29-يناير-2021

الموقع الأثري بكركوان (آلان دنيز/Gamma-Rapho)

 

"أن تتحوّل قرية بحرية إلى أغنية ترددها "سيرانات" كل البحار في الليالي المقمرة، وتسبّح بجمالها في كلّ الأوقات، فذاك ما لم تتحمله الأسطورة وما لم يقله التاريخ.."، هذا ما قاله الشاعر مراقبًا انكسارات الموج على عتبات قلبه اللّين وهو يقف في أعلى التلّ الصخري لقرية كركوان العاصمة الأبدية لبلاد "تمزرت"  الأمازيغية بالوطن القبلي التونسي. 

حاول الشاعر تفسير حجم الجمال الشعري لكركوان قائلاً "قديمًا عندما كان الزمن ينهمر مع المطر فيسيل في الجداول لتتشرّبه الحقول أزهارًا وأعشاشًا للقبرات.. كانت سيرانات البحر تأتي كلّها إلى هنا على بُسط من عرّيشات بحرية مطرّزة بعناقيد الموج الأبيض لتنام متعبة من فرط التّطواف والغواية عند عتبات كركوان التي تبدو كوحي خفيف يأتي على أوتار نسيم محجّل بالياسمين..".

تأسست كركوان في القرن السادس قبل الميلاد وكانت مسكنًا لألفي مواطن من النوبيين قبل مقدم الأميرة الفينيقية وتأسيس قرطاج

يقول الشاعر تعالوا ليلاً إلى كركوان ودقّقوا السّمع إلى الأغنيات النابتات من جنبات البحر العريض وإلى تسبيحنّ بجمالها وفتنتها وهنّ المغويات الفاتنات السالبات لقلوب البحّارة الشباب..

ويسرح خيال الشاعر الواقف ملء أرض "تمزرت" أجمل البلاد النوبية في تونس ويُصرّ قائلاً  إن "المغويات الجميلات" تركن خلفهن كل قرى الدّنيا، على كلّ ضفاف الأرض وجئن إلى هنا مضرّجات بالياسمين والأرجوان، يسلبهنّ الوسن قوتهنّ فتغفون على وتر قوس من عوسج هدهدته نسائم أعالي البحار. 

اقرأ/ي أيضًا: "قصر لمسة".. مطر ثقافي ناعم في خريف النّسيان

 

الموقع الأثري بكركوان (DeAgostini/Getty)

اقرأ/ي أيضًا:  رباط المنستير.. حصن دفاع ومزار عبادة وبوابة علم

تذكّرت كلام الشاعر وأنا أقف في نفس المكان الذي وقف فيه منذ أكثر من عقدين قبالتي البحر ومن خلفي مدينة نصفيّة مكتملة المعالم، وسط ذاك الصمت الذي يشبه الوحي الخفيف كنت أنصت إلى عظمة ما خلّف الأجداد على "تمزرت" بالوطن القبلي التونسي. قرية قدّت من أمواج وطين، إنها إشراق جميل كخاطرة وأثر فراشة نراه بعيون القلب.

كركوان كانت أمنية علّيسة ومهجعها المُؤجل لكن يبدو أن الربيع قد مرّ سريعًا وطارت المدينة في البال أغنية قرطاجنية، وكركوان تأسست في القرن السادس قبل الميلاد وكانت مسكنًا لألفي مواطن من النوبيين قبل مقدم الأميرة الفينيقية وتأسيس قرطاج.

وعن فترة التأسيس، يذكر المؤرخ التونسي والباحث المختص في التاريخ القرطاجني محمد حسين فنطر، والذي ناقش أطروحة دكتوراه الدولة بالسوربون الفرنسية موضوعها "كركوان مدينة بونية بالوطن القبلي" "كركوان هو الاسم القديم لأرض تمزرت (تعني الغرس) التي تمتد على أغلب مساحة ولاية نابل، وهي بلدة نوبية عرفت أوج ازدهارها واكتمالها في عهد قرطاج وقد استقر بها الأمازيغ وسكنوها لقرون طويلة وتبقى الأثر البوني الوحيد المكتمل الموجود في تونس وهو ما أثبتته وأكدته الحفريات الأثرية العديدة المقامة بالمكان منذ سنة 1953 وإلى اليوم".

المؤرخ محمد حسين فنطر: "كركوان هي بلدة نوبية عرفت أوج ازدهارها واكتمالها في عهد قرطاج وقد استقر بها الأمازيغ وسكنوها لقرون طويلة وتبقى الأثر البوني الوحيد المكتمل الموجود في تونس"

كركوان الأمازيغية كانت ذات إيقاع فلاحي، تنتظر غيم البرتقال مع انتهاء موسم البيادر مع أواخر شهر غشت أو تميور  (أوت/ أغسطس) حيث كانت تربى المواشي وتنتج الحبوب والزيوت والأخشاب.. فتودع بعضها في المطامير وتقايض بالبقية ما تستحقه في الحياة اليومية وخاصة الحرفية والصناعية. 

كما كان البحر مركز الاستعارة والمجاز للكركوانيين البربر فهم يغزلون ليله حبًّا وشعرًا أما ملاحته وفلاحته فهي للطبخ والتمليح من أجل الاتجار بها ومبادلتها مع موانئ أخرى. 

     

الموقع الأثري بكركوان (DeAgostini/Getty)

 

أما التجارة فكانت قافية الحياة الكركوانية لقرون طويلة فميناؤها الصغير فلم يكن مهيئًا لمغامرات الحرب والتّغاور بل كان نافذة على أغلب المدن المتوسطية حيث ازدهرت تجارة الزجاج ومادة "الجير" الذي وجدت أفرانه في طبقات البحث والتنقيب وصباغة الأقمشة والصوف وقد اختصت كركوان بالصباغ القرمزي الذي ظلت آثاره بادية على رصيف الميناء كالوشم في الوجه.

كانت التجارة قافية الحياة الكركوانية لقرون طويلة فميناؤها الصغير كان نافذة على أغلب المدن المتوسطية حيث ازدهرت تجارة الزجاج ومادة "الجير" وصباغة الأقمشة والصوف

عندما تتجوّل في شوارع وساحات كركوان النصفية على امتداد مساحة الثمانية هكتارات وتنصت إلى صمتها المعتّق تكاد تسمع وقع حوافر الخيل وهي تجرّ عربات محملة بأحاديث الأساطير وأدعية الكهنة. 

على الطرقات الواسعة والمرصفة بكلس المكان، ينتبه عقلك إلى ما خلّفه الأجداد من جمال، فالبيوت متجاورة كحدّ المشط فتبدو مبلطة بلوحات فسيفسائية ملوّنة ومجهزة بأفران وذات حمّامات خاصة وشبكة مياه وأخرى للصرف الصحي. قد ينتهي الطريق الى ساحة عامّة واسعة وهنا في هذه الساحة قد يتحلّق البحارة في أيام الضجر الشتوي لشرب منقوع البابونج الساخن في انتظار تباشير الربيع.

ليس بعيدًا عن الساحة يبدو معبد كركوان بكامل أبهته، ينبت في ردهاته صبّار وعوسج وتفوح منه بقايا ترانيم وتمائم. وهنا يقول الأستاذ محمد حسين فنطر  المختص في موقع كركوان الأثري "المعبد يعتبر من أشهر المعابد بغربي البحر الأبيض المتوسط فمن حيث تصميمه نراه مطابقًا للنموذج السامي بمدخله ذي العمودين الأماميين وسقيفته والصحن وفيه ترى المذبح والناووس المخصص للصور المقدسة وله لواحق تفضي مباشرة للصحن ومن مميزاته أيضًا وجود ورشة أقيمت لصناعة الأيقونات الفخارية".

محمد حسين فنطر (المختص في موقع كركوان الأثري): "معبد كركوان يعتبر من أشهر المعابد بغربي البحر الأبيض المتوسط فمن حيث تصميمه نراه مطابقًا للنموذج السامي"

كركوان المتخمّرة في سبات التاريخ تبدو متعالية ومتكبّرة كشجرة لوز مزهرة في بستان فسيح ، وفي إحدى المنعطفات جلست  كأمازيغي عاد لتوه  مكدودًا من حقل الزيتون فتعود للأحداث هيآتها الأولى فأرى شابة تسقي أصيص قرنفل من شرفة بيتها وشيوخ يتجمعون حول موكب مبعوث القنصل الروماني "آتليوس ريغولوس" سنة 256 قبل الميلاد وهو يهدد أهالي كركوان بإزالة القرية من الوجود إن لم يتركوا الأرض والحقول والبساتين والبيوت ويرحلوا… فتعنّت أهل القرية وقرروا الدفاع عن حصونهم لكن الرومان المنتصرين على أرض  قرطاج  وفي إطار "رومنة" أفريكا هاجموا كركوان من جهة البحر فدمروا الميناء  وأحرقوا سفن التجارة وسكبوا صباغ الأرجوان في البحر فتحوّل الشاطئ إلى قصيدة شعر بلون القرنفل.

استجاب الأهالي لطلب الرومان فاتخذوا من الربى المجاورة مساكن جديدة فتركوا عناد السنديان وفلسفة القرمز وتعلموا بلاغة العشب قرب الجداول.. وتسهر قلوبهم محدّقة في قريتهم البهية التي تحوّلت إلى حديقة حب لأبناء كركوان الأمازيغ يأتيها العشاق لترتيب بلاغة عواطفهم وهواجس أيامهم وأحلامهم، أمّا الشيوخ فكانوا يعودون إليها للتذكّر والتّعبد ليكملوا وضع التمائم في المعبد المقدس. لقد عرفت القرية تهجيرًا قسريًا ظل مرويًا على شفاه الجدات الأمازيغيات إلى أيام قريبة.

كركوان، وإذا استعرنا مقولة "هيرودورت" فإنها هبة البحر لأبناء تونس" لكنها تعاني النسيان والإهمال

كركوان، القرية الأثرية النصفية البونية الأمازيغية القرطاجية الرومانية.. والتي توجد على بعد 12 كلم شمال مدينة قليبية من ولاية نابل، يروي قصتها التراجيدية متحف صغير التقط ما تيسّر من الحكاية الشريدة عبر تاريخ البلد.                    

كركوان، وإذا أردنا استعارة مقولة "هيرودورت" فإنها هبة البحر لأبناء تونس" لكنها تعاني النسيان والإهمال كغيرها من المدن الأثرية التونسية الأخرى.

الموقع الأثري بكركوان (DeAgostini/Getty)

اقرأ/ي أيضًا:

مكثر.. هل تبقى المعالم الأثرية شاهدة على حضارات مرت من هنا؟

قصور الجنوب التونسي.. هل تخرجها قائمة التراث العالمي من التهميش؟