17-مارس-2019

متابعة فعاليات الدورة الثامنة لـ"الشهر الوطني للفنون التشكيلية"

 

عرفت الحياة الثقافية التونسية، مع نهاية خمسينيات القرن الماضي، نقاشات حول ما عُرف حينها بـ"استعادة الذّات "أو"التّونسة" للتخلّص من الروح الاستعمارية التي ظلت مهيمنة على كل مجالات الفنون والآداب وترمي بظلالها على حياة التونسيين في جميع المجالات.

لكن يبدو أن الفنانين التشكيليين التونسيين آنذاك كانوا سباقين لطرح أسئلتهم الحارقة فحسموا أمرهم مبكرًا بالدعوة للتوقيع على الرسومات والأعمال التشكيلية باللغة العربية تأكيدًا على هويتهم العربية الإسلامية.

كما انفتح نقاش مطوّل حول شكل الهيكل الجامع لأنشطتهم حتى أسسوا عام 1968 اتحاد الفنانين التشكيليين التونسيين الذي ترأسه الفنان الراحل زبير التركي، فأصبح بيتًا جامعًا لأجيال من التشكيليين طبعوا الثقافة التونسية بأعمال مصبوغة بروح هذه الأرض الضاربة في القدم.

تأسس اتحاد الفنانين التشكيليين التونسيين عام 1968 وترأسه الفنان التشكيلي الراحل زبير التركي

وظلّ اتحاد الفنانين التشكيليين التونسيين إلى اليوم مظلة لكل الرسامين التونسيين ولكل حساسيات الفنون الجميلة والمدارس والتجارب التشكيلية المتنوعة المنتشرة في كامل البلاد.

يشرف الاتحاد على أهم التظاهرات التشكيلية التونسية في الداخل والخارج، لكن يبقى "المعرض السنوي" هو أعرق تظاهراته وأهمها فهو ينتظم سنويًا دون انقطاع وقد كان فرصة لأجيال من الرسامين لتقديم منجزهم الفني وأعمالهم الإبداعية مما ساهم بشكل مباشر وغير مباشر في الارتقاء بالذوق العام.

اقرأ/ي أيضًا: مدرسة تونس للفنون التشكيلية.. علامة فارقة وتاريخ خالد

وقد اُدرج المعرض السنوي لاتحاد الفنانين التشكيليين، منذ السنوات الأولى للثورة، ضمن تظاهرة "الشهر الوطني للفنون التشكيلية" أو ما عرف بـ"استراتيجية 2015" التي تعمل على تنمية تطلعات هذا الهيكل المهني العريق على المستويين القيمي والعملي. وتتمثل أبرز أهداف هذه الاستراتيجية في دفع مجموعة من التظاهرات الجديدة تليق بالفنانين التشكيليين التونسيين في زمن الحرية ونذكر منها أيام قرطاج للفنون التشكيلية، والملتقى الدولي للنحت على الحجارة، و"بينالي تونس" للفن العربي المعاصر، والصالون الوطني للتشكيليين الشبان، وصالون الفوتوغرافيين الشبان.

غير أن تظاهرة "المعرض السنوي" تظل المحجّة الأعرق والأكثر جذبًا لاهتمام الرسامين والتشكيليين والتونسيين من مختلف الأجيال، وهو ما لمسه "الترا تونس" من خلال متابعته لفعاليات الدورة الثامنة لـ"الشهر الوطني للفنون التشكيلية" التي انطلقت يوم 8 مارس/آذاكر 2019 بالرواق البلدي "قصر خير الدين" وتتواصل الى حدود 9 أفريل/نيسان القادم بمشاركة 300 رسامًا و450 عملًا فنّيًا موزعين على أربعة فضاءات هي: قصر خير الدين، ودار الثقافة المغاربية بن خلدون، وقاعة يحيي ورواق الفنون ببن عروس.

 اُدرج المعرض السنوي لاتحاد الفنانين التشكيليين منذ سنوات ضمن تظاهرة "الشهر الوطني للفنون التشكيلية"

حيث سيستقبل "قصر خير الدين" طيلة الشهر الوطني دفعتين من اللوحات والفنية، الأولى من يوم الافتتاح إلى يوم 22 مارس/آذار 2019 والثانية انطلاقًا من اليوم المذكور إلى نهاية الفعاليات. فيما شرع كل من فضاء دار الثقافة المغاربية بان خلدون وقاعة يحيي في استقبال الأعمال التشكيلية بداية من 15 مارس/آذار الجاري، فيما سيستقبل رواق الفنون ببن عروس نصيبه من الرسومات المدرجة ضمن فعاليات المعرض السنوي بداية من يوم 28 مارس/آذار، وذلك على أن تنتهي جميع المواعيد بتاريخ 9 أفريل/نيسان القادم .

الرسامات المكرّمات: التقدير هو مسؤولية أمام تاريخ الفن في تونس

تتنزّل أنشطة الشهر الوطني للفنون التشكيلية، في الأثناء، ضمن الاحتفال بخمسينية اتحاد الفنانين التشكيليين التونسيين وفي ذلك اعتراف الأجيال لبعضها البعض وتكريس لفلسفة التنّوع الجمالي التي تسري في شرايين الاتحاد منذ نشأته إلى اليوم.

وفي هذا الإطار، كرّم المشرفون على التظاهرة في يوم الافتتاح ثلاث رسّامات قديرات من مدارس فنية مختلفة هن فوزية الهيشري، وزهور القرقوري وآمال بوسلامة، لكن الجامع بينهنّ هو إفناء العمر في ممارسة الفنّ والتدريس بمدرسة الفنون الجميلة بتونس وتكوين الفنانين الشباب. وقد قُدّمت عيّنة مختارة من أعمال الرسّامات المحتفى بهنّ يمكن لمتأملها الوقوف على نضج التجربة الفنية وعمقها وجرأتها على مستوى تناول الألوان ومزجها ودرجات تقاطعها مع الضوء مما يعطيها المزيد من الدلالات والمعاني.

الرسامات الثلاث المكرّمات (رمزي العياري/الترا تونس)

حاور "الترا تونس" المكرمات الثلاث فأكدن أن اتحاد الفنانين التشكيليين التونسيين بجّل المرأة الرسامة واعترف بمسيرتها الطويلة في الرسم والحفر والفوتوغرافيا، وذلك بتنظيم هذه الاحتفالية ضمن أنشطة أهم تظاهرة تشكيلية بحضور وزير الشؤون الثقافية والعديد من الرسامين والمثقفين.

وأشرت المكرّمات أن مما زاد الحدث أهمية بالغة هو تزامنه وتنزيله ضمن احتفال تونس باليوم العالمي للمرأة، كما أكدن أن هذا التقدير والاعتراف لن يزيدهن إلا مسؤولية أمام أنفسهنّ وأمام تاريخ الفن في تونس.

لا فنّ دون حرية

زار "الترا تونس" قاعات العرض معاينًا تنوع المعروضات الفنية في مستوى التقنيات والإحجام والمزج بين الخامات والمواد، إذ يوجد الحديد في مُوأمة مع الخشب، والنسيج في انسجام تام مع النحاس، والطينيات مع الخطيات والفسيفساء مع الحروفية ما يعكس قدرة الفرشاة التونسية على استيعاب المستجدات التقنية وحسن توظيفها دون أن تبدو مسقطة وغريبة.

من المعروضات الفنية في فعاليات "المعرض السنوي" للاتحاد التونسي للفنانين التشكيليين (رمزي العياري/الترا تونس)

اقرأ/ي أيضًا: رسم مائة شخصية في تاريخ تونس.. مشروع وطني بريشة شباب مبدع

وتُلاحظ في المعرض الجرأة التي يتحلى بها الفنان التشكيلي التونسي سواء في اختياره المواضيع أو ميله لمدارس بعينها أو طرقه للمسكوت عنه في المجتمع أو ارتحاله في أرض الجسد بحثًا عن أسرار لم تشاهدها عين من قبل. وتبدو هذه الجرأة واضحة في جرّات الفراشي على البياض، فالفرشاة من خلال أعمال المعرض السنوي لأبناء اتحاد الفنانين التشكيليين التونسيين لم تكن مترددة البتة وهي تترجم فكرة الفنان وهو ما يعكس إحساسًا عاليًا بالحرية يسكن الرسامين، فلا فن بدون حرية.

رئيس اتّحاد الفنانين التشكيليين التّونسيين: تنظيم المعرض السنوي مهمة شاقة

التقى "الترا تونس" رئيس اتحاد الفنانين التشكيليين التونسيين وسام غرس الله الذي أوضح أن الدورة الثامنة من تظاهرة "الشهر الوطني للفنون التشكيلية" لسنة 2019 آخذة في الترسخ كحدث ثقافي تونسي مركزي يضم داخله عدة أنشطة منسجمة فيما بينها وفق تعبيره.

وأشار، في هذا الجانب، قائلًا: "أهم التظاهرات هي المعرض السنوي الذي بات الإعداد له مهمة شاقة تقوم بها إدارة الاتحاد ولجان انتقاء وتوزيع على الأروقة تضم رسامين كبار غيورين على تاريخ هذا الهيكل المهني الاجتماعي العريق في المشهد التشكيلي التونسي وهو ما أضفى ذاك الانسجام في الفضاءات وتلك البهجة الفنية التي نلمحها في أعين الزائرين وخاصة الشباب منهم".

لوحة معروضة في فعاليات "المعرض السنوي" للاتحاد التونسي للفنانين التشكيليين (رمزي العياري/الترا تونس)

وبيّن غرس الله أن هذا الحدث الثقافي الذي دأب عليه الاتحاد منذ الثورة إلى اليوم سينفتح على السينما من خلال تكريم السينمائي التونسي الناصر خمير الذي يعدّ رسّامًا ونحاتًا سبق للاتحاد أن احتضن بعض معروضاته، وهو الوجه الآخر لهذه الشخصية المثقفة حيث ستحتضن قاعة دار الثقافة المغاربية ابن خلدون مجموع أعماله السينمائية تقديرًا لمسيرته وبحثًا عن الجمال التشكيلي في عينه السينمائية.

وبخصوص الندوة الفكرية لهذه السنة، أفادنا رئيس اتحاد الفنانين التشكيليين التونسيين أنها تأتي تحت عنوان "سؤال المتحف في الفنّ المعاصر" تحت تأطير الحبيب بيدة، مضيفًا أن نقادًا ورسامين وأكاديميين وإعلاميين سيشاركون في فعالياتها بمدينة الحمّامات يومي 23 و24 مارس/آذار الجاري. وأضاف محدثنا أن الندوة ستطرح مجموعة من المحاور والأسئلة أهمها مفهوم الفن التشكيلي المعاصر في تونس، وتحديد الفنانين المعاصرين في تونس، والتساؤل حول إذا ما كانت تتوفّر فعلًا مدونة للفن المعاصر.

رئيس اتحاد الفنانين التشكيليين التونسيين وسام غرس الله لـ"الترا تونس": سنمضي اتفاقية مع المؤسسة التونسية لحقوق المؤلف والحقوق المجاورة من أجل تطوير حقوق المؤلف في مجال الفنون التشكيلية

وختم رئيس اتحاد الفنانين التشكيليين التونسيين وسام غرس الله حديثه بأن اتفاقية إطارية ستُمضى خلال فعاليات هذا الشهر بين الاتحاد والمؤسسة التونسية لحقوق المؤلف والحقوق المجاورة من أجل تطوير حقوق المؤلف في مجال الفنون التشكيلية.

تمثل، في نهاية المطاف، تظاهرة "الشهر الوطني للفنون التشكيلية " في دورته الثامنة عام 2019 وما تحويه من أنشطة هامة على رأسها "المعرض السنوي" مناسبة حيوية من أجل ترسيخ عادات ثقافية وفنية جديدة لم يتعود عليها المجتمع التونسي لأنها مسكونة بالممارسة الفنّية الحرة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الفنان التشكيلي لمجد النّوري: الحروفية أعادت الرّوح لسبّورات المدارس (حوار)

أول دورة لأيام قرطاج للفن المعاصر.. العائلة التشكيلية تنهض من تحت الرماد