لدليلة مفتاحي هي عمل بين الفودفيل الشعبي والبسيط والذهني الذي يحملك على التفكير وطرح الأسئلة الاجتماعية والسياسية
مسرحية "النّفس" ساءلت السّجن كوميديًا وفنيًا بديكور ذكي أعده يونس العبيدي، وإضاءة استقرأت النص وتشبّهت به نفّذها محمد رشاد بلحم، كما ساءله من قبل ميشال فوكو فلسفيًا وفكريًا وكتّاب الرواية والشعراء في نهج ما يعرف بـ"أدب السّجون". وقدّمت المسرحية للحضور طرحًا آخر مفاده أن المؤسسة السجنية ونزلائها والعاملين فيها والقوانين التي تنظمها ليست بمعزل عن المجتمع بل هي في ارتباط عضوي وتواصل آني معه.
مسرحية "النّفس" لدليلة مفتاحي هي عمل بين الفودفيل الشعبي والبسيط والذهني الذي يحملك على التفكير وطرح الأسئلة الاجتماعية والسياسية، يعيد الحياة لفرقة مدينة تونس ولمقرّ المسرح البلدي في عرض أوّل مفعم بالإجتهاد المسرحي في أولى أيّام شتاء 2019.
اقرأ/ي أيضًا:
"قيرّة" للفاضل الجزيري: إسقاط غير محكم لـ"ثورة صاحب الحمار" على الواقع