25-ديسمبر-2022
قصور كلوي غسيل كلى تونس إضراب

حوالي 13 ألف مريض بالقصور الكلوي في تونس (صورة توضيحية/ getty)

 

كثيرة هي الإشكاليات الناجمة عن الوضعية المادية المتدهورة للصناديق الاجتماعية، بدءًا من التأخير في خدمة استرجاع المصاريف وفقدان الأدوية في صيدليات الضمان الاجتماعي، وصولًا إلى الإشكال العالق مع مصحات تصفية الدم والتي قررت على خلفيته الغرفة الوطنية لمصحات تصفية الدم إيقاف نشاطها في جميع مصحات الجمهورية ابتداء من يوم 11 جانفي/ يناير 2023، ما عدا الحالات الاستعجالية، وذلك إلى حين التوصل لاتفاق مع الصندوق الوطني للتأمين على المرض، يفضي إلى الترفيع في تعريفة حصة تصفية الدم بما يمكن من إنقاذ القطاع. 

الغرفة النقابية الوطنية لمصحات تصفية الدم، أعلنت إيقاف نشاطها بداية من 11 جانفي 2023 إلى حين التوصل لاتفاق مع "الكنام"

وكالعادة، يجد المواطن التونسي نفسه ضحية الإضرابات المتتالية في جميع القطاعات بغض النظر عن مشروعيتها من عدمه، لكن الخطير في الأمر هذه المرة هو حساسية الفئة التي ستتضرر من هذا الإضراب، وهم المرضى بالقصور الكلوي الذي يشكل هذا الإضراب تهديدًا لحياتهم ولسلامتهم الجسدية.

قرار إيقاف نشاط مصحات تصفية الدم نزل نزول الصاعقة على مرضى القصور الكلوي الذين يخضعون لحصص تصفية بشكل دوري، كما سرى سريان النار في الهشيم، فأصبح محل متابعة من جميع وسائل الإعلام لخطورة هذا الانقطاع عن العمل على شريحة واسعة من التونسيين تقدّر بحوالي 13 ألفًا مع زيادة بـ 900 مريض سنويًا.

 

 

  • "تجربة تصفية الدم متعبة، ويصبح إيقاع حياتك مرتبطًا بها"

يقول نور الدين فردي، وهو أربعيني تفطّن إلى إصابته بقصور كلوي مباشرة بعد تلقيه الجرعة الأولى من لقاح كورونا، إن تجربة تصفية الدم متعبة، وإنّ الخضوع إلى تصفية الدم يومًا بعد يوم يغيّر روتين الشخص ويصبح إيقاع حياته مرتبطًا بحصص التصفية، علاوة على التعب الجسدي بسبب كثرة استعمال الأدوية والحقن والتحاليل والحمية الغذائية الصارمة، معتبرًا أن الكلى الاصطناعية مهما بلغت نجاعتها في عملية التصفية لا يمكنها تعويض تصفية الكلى العادية، فالعملية في نهاية الأمر موكولة لآلة فيها إيجابيات وسلبيات، وفقه.

وأفاد المتحدث بأنه تلقى خبر إضراب مصحات تصفية الدم بمزيج من الدهشة والصدمة من الإقدام على حرمان مريض من تصفية الدم على الرغم من أنها مسألة حياتية بالنسبة إليه، متسائلًا عن الحالات الاستعجالية التي تم استثناؤها في برقية الإضراب، لأن جميع مرضى القصور الكلوي المزمن حالات استعجالية في نظره.

نور الدين فردي (أربعيني مصاب بقصور كلوي) لـ"الترا تونس": ما معنى استثناء الإضراب للحالات الاستعجالية؟ جميع مرضى القصور الكلوي المزمن حالات استعجالية في نظري

واعتبر فردي في حديثه لـ"الترا تونس"، أن الحل يتمثل في تدخل السلط المعنية لإيجاد حل يرضي كل الأطراف، سواء المصحات الخاصة أو الصندوق الوطني للتأمين عن المرض، مستنكرًا سياسة ارتهان المواطن التي تنتهجها جلّ القطاعات واستعمال مريض القصور الكلوي المزمن رهينة وسط صمت الدولة تجاه ما يحدث، وعدم السعي في اتجاه حلحلة الوضع، "فما دخل المريض في كل ما يحدث ومن الضحية في هذه الحالة؟" وفقه.

وشدد نور الدين فردي على أن المواطن في تونس يعيش في وضع مزر ومترد في ظل تنصل المسؤولين من مسؤولياتهم وسعي كل طرف إلى تحقيق مصالحه الفردية، ويبقى الضحية هو المواطن البسيط الذي لا حول ولا قوة له، وفق وصفه.

أربعيني مصاب بقصور كلوي لـ"الترا تونس": تعمد مصحات إلى التعاقد مع ممرضين يفتقدون للتجربة والدراية بالمرض للضغط على المصاريف، وبعضها يستغنى على الوجبات للمرضى ويكتفون بلمجة

كما أوضح أن المريض بالقصور الكلوي المزمن الذي له بطاقة علاج ومتعاقد مع صندوق التأمين على المرض "الكنام" أو الذي لديه بطاقة ذات تعريفة منخفضة أو بطاقة علاج مجاني، يفرض عليه القانون التوجه للمصحات الخاصة لتصفية الدم، وهذه المصحات تعمل كوسيط بين المريض والصندوق، فهي تتلقى ملف المريض ثم ترسله كاملًا ومستوفى الشروط لـ"الكنام" وإثر ذلك يتكفل الصندوق الوطني للتأمين عن المرض بكل حصص التصفية ويتلقاها المريض مجانًا.

وفي تقييمه لمصحات تصفية الدم الخاصة يقول نور الدين فردي "تقييم هذه المصحات يختلف من مصحة إلى أخرى من حيث الإطار المشرف على المصحة والعنصر البشري وحسن التعامل مع المريض والنظافة وغيرها.."، مبينًا أن العديد من المصحات الخاصة بهدف الضغط على المصاريف، يلجؤون للتخفيض في عدد الممرضين وأعوان النظافة وسيارات التنقل، أي أن البعض من هذه المصحات تستغني عن التكفل بنقل المرضى وصيانة آلات التصفية".

نور الدين فردي (أربعيني مصاب بقصور كلوي) لـ"الترا تونس": التخفيض في عدد الممرضين وأعوان النظافة وسيارات التنقل من بين تصرفات المصحات الخاصة للضغط على المصاريف

"كما أن البعض الآخر يفتقر إلى طبيب مباشر كامل اليوم، ويتم التعاقد مع طبيب بدوام غير كامل.. كما تعمد مصحات إلى التعاقد مع ممرضين وممرضات يفتقدون للتجربة والدراية بمرضى القصور الكلوي المزمن من أجل الضغط على المصاريف.. والبعض الآخر يستغنى على الوجبات للمرضى ويكتفون بلمجة، أما بعض المصحات -وهذا استثناء وليس تعميم- حيث تكون معاملة المريض على أساس نقود فقط، وتفتقد للجانب الإنساني في المعاملة" وفق تعبيره.

  • مراكز تصفية الدم الخاصة مهددة بالإفلاس

تخوض مصحات تصفية الدم سلسة من الاحتجاجات منذ سنوات مطالبة بتعديل كلفة علاج المريض من قبل صندوق التأمين على المرض، لأن العبء ما فتئ يثقل، مما اضطر إحداها للإغلاق بشكل نهائي.  

وقد بيّنت رئيسة الغرفة النقابية لمصحات تصفية الدم هاجر ليمام أن قطاع تصفية الدم بُعث في تونس منذ سنة 1977 وهو يُعنى بمرضى القصور الكلوي المزمن الذين يستوجب علاجهم تصفية الدم وهو علاج حياتيّ لأن المريض إذا تخلّف عن حصص التصفية تتعكر حالته الصحية سريعًا ويمكن أن ينتهي به ذلك إلى الوفاة في غضون أيام معدودة.

رئيسة الغرفة النقابية لمصحات تصفية الدم لـ"الترا تونس": مريض القصور الكلوي يخضع لـ 3 حصص تصفية دم في الأسبوع لمدة تصل إلى 25 سنة وأكثر، وتتكفل الصناديق الاجتماعية بمصاريف ذلك

وبينت محدثة "الترا تونس" أن مريض القصور الكلوي يخضع لـ 3 حصص تصفية دم في الأسبوع لمدة تصل إلى 25 سنة وأكثر، وعلى اعتبار أن هذا العلاج مُكلف ويقدر بحوالي 1500 دينار شهريًا، لا يتسنى للمريض سداد هذه التكلفة، فتتكفل الصناديق الاجتماعية بذلك، مضيفة: "في السابق كان الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي يؤمن تكاليف العلاج لأعوان القطاع الخاص والصندوق الوطني للتقاعد والحيطة الاجتماعية لأعوان القطاع العمومي، ومنذ سنة 2006 تاريخ إحداث الصندوق الوطني للتأمين على المرض، أصبح يتولى التكفل بجميع مرضى القصور الكلوي.. أما بالنسبة للمستشفيات العمومية فمنذ سنة 1977 أنشأ قسم واحد لتصفية الدم بمستشفى شارل نيكول، وبذلك تعتبر تونس رائدة في هذا المجال عربيًا وإفريقيًا لكن عدد المرضى ارتفع كثيرًا في السنوات الأخيرة ليبلغ 13 ألف بزيادة 900 مريض سنويًا فيخضع 85% منهم للعلاج في القطاع الخاص أي 11 ألف مريض، والبقية في المستشفى".

وتشير ليمام إلى أنه حسب الدراسة التي أجريت في المستشفى سنوات السبعينات والثمانينات، قدرت كلفة العلاج بـ 89 دينار كما في فرنسا، لكن هذا السعر ظل مجمدًا طيلة 40 عامًا والصناديق الاجتماعية المتعاقبة لم تضف ولو مليمًا واحدًا، في حين أن قيمة الدينار تدهورت وارتفعت الأسعار بفعل التضخم، وكذلك تقنية التصفية تطورت وأضيفت بعض الأدوية والتحاليل الجديدة، بالتالي قرر المهنيون الدخول في تحركات سلمية تفاديًا للإضرار بمصلحة المرضى.

رئيسة نقابة مصحات تصفية الدم لـ"الترا تونس": عدد المرضى ارتفع كثيرًا في السنوات الأخيرة ليبلغ 13 ألف بزيادة 900 مريض سنويًا، 85% منهم يخضعون للعلاج في القطاع الخاص

كما بينت المتحدثة أن الحالة المادية لمصحات تصفية الدم تدهورت، كما اهترأت البنية التحتية ولم يعد بإمكانها اقتناء المستلزمات الطبية ولا صيانة معداتها فانطلقت في سلسلة من الاحتجاجات منذ سنة 2016 وتم تمكينها من زيادة تقدر بـ 15 دينار على امتداد ثلاث سنوات، على أن يتم تحيين كلفة العلاج كل ثلاث سنوات، كما تم سنة 2019 إضافة مبلغ زهيد رصد اعتباطيًا دون أي دراسة للكلفة، أما سنة 2020 فتعلل صندوق التأمين على المرض بجائحة كورونا ولم يجد حلًا سوى التقليص في الأداءات وفي عدد التحاليل.

وتواصل هاجر ليمام "بعد أخذ وردّ مع الصندوق، وسلسلة من الاجتماعات، كُلف طرف محايد وهو وزارة الصحة بالقيام بدراسة كلفة تصفية الدم للمريض الواحد، فقدرتها مصالح الوزارة بـ 179 دينار، في حين أن المصحات لا تتقاضى سوى 116د (بالزيادات المذكورة) على كل عملية تصفية، أي بخسارة 64 دينار يوميًا على كل حصة وكل مريض، لكن ما راعنا إلا أن الصندوق لم يعترف بهذه الدراسة وشكك في مصداقيتها وقرر رصد زيادة تقدر بـ 14 دينار بعنوان سنتي 2022 و2023.. المبلغ المحدد من قبل الصندوق غير معقول وغير مقبول لأننا على وشك الإفلاس.." وفقها.

رئيسة نقابة مصحات تصفية الدم لـ"الترا تونس": كلفة تصفية الدم للمريض الواحد، تقدّر بـ 179 دينار، في حين أن المصحات لا تتقاضى سوى 116د، أي بخسارة 64 دينار يوميًا على كل مريض

وتابعت ليمام: "الأعوان لم يحصلوا على زيادات في الرواتب منذ سنة 2019 فغادرنا أغلبهم، كما سجلنا نقصًا بـ 80 طبيب في 120 مصحة تصفية في الجمهورية.. وأخيرًا أعلنت مصحة تصفية دم في مدينة سبيطلة عن إفلاسها وأغلقت أبوابها نهائيًا واضطرت إلى توزيع مرضاها على مصحات أخرى.. فإلى متى سيستمر الوضع على ما هو عليه؟ بهذه الطريقة سنضطر جميعًا إلى الغلق".

وأكدت رئيسة الغرفة النقابية لمصحات تصفية الدم أنها أرسلت عدل تنفيذ لصندوق التأمين على المرض يوم 9 ديسمبر/ كانون الأول 2022، ومكنته من مهلة 15 يومًا انتهت الجمعة 23 من الشهر نفسه، ولم تتلق أي رد بالتالي قرروا التصعيد وابتداء من 11 جانفي/ يناير لن يقوموا بجلب المرضى وسيظلون في مصحاتهم يستقبلون الحالات الاستعجالية، وفقها.

رئيسة نقابة مصحات تصفية الدم لـ"الترا تونس": المصحات مضطرة للإضراب والتصعيد فديونها لدى المزودين أصبحت بمئات الملايين، وهناك مصحة أعلنت إفلاسها وأغلقت أبوابها نهائيًا

كما ختمت بالتأكيد على أن المصحات مضطرة للتصعيد فديونها لدى المزودين أصبحت بمئات الملايين، وإجابة على اللوم الذي ألقي على عاتقهم على خلفية قرار الإضراب قالت هاجر ليمام إن مصحات تصفية الدم ستغلق أبوابها في الحالتين بإيقاف النشاط أو بالإفلاس، معتبرة أن هذه الخطوة صرخة استغاثة علّ "الكنام" تتحرك وتجد حلًا.

 

 

  • أهمية المجتمع المدني في الإحاطة بمرضى الكلى

جمعية "أمل" لمرضى الكلى بمدنين هي جمعية تنشط في مجال حقوق مرضى القصور الكلوي منذ سنة 2011 فتساعد المرضى على القيام بتحاليل غير متوفرة في المصحات أو توفر لهم أنواعًا من الأدوية المفقودة من الصيدليات أو تجلبها من الخارج عن طريق متطوعين بسبب أزمة فقدان الأدوية في تونس وعدم قدرة الدولة على توفيرها بعد أن كان توريدها حكرًا على الدولة نظرًا لغلاء أسعارها.

مديرة جمعية "أمل" لمرضى الكلى بمدنين لـ"الترا تونس": لا يمكن منع المريض من تلقي حصص العلاج، ففي يومين يمكن أن تتعكر حالته ويفارق الحياة

وتقول مديرة جمعية "أمل" أسماء ثابت إن الجمعية نظمت يوم 24 ديسمبر/ كانون الأول يومًا طبيًا لفائدة مرضى القصور الكلوي بالجنوب لإجراء عمليات جراحية تتمثل في زرع أجهزة الغسيل الكلوي لمستحقيها كلفتها بحوالي 2000 دينار وذلك بصفة مجانية مشيرة إلى أنه بالإضافة إلى إشكال الأدوية والتحاليل التي يعاني منها المرضى، أضيف إشكال الإضراب المقرر تنفيذه في شهر جانفي/ يناير المقبل.

وتقول أسماء ثابت في حديثها لـ"الترا تونس" إن الحقوق المادية للمصحات مشروعة، لكن لا يمكن منع المريض من تلقي حصص العلاج، ففي يومين يمكن أن تتعكر حالته ويفارق الحياة علاوة على أن جلسات التفاوض بين المهنيين والكنام تنتهي دائمًا بالتقليص في عدد التحاليل اللازمة للمريض لمتابعة حالته الوقوف على مدى نجاعة عملية التصفية عوضًا عن تحسين الخدمات المقدمة له.

مديرة جمعية "أمل" لمرضى الكلى بمدنين لـ"الترا تونس": إضراب مصحات تصفية الدم يعدّ كارثة، في ظل حاجة 11 ألف مريض للعلاج يوميًا، والمرضى يفكرون في الاحتجاج

ووصفت المتحدثة الإضراب بالكارثة في ظل حاجة 11 ألف مريض للعلاج يوميًا، مشيرة إلى وجود حالة هلع وخوف في صفوف المرضى الذين يفكرون في القيام بوقفات احتجاجية إذا ما تم حرمانهم من حقهم في العلاج، مشددة على أن الإشكال مركّب ويستوجب حلولًا ترضي الطرفين.

جدير بالذكر أن 9500 مريض قصور كلوي مسجلون بقائمة المرضى الذين ينتظرون إجراء عمليات زراعة كلى والتي تتم عن طريق متبرع حي ينتمي لعائلة المريض أو متبرع في حالة موت دماغي.