31-أغسطس-2023
تكرونة

منذ حوالي سنتين تتعرض قرية تكرونة التاريخية إلى انهيارات صخرية متكررة (DeAgostini/ Getty)

 

"تكرونة" القرية الأمازيغية الجبلية التي صمدت أمام نوبات الدهر وقاومت الغزاة وتحصن أهلها بمرتفعاتها وسط السهول الممتدة، تتهاوى اليوم حجرة تلو الأخرى وتترامى صخورها على السفوح وكأنها تذرف دمع الحياة خشية الانهيار الأخير.

"صخورها معجونة بالصبار" هكذا وصفها الرحالة الفرنسي غي دي موباسان، ولعل نفاذ صبّارها قد عرّى صخورها فانهارت صخرة صخرة.

منذ سنتين تتعرض قرية تكرونة التاريخية من معتمدية النفيضة من ولاية سوسة، والتي تتربع على ارتفاع 300 متر عن سطح البحر، إلى انهيارات صخرية متكررة دفعت السلطات إلى إغلاقها جزئيًا أمام السكان المحليين وغلق بعض المرافق الترفيهية الموجودة بها.

قرية تكرونة الأمازيغية الجبلية التي صمدت أمام نوبات الدهر وقاومت الغزاة وتحصن أهلها بمرتفعاتها وسط السهول الممتدة تتهاوى اليوم حجرة تلو الأخرى وتترامى صخورها على السفوح

صار وضع قرية تكرونة مثيرًا للقلق لِما أصابها من هرم وما تعانيه من نسيان على مر العهود حتى باتت العجوز المقعدة التي تأمل في جرعة ثبات إضافية في مواجهة قسوة الطبيعة.

 

صورة
صار وضع قرية تكرونة مثيرًا للقلق لِما أصابها من هرم وما تعانيه من نسيان على مر العهود (DeAgostini/ Getty)

 

  • وجوب إخلاء المساكن تفاديًا لـ"وقوع كارثة"

تابع المسؤولون والخبراء والإداريون الخطر الداهم على القرية. خطر كانوا يلمحونه بأعينهم بَيْدَ أنهم لم يحركوا ساكنًا رغم نداءات الاستغاثة المتكررة من الأهالي الذين تضرروا بشكل مباشر من ذلك، ففقدوا بعضًا من مصادر رزقهم واضطرّ آخرون إلى النزوح نحو السهول المحيطة أو إلى مغادرة القرية.

أصدرت ولاية سوسة قرارًا إداريًا يقضي بـ"وجوب إخلاء المتساكنين من المناطق المهددة بالانهيار بقوة القانون بعد استيفاء التفاوض معهم"

وقد صدر عن ولاية سوسة، في 30 أوت/أغسطس 2023، قرار إداري يقضي بوجوب إخلاء المتساكنين من المناطق المهددة بالانهيار بقوة القانون بعد استيفاء التفاوض معهم، وذلك نظرًا لأنّ "خطورة الوضعية الحالية لمنطقة تكرونة تهدد سلامة سكان القرية خاصة وأن المنطقة على أبواب أمطار الخريف والشتاء الموسمية" على حدّ ما ورد في البلاغ الرسمي.

كما وقع الاتفاق، وفق بلاغ الولاية، على "إعداد تقرير مفصل في الوضعية ورفعه إلى أعلى هرم في السلطة وإجراء طلب موحد من كافة الإدارات المتداخلة وعلى رأسهم السلطة الجهوية لعقد مجلس وزاري خاص بالموضوع في أسرع وقت ممكن".

صدر هذا البلاغ إثر جلسة انعقدت حول المنطقة الأثرية بتكرونة ضمن عمل اللجنة الجهوية لتفادي الكوارث ومجابهتها وتنظيم النجدة، وهي لجنة جهوية تضم العديد من الإدارات الجهوية تجتمع دوريًا على مستوى مقر الولاية للتوقي من الأزمات المحتملة والتدخل الناجع عند حدوثها.

 

 

يذكر أنه تم في 29 سبتمبر/أيلول 2022 الإذن بغلق الفضاءات المفتوحة للعموم والمنافذ المؤدية للموقع الأثري والكف عن القيام بعمليات الصيانة والتعهد من قبل مصالح المعهد الوطني للتراث وإجراء عمليات الحراسة لمنع الدخول للموقع أمام الزوار والشاحنات الخفيفة والثقيلة والدراجات النارية ما عدا المتساكنين.

كما تم الإذن، آنذاك، بتنفيذ قرارات الإخلاء التي تم اتخاذها من طرف بلدية المكان بعد تنبيه المواطنين للمرة الثانية وتفعيل الإجراءات الاجتماعية التي تم اتخاذها لفائدة المتساكنين المعنيين بعملية الإخلاء. واستكمال إجراءات طلب العروض الخاص بتعيين مكتب دراسات مختص لإجراء الدراسة الفنية المعمقة والمتعلقة بحماية وصيانة وتثمين المعلم الأثري بالتنسيق بين بلدية النفيضة والإدارة الجهوية للتجهيز ودعوة البلدية للإيقاف الفوري لكل أشغال الحفر والبناء بالقرية. غير أن تلك القرارات والأذون بقيت غير مفعلة وغابت معها الحلول الكفيلة لإنقاذ هذه القرية الأثرية.

 

صورة
منذ حوالي سنتين تتعرض قرية تكرونة التاريخية إلى انهيارات صخرية متكررة  (DeAgostini/ Getty)

 

أهالي تكرونة  تشبثوا على مر الأجيال بجبلهم الذي كان شاهدًا على تاريخهم الأمازيغي البربري وعلى حقبات هامة في تاريخ تونس، غير أن هذه الكارثة الطبيعية قد دفعتهم قسرًا إلى مغادرة منازلهم، وتحدثوا بألم عن تجاهل السلطات وعدم اكتراثها وخلوّ وعودها من المصداقية.

أهالي تكرونة  تشبثوا على مر الأجيال بجبلهم الذي كان شاهدًا على تاريخهم الأمازيغي البربري وعلى حقبات هامة في تاريخ تونس، غير أن هذه الكارثة الطبيعية قد دفعتهم قسرًا إلى مغادرة منازلهم

وقد سبق أن تحدث الباحث في التاريخ إبراهيم بلقاسم، في تصريح صحفي، عن "التقصير الكبير فيما يخص صيانة موقع القرية المهددة بالانهيار في كل لحظة" وعمّا "تعانيه القرية من تهميش لهويتها وذاكرتها الحضارية".

 

صورة
قرية تكرونة تتهاوى اليوم حجرة تلو الأخرى وتترامى صخورها على السفوح (DeAgostini/ Getty)

 

وفي هذا الصدد، قال المهندس زاهر قيقة، وهو أصيل قرية تكرونة، في تصريح لـ"الترا تونس" إن "الانهيارات الجزئية لصخرة تكرونة كانت بسبب عدة عوامل طبيعية وبشرية، أهمها تسرب المياه عند موسم الأمطار وكذلك تصريف المياه المستعملة والزلازل الصغيرة على مدى عقود"، مؤكدًا أنّ "هذه المسألة ليست بالجديدة بل تعود إلى الستينات غير أنها تعقدت في السنوات الأخيرة"، وفق تقديره.

المهندس زاهر قيقة (أحد متساكني تكرونة): الانهيارات الصخرية في تكرونة لها تأثير اجتماعي كبير إذ تضررت قرابة 13 عائلة طُلب منهم إخلاء الديار في الجبل خشية وقوع كارثة جديدة، ولا تزال المسألة محل نظر القضاء، خاصة فيما يتعلق بمستحقات التعويض للمتضررين

ويشير زاهر قيقة إلى أنّ "المسألة كان لها تأثير اجتماعي كبير، إذ تضررت قرابة 13 عائلة طُلب منهم إخلاء الديار في الجبل خشية وقوع كارثة جديدة، ولا تزال المسألة محل نظر القضاء، خاصة فيما يتعلق بمستحقات التعويض للمتضررين باعتبار أن السلطة خصصت 30 ألف دينار كقيمة كراء جملية لفترة سنة يستفيد منها المتضررون"، على حد قوله.

وشدد محدث "الترا تونس" على ضرورة تخصيص تمويلات تقدر بملايين الدنانير من أجل الدراسة والتنفيذ لإنقاذ صخرة تكرونة وحماية المنازل و السكان، حسب رأيه.

وفي ذات الصدد، أكد قيقة تمسك السكان الأصليين لقرية تكرونة بمسقط رأسهم، واعتبر أن تصنيف المنطقة سياحيًا يعود إلى أن تكرونة تمثل مركز استقطاب للزائرين من خارج تونس وداخلها".

 

صورة
 صورة لقرية تكرونة تعود لسنة 1988 (Christian SAPPA/Getty)

 

  • من حلم تحويلها لوجهة سياحية إلى واقع النزوح منها

ومن جانبه، تحدّث حسّان، وهو أحد أصيلي قرية تكرونة، "الترا تونس" بألم عن الوضعية التي آلت إليها المنطقة قائلا: "كنا نأمل في السنوات الأخيرة أن تصبح تكرونة قِبلة للسياحة الداخلية والخارجية، أملًا في ازدهار الخدمات والصناعات التقليدية للجهة واستثمار التراث المادي واللامادي في تنمية الجهة، غير أن عوامل عدة كانت حاجزًا"، وفق تعبيره.

وتابع قائلًا: "في البداية حال وباء كورونا دون ذلك، ومن ثمة أنهت الانهيارات الصخرية الأخيرة من أعلى الجبل ما بدأه الوباء، وقضت على أحلامنا، وهاهي العائلات التي لا تزال مقيمة بالقرية مضطرة اليوم إلى النزوح وترك الديار"، على حد قوله.

حسّان (أحد متساكني تكرونة): كنا نأمل أن تصبح تكرونة قِبلة للسياحة الداخلية والخارجية وأن يقع استثمار تراثها المادي واللامادي في تنمية الجهة إلا أنّ الانهيارات الصخرية أنهت أحلامنا

المنازل في قرية تكرونة تم تشييدها بالحجارة الجبلية واتسمت بطابع عمراني أمازيغي وحافظت على المعمار القديم بأسقف نصف دائرية وأقبية وباحات صغيرة. وكانت البنايات متراصة وضيقة يمكن الوصول إليها من السفح إلى الأعلى عبر مسالك ضيقة متناسقة ذات طابع فريد. وتشرف الديار على السهول الممتدة المغروسة بالزياتين وحقول القمح والشعير.

وكان من المنتظر أن تدرج قرية تكرونة كمعلم أثري وتصبح ضمن المسلك السياحي الوطني وتكون من بين 65 مشروع استضافة عائلية وإقامة ريفية في ولاية سوسة باعتبار أن الإقامة الريفية لا تتجاوز 30 سريرًا والاستضافة العائلية 15 شخصًا ويكون الحجز في شكل مجموعات صغيرة ويتم حجزها من عائلات، وفق تصريح سابق للمندوب الجهوي للسياحة بسوسة توفيق القايد.

 

صورة
كان من المنتظر أن تدرج قرية تكرونة كمعلم أثري وتصبح ضمن المسلك السياحي الوطني (ياسين القايدي/الأناضول)

 

قرية تكرونة لم تكن في معزل عن محيطها التنموي والسياحي في العقود الأخيرة، فقد شهدت عدة تظاهرات ثقافية أثثت المشهد في المنطقة ونظرًا لبعدها التاريخي المتميز كانت حاضنة لحرفيي وحرفيات جهة النفيضة والقرى المحيطة بها وقبلة لرحلات سياحية منظمة من طرف المتعهدين من وكالات وديوان السياحة، وأنشئ هناك متحف خاص يتضمن معروضات ثمينة بجانب مقهى سياحي، لكن الانهيارات الجبلية الأخيرة ذهبت بكافة المشاريع فألغيت كافة التظاهرات، وهو ما يستوجب فعلًا تدخلًا سريعًا.

ويمكن الإشارة إلى أن بلدية النفيضة قد أدرجت في ماي/أيار 2021 من ضمن البلديات السياحية من طرف وزارة السياحة التونسية، وهو ما يؤهلها إلى التمتع بتمويلات وحوافز من أجل النهوض بمرافقها ذات الطابع التنموي والسياحي ذي القيمة المضافة ويسمح للمستثمرين بالتقدم بمشاريع تخدم الجهة.