مقال رأي
تتمسك المكونات الأساسية لما يعرف بـ"مبادرة الإنقاذ" في تونس والمتمثلة في الاتحاد العام التونسي للشغل وهيئة المحامين بتسليم المبادرة إلى الرئيس التونسي قيس سعيّد مع إشارات إلى فرضية أن تلقى هذه المبادرة تجاوبًا منه، ومع إطالة أمد العمل عليها حيث كان الحديث عن تقديمها في آخر شهر فيفري/شباط الماضي، ودخول مجلس نواب الشعب الجديد في العمل، يتقلص سقف التوقعات حولها خاصة في الجوانب الدستورية والسياسية، واقتصارها على مطالبات باحترام للحريات وضرورة الحوار حول "الإصلاحات" التي تنفذها الحكومة منفردة.
يتقلص سقف التوقعات حول "مبادرة الإنقاذ" للمنظمات الوطنية، خاصة في الجوانب الدستورية والسياسية، مع إمكانية اقتصارها على مطالبات باحترام للحريات وضرورة الحوار حول "الإصلاحات" التي تنفذها الحكومة منفردة
لقد فهمت المنظمات الكبرى أن الرئيس لن يقبل أي شكل من أشكال الحوار الذي ينزله من موقع الماسك بالسلطة والفاعل السياسي الأساسي منذ 25 جويلية/يوليو 2021 رغم أنها انتظرت كثيرًا حتى تقتنع أن قيس سعيّد لن يقبل بالحوار إلا وفق ما يراه وأن له نظرة خاصة للحوار فهو يرى نفسه في الدولة والشعب ويرى المنظمات والشخصيات الوطنية مجرد أجسام بسيطة لا يمكن للدولة أن تتنازل عن كبريائها وتتحاور معها بالإضافة إلى أن موقفه سلبي من الحوار الذي دار في 2013 والذي أنهى حكم الترويكا وأدخل البلاد في مسار انتخابات تشاركي.
لكن هل أن هذه المنظمات المدنية أساءت التقدير عندما اعتقدت أن الرئيس سيتقاسم معها غنيمة إدارة السلطة بعد قيام الإجراءات الاستثنائية، أم أنها كانت تعاني مثل غيرها من مكونات المشهد السياسي من ضعف نتيجة تآكل صورتها في العشر سنوات الماضية؟.
مرحلة التصحر السياسي والمدني الذي طال أمده بعد مسك سعيّد بكل السلطات رفع من مخاوف الاتحاد من ردة فعل شارع أصبحت تغذيه خطابات الكراهية والعنف تجاه كل من يعارض مسار الرئيس
يبدو أن وضعها يتأرجح بين هذا وذاك، فهي أول من سارع بإصدار بيانات مساندة لإجراءات الرئيس رغم أنها في أوساطها الداخلية كانت تدرك أن الرئيس خرق دستور 2014 باعتماده تأويلاً مبالغًا لطريقة تفعيل الفصل 80، بل أنها لم تحرك ساكنًا عندما بدأ الرئيس في تنفيذ نظرته للحكم انطلاقًا من الأمر 117 الذي وضع تصوراً للمرحلة الاستثنائية وأقر خارطة طريق بشكل منفرد قاطعتها الأحزاب بعد ذلك، كما أن مرحلة التصحر السياسي والمدني الذي طال أمده بعد مسك سعيّد بكل السلطات رفع من مخاوف منظمة كالاتحاد العام التونسي للشغل من ردة فعل شارع أصبحت تغذيه خطابات الكراهية والعنف تجاه كل من يعارض مسار الرئيس. لقد فعل اختلال التوازن السياسي بين سعيّد ومعارضاته المشتتة فعلته في طريقة تعامل المنظمات المعنية بمبادرة الإنقاذ وقل هامش الحركة والفعل السياسي والمدني.
لقد حشر سعيّد كل المشهد السياسي في زاوية المناوئين وكان لزامًا على الاتحاد بشكل خاص أن يبادر من أجل النأي بنفسه أولًا عن معارضة أخذ صوتها يعلو في كل مرحلة برفض مسار الرئيس حتى يتجنب ردة فعل السلطة، وفي نفس الوقت يوجه إلى سعيّد رسالة حسن النية بأنه معه في العام ولكنه يريد الحوار حول بعض التفاصيل وهو ما تؤكده في كل مناسبة قيادات من الاتحاد بأن لا رجوع إلى الوراء أي أنها ضد العودة إلى دستور 2014.
وآخرها استثناء من يعتبرون أن ما قام به سعيّد انقلاب من المبادرة وهي محاولة مرة أخرى لاستمالة النظام الجديد وما تأخر تقديم المبادرة إلى ما بعد عقد مجلس النواب الجديد أولى جلساته إلا كدليل على أن هذه المبادرة قد تستثني نهائيًا النقاش حول الدستور وشرعية السلطة الحالية وهو ما يعتبره البعض بمثابة عقلنة المبادرة من خلال تحديد سقفها.
تأخير تقديم المبادرة إلى ما بعد عقد مجلس النواب أولى جلساته يمكن اعتباره دليلًا على أن هذه المبادرة قد تستثني نهائيًا النقاش حول الدستور وشرعية السلطة الحالية وهو ما يعتبره البعض بمثابة عقلنة المبادرة من خلال تحديد سقفها
ستتعامل المبادرة مع ما حدث على أنه أمر واقع لا يقبل التغيير في المرحلة الحالية وهو بمثابة قبول برفض الرئيس للحوار، ويدعم موقفه هذا بانتصاب أول مؤسسة منبثقة عن الدستور الذي صاغه منفردًا وهو أمر يلغي أي فرضية لطرح هذا التفصيل الدستوري والسياسي ضمن المبادرة لكنها في المقابل يمكن أن تطالب سعيّد بتحديد موعد للانتخابات الرئاسية من أجل تجديد شرعيته إن فاز فيها أو فتح المجال أمام شخصية أخرى لتولي المنصب في انتخابات يقع الاتفاق على طريقة إجرائها وهنا يمكن إعادة النظر في القانون الانتخابي وتركيبة هيئة الانتخابات وتعديل وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي. لكن هل سيترك سعيّد هذه الثغرة للنقاش العام أم أنه سيستبق ذلك إما بتحديد موعد للانتخابات أو بتأويل خاص به للدستور وهو الذي كانت له دائمًا قراءة خاصة للنصوص القانونية والدستورية.
وبما أن مسألة تجديد الشرعية الانتخابية هي الركن الأساسي في أي فعل سياسي قادم وقد لا تكون عملية إقناع سعيّد بمضامينها مسألة سهلة فقد تكون مبادرة المنظمات المدنية أكثر فاعلية في كل ما يتعلق بالحريات أولاً وبـ"الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية"، كما يُطلق عليها، ففي جانب الحريات قد تطرح المبادرة مراجعة المراسيم التي تنتهك حريات الأشخاص وخاصة كل ما يتعلق بحرية التعبير من خلال إلغاء المرسوم عدد 54 وكذلك الإسراع في تفعيل دور هيئة الاتصال السمعي والبصري أو الاتفاق على مؤسسة تقوم بتعديل المشهد السمعي والبصري وخاصة المؤسسات الإعلامية العمومية بالإضافة إلى الاتفاق على مدونة سلوك سياسي يجنب البلاد خطاب الكراهية والعنف.
قد تطرح "مبادرة الإنقاذ" مراجعة المراسيم التي تنتهك حريات الأشخاص وخاصة كل ما يتعلق بحرية التعبير من خلال إلغاء المرسوم عدد 54
أما في الجوانب الاقتصادية والاجتماعية فتبدو الطريق سالكة أمام هذه المبادرة من أجل الذهاب في خيارات تعطي أولوية للطبقات المتوسطة والضعيفة حيث تبدو رؤية الاتحاد ومنتدى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية من جهة ورؤية قيس سعيّد ومناصريه من الأحزاب والشخصيات متقاربة على الأقل على مستوى الشعارات، فالرئيس طالما أعلن في تصريحاته ضرورة الاعتماد على الإمكانيات المتوفرة للدولة لتجنب كثرة الاقتراض بالإضافة إلى تعبيره عن أولوية الاهتمام بالطبقات الضعيفة وأن المؤسسات العمومية ليست للبيع، وهو تقريبًا مع اختلاف بعض التفاصيل ما تتحدث عنه قيادات الاتحاد العام التونسي للشغل.
لا تبدو مبادرة الإنقاذ بعيدة بمسافات عما يريده قيس سعيّد بل ربما ستدعم شرعيته باعتبارها ستؤكد قبر الدستور القديم وربما نهاية جزء من المشهد السياسي
فلا تبدو مبادرة الإنقاذ بعيدة بمسافات عما يريده قيس سعيّد بل ربما ستدعم شرعيته باعتبارها ستؤكد قبر الدستور القديم وربما نهاية جزء من المشهد السياسي الذي كان فاعلًا في السنوات الماضية وقد تتعامل مع قوى وشخصيات سياسية داخل مجلس نواب الشعب الجديد لإجبار سعيّد على عرض نفسه من جديد أمام امتحان الانتخابات الرئاسية، في سياق سياسي أكثر هدوء ومع مؤسسات تكون محل اتفاق مسبق، في الأثناء سيكون برنامج الإنقاذ الاقتصادي والاجتماعي رهانًا يتم الاتفاق عليه حيث يربح سعيّد ولا تخسر المنظمات.
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"