23-يناير-2023
 قيس سعيّد في الإمارات ماي 2022

صورة للرئيس التونسي في زيارة للإمارات في ماي 2022

مقال رأي 

 
ما يرشح من الكواليس منذ أسابيع وهو ما تعرضت إليه مرارًا في مداخلاتي الإذاعية، أن هناك سببين اثنين لتعطل الاتفاق النهائي مع صندوق النقد الدولي وتأجيل موعد 19 ديسمبر/كانون الأول دون أجل مسمى.

الأول تصريحات الرئيس التونسي قيس سعيّد المتناقضة مع تعهدات الحكومة وخاصة إعلان مدير الصندوق أن تونس تحصلت على القرض بسبب تبنيها لمبدأ التفويت في المؤسسات العمومية. وهو ما استدعى إمكانية أن يمضي الرئيس بنفسه عليه أو يفوّض بشكل من الأشكال رئيسة الحكومة أو محافظ البنك المركزي للإمضاء بما أنه استناداً على دستور 2022 أو الأمر الرئاسي 117، فالرئيس هو من يتحمّل مسؤولية السياسات العامة للدولة.

رغم إمضاء اتفاق الخبراء مع صندوق النقد منذ أكتوبر، لم يتم تفعيل أي تمويل ثنائي نحو تونس في حين أن مصر تحصلت مباشرة إثر توقيع اتفاق الخبراء على التمويلات الخليجية اللازمة لتعبئة الميزانية وهو ما سهل الاتفاق النهائي آخر ديسمبر

الثاني، وهنا موضوع المقال، أن دولتين خليجيتين وهما السعودية والإمارات كانتا قد تعهدتا، حسب مصادر دبلوماسية، بتوفير مليار و500 مليون دولار كتمويل ثنائي في سياق توفير العملة الصعبة الضرورية التي تحتاجها الدولة في مواجهة الأعباء المالية خاصة منها التي تستوجب دفعًا بالعملة الصعبة.

لكن رغم إمضاء اتفاق الخبراء منتصف أكتوبر/تشرين الأول لم يتم تفعيل هذا "الوعد"، في حين أن مصر تحصلت مباشرة إثر توقيع اتفاق الخبراء على التمويلات الخليجية اللازمة لتعبئة الميزانية وهو ما سهل الاتفاق النهائي آخر شهر ديسمبر/كانون الأول الماضي. في حالة صحة هذه الفرضية، ومصادرنا عنها جدية بشكل كبير، يجب أن نطرح السؤال الذي على ألسنة عديد الأطراف الدبلوماسية الأكثر تأثيرًا في تونس: لماذا تراجعت السعودية والإمارات؟

 

 

من الصعب استقراء موقف الطرفين من تصريحات رسمية فهي قليلة إن لم تكن منعدمة، وأيضًا من الصعب استقراء أي مواقف من مراكز بحث قريبة، فهي تقريبًا غير موجودة. سنحاول رغم ذلك تشكيل فكرة تقريبية مما هو متوفر من تصريحات ومواقف يمكن أن تحسب على المواقف الرسمية.

يجب بدءً أن نفصل بين الطرفين، السعودي والإماراتي. ليسا بالضرورة على ذات المهجة سواء في تصوراتهما الإقليمية عمومًا أو في خصوص تونس تحديدًا. غياب الأمير محمد بن سلمان عن "القمة السداسية" الأخيرة في أبو ظبي مؤشر آخر يضاف إلى مؤشرات أخرى أننا بصدد تباين بين الأميرين، بن سلمان وبن زايد، الذين كانا في قلب محور أساسي في المنطقة. لسنا بصدد ذكر دواعي الخلاف بين الطرفين، لكن ما يهمنا هو الشأن التونسي.

غياب الأمير محمد بن سلمان عن "القمة السداسية" الأخيرة في أبو ظبي مؤشر آخر يضاف إلى مؤشرات أخرى أننا بصدد تباين بين الأميرين بن سلمان وبن زايد

إذا بدأنا بمحددات الموقف الإماراتي بعيدًا عن التخمين النظري وفي غياب تصريحات رسمية حاسمة، يبقى من الممكن الإشارة إلى مقال لافت صدر في جريدة "الخليج" الإماراتية بتاريخ 19 جانفي/يناير الماضي خلال انعقاد "القمة الثلاثية" بعنوان: "الإمارات وتونس… مصالح متنامية". المقال تضمن تحليلًا تفصيليًا لا يبدو من قبيل الاجتهاد الشخصي لكاتبه حصرًا، ويبدو الأقرب لموقف شبه رسمي.

المقال يتضمن تقريبًا خارطة طريق دقيقة لضمان أي "دعم" إماراتي، وبعد عرض السردية الإماراتية السلبية لدور حركة النهضة في العشرية الأخيرة، ينتقل الكاتب إلى ما يشبه "روشتة" متطلبات الدعم الإماراتي لقيس سعيّد، ولعل أهم جملة تتضمن في نفس الوقت الجيوسياسي مع الاقتصادي هي التالية: "كما أن لدولة الإمارات مصالح جيو استراتيجية تتصل بجوار تونس لليبيا، ومصالح سياسية ترتبط بكون تونس رأس حربة عربية فرونكوفونية تسهم في التقارب الإماراتي - الفرنسي، ومصالح اقتصادية تتعلق بتطلع الإمارات إلى زيادة حجم التجارة البينية، والاستثمار في مشروعات برنامج التحول التونسي نحو الخصخصة، وتعزيز مكانة الموانئ الإماراتية منصةً لتجارة إعادة التصدير القادمة من شرق آسيا لتونس، وربما الاستفادة من علاقات السوق التونسية بالأسواق الأوروبية".

ما هو مطلوب من قيس سعيّد ليس فقط تموقعًا جيوسياسياً بل أيضًا ثمنًا مصلحيًا اقتصاديًا مباشرًا ضمن التوجه الجيوسياسي الإماراتي العام، سواء الحلف الإماراتي - الفرنسي، أو أيضًا التموقع في "طريق الحرير" الصيني

هكذا ما هو مطلوب من قيس سعيّد ليس فقط تموقعًا جيوسياسياً بل أيضًا ثمنًا مصلحيًا اقتصاديًا مباشرًا ضمن التوجه الجيوسياسي الإماراتي العام، سواء الحلف الإماراتي - الفرنسي، أو أيضًا التموقع في "طريق الحرير" الصيني.

من الصعب أن نقترب من خلفية الموقف الإماراتي بشكل أوضح من ذلك. ورغم اختلاف دوافعهما لا تبدو محددات الموقف السعودي بعيدة عن الموقف الإماراتي، أي تظافر الجيوسياسي مع المصلحي الاقتصادي.

هناك تصريحات رسمية سعودية حول التوجه السعودي "الجديد" بشكل عام ولا تخص تونس حصرًا حول ربط أي مساعدات مالية أو قروض بشروط محددة، أهمها وأوضحها تصريحات وزير المالية السعودي محمد الجدعان في "منتدى دافوس" منذ أيام، إذ يقول: "اعتدنا على تقديم المنح والودائع المباشرة دون قيود ونقوم بتغيير ذلك. نحن نعمل مع مؤسسات متعددة الأطراف لنقول في الواقع إننا بحاجة إلى رؤية الإصلاحات". ويضيف: "نحن نفرض ضرائب على شعبنا، ونتوقع أيضًا من الآخرين أن يفعلوا الشيء نفسه، وأن يبذلوا جهودهم. نريد المساعدة ولكننا نريدك أيضًا أن تؤدي دورك".

لم يتحدث الجدعان عن البعد الجيوسياسي، ولا يتوقع منه أن يفعل ذلك. لكن ما قاله متطابق مع تدوينات تصدر في وسائل التواصل الاجتماعي في صفحات موالية للموقف الرسمي. إحداها وردت في صفحة باسم الأمير محمد بن سلمان، ورغم أنها ليست صفحة رسمية، لكنها تبدو نسخة مطابقة للأصل لما قاله الجدعان.

الجملة الأولى مثلاً: "زمن العطاء السخي دون شروط ولّى من دون رجعة، اعتدنا تقديم المساعدات والدعم المالي دون شروط والآن تغيرت سياستنا..!"، تبدو رسالة شبه رسمية للأصدقاء قبل الخصوم بما في ذلك النظام المصري بقيادة السيسي الذي بصدد الحصول على قروض واستثمارات سعودية بلغت في شهر جوان/يونيو الماضي فقط أكثر من 7 مليار دولار.

في جزء آخر من التدوينة نقرأ ما يلي: "هناك دول فقيرة أو بحاجة لمساعدات إنسانية أو في مجال البنى التحتية والتعليم والصحة، وهذه الأموال يجب أن تذهب لدعمها وتعزيزها أو إنشاء مراكز جديدة، بدلًا من توجيه المال لرئيس دولة ما وهو يقوم بالتصرف بها حسب أهوائه". وفي موضع آخر: "السعودية باتت تعتمد اليوم ما يعرف بحس الإنفاق الاستراتيجي".

نحن بصدد رؤية لا تعتمد فقط التموقع الجيوسياسي الموالي فحسب، بل مصالح اقتصادية ثابتة وعميقة يمكن أن تخلق تأثيرًا مستدامًا، وفي سياق تحالفات استراتيجية طويلة الأمد

هنا نحن بصدد رؤية لا تعتمد فقط التموقع الجيوسياسي الموالي فحسب، بل أيضًا تحوّل قوى مثل السعودية والإمارات إلى قوى إقليمية وسطى "middle powers" ترى أن ترسيخها وتوسعها لا يجب أن يكون على أساس إعلانات سياسية وإنشائيات بل مصالح اقتصادية ثابتة وعميقة يمكن أن تخلق تأثيرًا مستدامًا، وفي سياق تحالفات استراتيجية طويلة الأمد.

السؤال إذًا من جانبين: هل يمكن أن يلتزم قيس سعيّد الذي يؤكد باستمرار على سياسة خارجية "بلا محاور" بالتموقع في محاور مختلطة ومتحركة في الوقت الذي يبدو فيه مكتفيًا بالتموقع "حذو" الجزائر؟

الجانب الثاني: هل يقبل بتموقع سعودي أو إماراتي عميق في الشأن الاقتصادي التونسي من خلال مثلًا التموقع في منشآت لوجيستية مفصلية، لنقل مثلًا أرصفة ميناء رادس، أو مشروع ميناء النفيضة للمياه العميقة، أو أحد المطارات؟

هل يقبل سعيّد بتموقع سعودي أو إماراتي عميق في الشأن الاقتصادي التونسي من خلال مثلًا التموقع في منشآت لوجيستية مفصلية، لنقل مثلًا أرصفة ميناء رادس، أو مشروع ميناء النفيضة للمياه العميقة، أو أحد المطارات؟

نحن إزاء عرض "استراتيجي". لكن هل يمكن أن يحصل ذلك سواء من الطرف السعودي أو الإماراتي في علاقة بقيس سعيّد؟ هل يمكن أن يراه الطرفين كشخصية محورية قابلة للاستدامة؟ هنا ربما توجد شكوك كبرى لديهما يمكن أن تفسر تراجعهما عن تقديم الدعم "الاستراتيجي". 

في كل الحالات، الكواليس نفسها تتحدث عن إمكانية تقدم الأطراف الغربية لتعويض الأطراف الخليجية بدعم سريع يضمن توقيع الاتفاق النهائي بما يضمن على الأقل إبقاء البلد في حالة "إنعاش" نوع من الـlife support status، وهو ما يعكس تخوفًا غربيًا، لنقل أوروبيًا (لنقل خاصة فرنسيًا إيطاليًا) من حالة "انهيار اجتماعي" وما يستتبعه من قوارب المهاجرين.

إمكانية تقدم أطراف غربية لتعويض أخرى خليجية بدعم سريع يضمن توقيع الاتفاق النهائي مع صندوق النقد بما يضمن على الأقل إبقاء البلد في حالة "إنعاش" وهو ما يعكس تخوفًا أوروبيًا من حالة "انهيار اجتماعي" وما يستتبعه من قوارب المهاجرين

ننتظر ونرى خاصة بعد تصريحات الرئيس المتواترة التي تعكس تشاؤمًا ضمنيًا من إتمام الاتفاق خاصة من خلال نبرته المعارضة لفلسفة الصندوق النيوليبرالية. وهذا، أي الانفصام بين خطاب معادي للنيوليبرالية، مع الإصرار على إرسال ممثلي الحكومة ومحافظ البنك المركزي على قاعدة الاتفاق مع صندوق نيوليبرالي أساسًا، هذا الانفصام يستحق مقالًا منفصلاً.

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"