03-أبريل-2019

لا تزال ثقافة التبرع بالأعضاء غير منتشرة بالشكل المطلوب في المجتمع التونسي (Getty)

 

"كيف باستطاعتي أن أصف هذا المحرّك في جسدي الذي يمنحني الحياة اليوم في جوف صدري أو أصف هذه الروح السامية التي تسكنني؟ كيف أصف ذلك المجهول المتوفي صاحب القلب الذي ينبض في داخلي ليضخ الدم في عروقي والحياة في جسدي؟ أشعر بقطعة آدمية في داخلي لشخص لا أعرف من هو، أو ما تفاصيل حياته أو ما كان يحمله قلبه من فرح أو مآس. كلّ ما أعرفه هو أنّه اليوم يسكنني ويبثّ الحياة فيّ وقدد أعطاني الأمل وعمرًا جديدًا".

 معدلّ الحصول على متبرّع قلب ضئيل جدًا في تونس، لا يتجاوز متبرعًا واحدًا في السنة أو السنتين

هكذا حدّثنا علي عبد الحق أصيل قابس (58 سنة) عن عضو من دونه لما كان ليتحدّث اليوم عن حياته الجديدة بعد أن خضع إلى عملية جراحية لزراعة قلب منذ أكثر من 20 سنة. يقول لـ"ألترا تونس" إنّه بقي أكثر من سنتين في قائمة الانتظار للحصول على متبرع لينقذ حياته والحال أنّه كان متأكدًا من صعوبة الأمر، خاصة وأنّ معدلّ الحصول على متبرّع قلب ضئيل جدًا لا يتجاوز متبرعًا واحدًا في السنة أو السنتين.

اقرأ/ي أيضًا: معركة البقاء.. تونسيات يواجهن السرطان بين "صالح عزيّز" و"الدار الخضراء"

يضيف قائلًا: "أن تعيش بقلب متعب ووهن قد تتوقف دقاته في أيّ لحظة وتفقد معها الحياة، ذاك هو الوجع الكبير. وجع يحرمك الراحة والنوم وأنت تفكر في الموت الذي قد يباغتك في أيّ لحظة خاصة وأنّ العثور على قلب بديل يبدو مستحيلًا. لكن اليوم ينبض في جسدي قلب إنسان آخر منذ أكثر من عشرين سنة".

مجتمع متحفّظ على التبرع بالأعضاء

عشرات المرضى في أقسام جراحة القلب بالمستشفيات العمومية ينتظرون الحصول على قلب لشخص متوفى لزراعته في أصعب عمليات زراعة الأعضاء بين موت شخص وبعث الروح في شخص آخر مسجل في قائمة الانتظار.

وكثيرًا ما تتواتر أخبار عن وفاة مريض بعد انتظار سنوات للحصول على قلب دون جدوى على غرار وفاة الشاب تقي الدين بالحاج البالغ من العمر 29 سنة يوم 3 فيفري/شباط 2019. رغم إطلاق حملات تبرع عبر مواقع التواصل الاجتماعي في محاولة لجمع ثمن العملية الاستعجالية الباهظة التي كان ينتظرها الفقيد لكن الموت كان أسرع.

لا تزال ثقافة التبرّع بالأعضاء غائبة في مجتمع يقلل من عظمة هذا النوع من الصدقة إما خوفًا من المتاجرة بالأعضاء أو بتعلّة دينية

فيما وجه الشاب مالك البالغ من العمر 24 سنة والقاطن بمنطقة الطفالة بسوسة منذ أيام نداء استغاثة لإجراء عملية زراعة قلب خارج تونس، لاسيما وأنّه يعاني من قصور في القلب منذ كان عمره 6 سنوات، معبرًا عن تخوفه من الوفاة بنفس سيناريو وفاة والده الذي كان يعاني من نفس المرض وقد فارق الحياة. وتبلغ تكلفة زراعة القلب خارج تونس حوالي 500 ألف دينار.

ولا تزال ثقافة التبرّع بالأعضاء غائبة في مجتمع يقلل من عظمة هذا النوع من الصدقة، ويتوجس منها البعض بين خائف من المتاجرة بأعضائه أو أعضاء أقربائه ممن يتوفون، أو خائف من حكم الدين في المسألة خاصة وقد اختلف الفقهاء حول مسألة التبرّع بالأعضاء.

اقرأ/ي أيضًا: ماذا تعرف عن "مارس الأزرق"؟

وتقوم عملية التبرع بالأعضاء وزراعتها على منح عضو أو جزء منه من شخص بعد وفاته إلى شخص آخر، أو من إنسان حي إلى شخص آخر. فإذا أصيب أحدهم بالوفاة الدماغية، يتم إبلاغ عائلته وسؤالهم عن إمكانية استئصال الأعضاء السليمة لإنقاذ 8 مرضى، وعند الموافقة يتم الاستفادة من الكليتين والقلب والقرنيتين والكبد والبنكرياس والرئة.

وفيما إذا كان المتبرع على قيد الحياة، فإنه يستطيع التبرع بإحدى كليتيه أو بجزء من الكبد، فالإنسان يستطيع أن يعيش بكلية واحدة، والكبد يعاود النمو ويسترد حجمه الطبيعي خلال أشهر قليلة. وتتم عملية زراعة الأعضاء بعد فحوص طبية شاملة للتأكد من تطابق فصيلة الدم ونوع الأنسجة بين المتبرع والمتلقي، وتستكمل العملية تحت مظلة قوانين صارمة ورقابة طبية مكثفة.

لكن حسب إحصاء صادر عن المركز الوطني للنهوض بزرع الأعضاء، فإنّ نسبة عائلات المتوفين دماغيًا الرافضة للتبرع بأعضائهم تبلغ 86 في المائة. وعلى الرغم من وضع وصف "متبرع" في بطاقة التعريف الوطنية لتشجيع التبرع بالأعضاء، تظل نسبة إقبال التونسيين دائمًا دون المأمول.

أكثر من 9 آلاف مريض ينتظرون زراعة كلى

مكرم (35 سنة) تمكّن من الحصول على كلية من أحد أقربائه بعد إجراء التحاليل وتطابق فصيلة الدم وتلائم الأنسجة ليتخلّص نهائيًا من عملية تصفية الدم التي كان يقوم بها باستمرار.

يقول مكرم لـ"ألترا تونس" إنه يعيش حياة جديدة حاملًا في أحشائه وديعة لتستمر من خلالها أنفاسه "كم هو جميل أن تحتضن في داخلك دفء إنسان آخر مزروع في أحشائك ليهبك الحياة بعد أن كنت أعيش وجع تصفية الدم لأشهر عدّة نتيجة القصور الكلوي. معاناة لن يستطيع وصف ألمها أو وقع وجعها سوى من به ذاك الوجع لكنني محظوظ أنني حصلت على متبرّع جعلني أحيا مرة أخرى حياة طبيعية دون الحاجة إلى تصفية الدم أو آلامه".

مكرم (تمكن من زرع كلية): كم هو جميل أن تحتضن في داخلك دفء إنسان آخر مزروع في أحشائك ليهبك الحياة بعد أن كنت تعيش وجع تصفية الدم

هم آلاف المرضى كلّ يحمل علّته ووجعه، ظلوا مجرّد رقم في سجل الانتظار على أمل الحصول على متبرّعين ينقذوهم من وجع تصفية الدم. محمّد بن خليفة (34 سنة) أحد هؤلاء الذين ينتظرون إجراء عملية زراعة كلية منذ سنوات. يقول لنا إنّه سئم الانتظار وما عاد يحتمل وجع تصفية الدم الذي يجعله حبيس البيت لأيام نتيجة تلك الآلام فيما لم يعد جسده النحيل قادرًا على مقاومة مرضه الذي فاق خمس سنوات.

وقد كشفت رفيقة باردي المديرة العامة السابقة للمركز الوطني للنهوض بزرع الأعضاء عن وجود أكثر من 1400 مريضًا في صدارة قائمة من هم بحاجة إلى إجراء عمليات زرع كلى، وأنّ الحصول على الكلى البديلة يتم إما بواسطة متبرع حي أو عن طريق الموت الدماغي. وأشارت أن أغلب الحالات ينتظرون متبرعًا تعرض للموت الدماغي وهو ما أدى إلى طول فترة الانتظار التي تصل إلى 15 عامًا قد يموت خلالها المريض ولا يجد متبرعاً. كما لا تتجاوز عدد عمليات زرع الكلى من متبرع حي 50 عملية في السنة وهو عدد ضئيل جدًا مقارنة بالعدد الكبير لمن هم في قائمة الانتظار.

الطاهر قرقاح (مدير المركز الوطني للنهوض بزرع الأعضاء): المجتمع التونسي لا يعي بعد ضرورة التبرع بالأعضاء لإنقاذ حياة أشخاص آخرين 

من جهته، أشار الطاهر قرقاح مدير المركز الوطني للنهوض بزرع الأعضاء لـ"ألترا تونس" أنّ المجتمع التونسي لا يعي بعد ضرورة التبرع بالأعضاء لإنقاذ حياة أشخاص آخرين خاصة وأنّ أعضاء المتوفين خصوصًا في الحوادث قد تنقذ حياة عدّة أناس. وأكد أنّ أغلب المتبرعين يكونون عادة من أهل المريض ممن يقبلون على التبرع بإحدى الكليتين أو جزء من الكبد وهو ما ينقذ حياة بعض المرضى لكن حياة بعض ممن هم في حاجة إلى زراعة أعضاء أخرى تبقى رهينة وفاة أحدهم دماغيًا وقبول عائلة المتوفي التبرّع بأعضائه.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الصحة العمومية في تونس.. تدهور مستمرّ ودعوة للإنقاذ قبل فوات الأوان

في مستشفى سليانة.. غياب طب الاختصاص يعمّق أوجاع المرضى