28-أكتوبر-2019

فريق عمل "قيرّة" قبل عرض الفيلم مساء الأحد 27 أكتوبر 2019

 

فور الإعلان عن برمجة الدورة الثلاثين لأيام قرطاج السينمائية، انطلق محبو  السينما في اختيار الأفلام التي سيشاهدونها معتمدين في ذلك على معايير تختلف من شخص إلى آخر وأذواق قد تلتقي أحيانًا وتتباعد أحيانًا أخرى. وفي خضم هذه النقاشات الثقافية، لفت انتباهي فيلم "قيرّة"، أو "De La Guerre" للمخرج التونسي الفاضل الجزيري.

لسبب لا أزال أجهله، جذبني اسم الفيلم وغمرتني رغبة جارفة في مشاهدته. ورُحت أحاول أن أرسم في خيالي معالم فيلم يتحدّث عن الحرب في سياق إقليمي مضطرب يشهد عديد التغييرات والأحداث السريعة والمعارك والاقتتال، وكنت أتصوّر أن الفيلم سيكون عملًا فنيًا قد يحدث نقلة في السينما التونسية أو على الأقل سيمثّل تحفة فنية.

يحاول فيلم "قيرّة" الغوص في تفاصيل بوزيد الكدادي، الذي نجح في البداية في جمع العديد من المؤيدين والراغبين باسم الدين قبل أن يتحوّل إلى طاغية يمارس القتل والتعذيب

اقرأ/ي أيضًا: افتتاح أيام قرطاج السينمائية: بعيدًا عن السجاد الأحمر.. بوزيد يطرح جهاد النكاح

آمالي المعلّقة على الفيلم تعزّزت بعد حديث المخرج الفاضل الجزيري، في كلمة ألقاها قبيل عرض الفيلم، مساء الأحد 27 أكتوبر/ تشرين الأول 2019، في قاعة الأوبرا بمدينة الثقافة، تحدّث فيها بشغف عن هذا العمل الذي قال إن الاشتغال عليه بدأ منذ سنة 2011، كمسرحية في البداية قبل أن يتقرّر تحويله إلى عمل سينمائي، مشيرًا إلى أنه مقتبس من مسرحية "ثورة صاحب الحمار" لعز الدين المدني، ولافتًا إلى الصعوبات التي واجهها فريق عمله خلال إنجاز هذا العمل.

بدأ عرض الفيلم، وخيّم الصمت على القاعة. يبدأ الفيلم باتصال هاتفي من "للة عائشة خذر" (سارة الحناشي) لقيادي عسكري (يؤدي دوره سامي نصري) والذي يحذرها فيه من خطورة إقدامها على مغادرة القيروان ومهاجمة الحركة التي تحكم البلاد والتداعيات التي ستؤدي إليها هذه الخطوة من قتل وسجن ومجاعة وغيرها، لتتحوّل إثر ذلك تنبؤاته إلى أحداث حقيقية تقع تباعًا فور قتل الرجال المسلّحين الذين كانوا مع "للا عائشة" وسجنها بمعيّة النساء اللواتي كنّ يرافقنها.

تتالى الأحداث تباعًا مرفوقة بصوت سامي نصري الذي يؤدي دور "الراوي" لتقديم شخصيات الفيلم، فنتعرّف على "بوزيد الكدادي" وعائلته التي تحكم معه، من ابنه "أيوب السفاح" إلى ابنته "خامسة" الملقّبة بـ"KGB" التي تتولى رئاسة الأمن السري. تتعرّض عائشة خذر، الطبيبة والقيادية في "الجبهة الديمقراطية" المعارضة لحركة بوزيد الكدادي إلى أقسى أنواع التعذيب ويتمّ حرق عينيها بإشراف "خامسة"، التي تبدي استمتاعًا وتلذذًا كبيرين بعمليات التعذيب، وتحرص على مراقبة الجميع بأجهزة الكاميرا المزروعة في مختلف الأماكن.

يحاول الفيلم الغوص في تفاصيل بوزيد الكدادي، الذي نجح في البداية في جمع العديد من المؤيدين والراغبين باسم الدين قبل أن يتحوّل إلى طاغية يمارس القتل والتعذيب ويمتهن القضاء على كلّ صوت يحاول أن يعارضه، محاطًا بفريق من المستشارين أحدهم مكلّف بالإعلام (بن ضياف). كما تكشف تفاصيل الفيلم عن خلافات داخلية بين أبناء الكدادي وشقيقه من نفس الأب الملقب بـ"عمار الأعور" (علي الجزيري)، تقودهم في ذلك الرغبة في الإمساك بزمام السلطة في ظلّ خوف دائم من بوزيد الكدادي من إمكانية الانقلاب عليه واستعداده حتى لقتل أبنائه من أجل الحفاظ على سلطته.

ولئن سعى الفاضل الجزيري إلى تقديم صورة موازية لما تفرضه الجماعات الإرهابية التكفيرية على المناطق التي تحتلّها باسم الدين وتحرّمه على الخاضعين لجبروتها، فإن كتابة السيناريو لم تكن موفقة إلى درجة كبيرة وبدا أن الرغبة في محاكاة مسرحية "ثورة صاحب الحمار" وإسقاطها على القرن الواحد العشرين غابت عنها حياكة محكمة للتفاصيل، فلم تكن الأحداث مرتبطة دائمًا بل ومبهمة في بعض الأحيان.

كان نسق الفيلم الذي دام 115 دقيقة بطيئًا وكان من الممكن أن يكون أقلّ طولًا كي لا يضجر المشاهدون في بعض المواقع التي غاب عنها التشويق

إذ ليس من السهل أن يقتنع المرء بموافقة الزعيم الطاغية بوزيد الكدادي على أن تتولى عائشة خذر إدارة مستشفى بأكمله في القصبة بعد قتل كلّ الأطباء، علاوة على علاقة "حب" مسقطة بين عائشة و"عمار الأعور" بعد لقاء جمعهما طلب فيه من عمار من عائشة مساعدته من خلال إقناع حزبها بالتوقف عن الإضرابات والاحتجاجات كي لا يتمّ عزله من منصبه كوال على القيروان وتعيين آخر سيقوم بسجن أهالي المنطقة وتعذيبهم وإخضاعهم لمحاكمات ستقودهم إلى حتفهم.

قصة حبّ تتمكن "خامسة"، التي تتجسس على الجميع، من اكتشافها، قبل أن يتضح أن عائشة لم تحبّ يومًا عمار بل الأقرب أنها كانت تستغلّه في مخططها للقضاء على بوزيد الكدادي، وقبل أن ينكشف حبّها لصديقها "قيس" الذي يناضل في صفوف الجبهة الديمقراطية.

تتواصل "اللخبطة" مع لقاء "الشيخ الأسود" بعائشة وتعاونهما لإنهاء الظلم والطغيان الذي تشهده البلاد، والذي يتفاقم بعد سنتين من الجفاف التي أدت إلى فراغ مخازن الدولة من الأموال وتعاظم الاحتجاجات التي ستشمل حتى مريدين للكدادي ممن قاتلوا في صفوفه.

اقرأ/ي أيضًا: محمّد بن صالحة و"الكَوَلَة".. عن موسيقى تحاكي عناق الأصابع والعُقَل

الأمور تزداد غرابة مع بروز شخصية "بشير الهنيدي" الذي اكتفى الراوي في بداية الفيلم بتعريفه كمجنون أو كولي صالح، والذي يقتل إثر إلقائه خطبة يندّد فيها بجرائم بوزيد الكدادي ويصف المواطنين بـ"البهايم" لانسياقهم وراء دعواته بالجنة واستغلاله لله لإقناعهم بالقبول بالذل والفقر والجوع.

مقتل الهنيدي سيثير غضب الكدادي على ابنه أيوب الذي قرر عملية القتل فيتركه هذا الأخير ويبتعد عنه ويقوم بعمليات سرقة ويتنقل من منطقة إلى أخرى ومن "بار" إلى آخر ملاحقًا لعب القمار والحسناوات. يتواصل تشابك الأحداث والمؤامرات إلى أن تتفرّق عائلة الكدادي، فتنتحر ابنته الخامسة بعد عزلها من منصبها وإدمانها على الحبوب، وسجن شقيقه عمار وإعدام أيوب وموت ابن آخر عند محاولة تفجير تطاله، ليتمّ في النهاية القضاء عليه إثر توجهه إلى مقرّ اجتماع عائشة خذر والشيخ لسود على يد "نانا"، سيدة فقدت عقلها بعد مقتل ابنها.

ويتبيّن كذلك أن "خليفة"، أحد أبناء الكدادي، قبل بالتخلي عن والده مقابل مبلغ مالي لتقرّر "عائشة" في نهاية الفيلم تمكينه من الفرار بمعيّة "عمار الأعور" إلى الحدود الجزائرية، فيلقي على مسامعه سامي نصري محاضرة حول الديمقراطية التي ستسود البلاد وحول ثورة ستقام كلّ 40 سنة.

كما كان نسق الفيلم الذي دام 115 دقيقة بطيئًا وكان من الممكن أن يكون أقلّ طولًا كي لا يضجر المشاهدون في بعض المواقع التي غاب عنها التشويق.

"قيرّة" كان يمكن أن يكون فعلًا علامة مضيئة في السينما التونسية لو أن السيناريو حبك بطريقة أكثر عقلانية

فضلًا عن ذلك، يمكن القول إن الفاضل الجزيري "طبّع" نوعًا مع الأحكام المسبقة التي توسم بها النساء القياديات في ما وصفه في الفيلم بـ"الجبهة الديمقراطية التقدمية"، خصوصًا فيما يتعلّق بتعدّد علاقاتهن الجنسية، وهو ما يجدّد الطرح التقليدي الذي يرفض أن ينظر للمرأة خارج جسدها واستغلالها له في تحقيق مآربها.

ولعلّ أحد أبرز النقاط المضيئة في الفيلم، هو أداء الممثلين خاصة آمنة الجزيري التي أدت دور "خامسة" بإتقان وأقنعت الجمهور أنها فعلًا مديرة الأمن السري المتعطشة للتعذيب والمتلذذة بآلام معارضي والديها والماكرة التي تحسن حبك المؤامرات.

كما أجادت سارة الحناشي لعب دور الطبيبة والقيادية المعارضة التي لا تخشى عدوّها وتحسن مواجهته وتتقن بدورها التخطيط للإيقاع به. كما كان لافتًا أداء علي الجزيري لدور عمار الأعور الذي أحب بصدق والذي بدا صادقًا في رغبته في إيقاف نزيف الحرب رغم اصطفافه لسنوات إلى جانب أخيه بوزيد الكدادي.

أما الممثل طاهر عيسى بالعربي فقد تألق في دور بوزيد الكدادي، فلعب دور الطاغية الذي يخشاه الجميع والذي يحرص على مراقبة مستشاريه خشية أن يخونونه، وأتقن التلاعب بملامح وجهه فكان يغضب حين يتوجب ذلك ويبستم مستهزئًا حين يستوجب منه الدور ذلك.

"قيرّة" كان يمكن أن يكون فعلًا علامة مضيئة في السينما التونسية لو أن السيناريو حبك بطريقة أكثر عقلانية ولو ابتعد كاتبه عن البرج العاجي الذي يسكنه "قدماء" السينما التونسية منذ سنوات ويرفضون مغادرته ليلامسوا الواقع ويفهموا فعلًا ما يدور من حولهم، ليتجنبوا بذلك طروحات تجاوزها الزمن وأثبتت الوقائع والأحداث أنها بعيدة كلّ البعد عما يختلج الشعوب من مشاعر. فمعالجة قضية متاجرة بعض الحركات المتعصبة بالدين لكسب تعاطف آلاف المواطنين، تحتاج إلى ما هو أبعد من الإسقاطات المكرّرة والأحكام المسبقة المغلوطة، خصوصًا أننا نعيش في زمن حكمت فيه "داعش" لمدة من الزمن مناطق من سوريا والعراق وحاولت أن تؤسس إمارة في بن قردان وغيرها من الأماكن حول العالم.

 

اقرأ/ي أيضًا:

سجينات مطربات ضمن فعاليات أيّام قرطاج الموسيقية

مسرح الشارع.. فنّ خارج الستار الأحمر