15-سبتمبر-2022

جلّ التونسيين يميلون إلى التعامل مع السرطان تعاملاً تحكمه الريبة والخوف من المواجهة حتى أنهم ينكرون اسمه وينعتوه بـ"المرض الخايِبْ" (صورة توضيحية/Getty)

 

من باب عليوه المحطة المطلة على مقبرة الجلاز، توجهتُ إلى باب سعدون المحطّة القريبة من معهد صالح عزيّز، المركز التونسي لمقاومة مرض السرطان، مرورًا بمحطات برشلونة والجمهورية وباب الخضراء وباب العسل، لم أستطع الفِكاك في هذا المسار من هواجس الموت والزوال، غير أنّ المشاهد التي اكتظت بها عيني عبر نوافذ المترو كانت في أغلبها توحي بالحياة والصمود والأمل، حركات الباعة النشيطة  ودردشات الفتيان  الضاحكة على عتبات المقاهي وضحكات الأطفال الحالمة وعطور الصبايا الحسان تصارع روائح عرق الكادحين وهمومهم فتغلبها.

أنشئ مستشفى صالح عزيّز في تونس العاصمة سنة 1969 واختص في الحرب على الأورام الخبيثة

هواجس الأجل وعطور الأمل قطبان ظلّا يتدافعان في ذهني فحَكما رؤيتي وزاوية نظري لكل ما عاينته وما بلغني وما حدّثني به الخُبراء في مرفق صحّي هو أشبه بالمستشفيات الحربيّة غير أنّ الحرب فيه لا تعرف الهُدنة ولا تعترف بالأشهر الحرم بل تزداد من سنة إلى أخرى حماسة وشدّة وتقتضي التحلّي الدائم والمتجدّد بالصبر والمقاومة والحكمة والتدرّب على حسن استخدام أسلحة ما انفكت تتطوّر من سنة إلى أخرى.

 

مستشفى صالح عزيّز

مستشفى صالح عزيّز  بالعاصمة التونسية (أحمد الزوابي/ألترا تونس)

 

هذا شأن الإطار الطبي وشبه الطبي في مستشفى صالح عزيّز منذ إنشائه سنة 1969، الحرب على الأورام الخبيثة، كانت وما تزال منذ عقود سجالاً فيها قصص البطولات والانتصارات والفتوحات وفيها الإخفاقات والنهايات الأليمة غير أنّ الثقافة الصحيّة في تونس خاصّة في صلة بأمراض السرطان تحكمها قاعدة كتمان الحديث عن الشفاء وعدم الاعتراف بجميل الأطباء في مجال صحي شديد التعقيد والعمق.

أكثر من 19 ألف حالة إصابة بالسرطان جديدة كلّ سنة، حوالي 11 ألف ضحيّة، ونسبة الوفيات تتخطّى الخمسين في المائة في تونس

أكثر من 19 ألف حالة سرطان جديدة كلّ سنة، حوالي 11 ألف ضحيّة،  نسبة الوفيات تتخطّى الخمسين في المائة في تونس، أرقام مبثوثة في مراكز الإحصاء المحليّة والعالميّة يتمّ التكتم أحيانًا على بعض حيثياتها، نِسبٌ مرتفعة مثيرة مقلقة لكنها صمّاء بكماء، تخاطب الأنفس المرتابة فتزيدها رعباً وهلعًا، لذلك كانت الحاجة ماسّة إلى من يستنطقها بهدوء ويفكّكها بروية حتى نعرف تفاصيلها وما تنطوي عليه من عناصر متشعبة ودقيقة ومتداخلة تتخذ أحيانًا ملمحًا إشكاليًا.

"لا يصحّ بأي حال من الأحوال أن يخضع التقييم في مجال السرطان إلى التسرع والأهواء وإلقاء العناوين والنسب والأرقام على عواهنها دون نظر وتحقيق وتحليل عميق ينبغي أن تأخذ المعالجة أحيانًا منحى فلسفيّا وثقافيًّا "، بهذه العبارة افتتح حاتم بوزيان حديثه مع "ألترا تونس". وبوزيان من أكثر الأطباء التونسيين خبرة وبراعة في اختصاصه وهو الأستاذ في جراحة الأورام بمعهد صالح عزيز ورئيس التحالف التونسيّ ضدّ التدخين ورئيس لجنة الجودة بكلية الطب بتونس.

 

 

  • "المرض الخايب" وضعف الإقبال على التقصّي المبكّر في تونس

أوضح الأستاذ في جراحة الأورام بمعهد صالح عزيز حاتم بوزيان لـ" ألترا تونس"  أن جلّ التونسيين يميلون إلى التعامل مع السرطان تعاملاً تحكمه الريبة والخوف من المواجهة، وهو ما يمكن اعتباره حاجزًا نفسيًا وثقافيًا مساهمًا في الإعراض عن توخّي شروط التوقّي والتشخيص المبكّر، فمجرّد إنكار اسم المرض ونعته بـ"المرض الخايِبْ" يدفع نحو الإخفاء والتخفّي.

أستاذ في جراحة الأورام بمعهد صالح عزيز لـ" ألترا تونس": التشخيص المبكر كفيل بإنقاذ أكثر من تسعين في المائة من المصابات بسرطان الثدي

الخايب على حدّ تعبير بوزيان "ليس مرض السرطان في حدّ ذاته"، "الخايب" فعلاً هو رفض التعامل معه بشجاعة وحكمة، فاعتبار السرطان قاتلاً بالضرورة هو ما يدفع الكثيرين إلى التنكرّ لأهمية التشخيص المبكّر. يا خيبة المسعى! ما أهمية العمل المضني والبحوث المعمقة في ظلّ خطاب ينشر ثقافة الإحباط والاستسلام؟"، وفق تعبيره.

من النماذج التي عرضها محدثنا لـ" ألترا تونس" أنّ التشخيص المبكر كفيل بإنقاذ أكثر من تسعين في المائة من المصابات بسرطان الثدي، لذلك ثمَّن المختصون في مناسبات عديدة المبادرات التي تقوم بها الجمعيات الوطنية والعالمية ومنها على سبيل المثال فعاليات "أكتوبر الوردي" التي تراهن على التوعية بخطورة سرطان الثدي والتنبيه إلى إلزامية التشخيص المبكّر، مع العلم أنّ هذا النوع من الأورام يمثل ثلث عدد الإصابات بالسرطان لدى النساء في تونس وعددها يتراوح سنويًا بين 3000 و3500، إنّ الخطوات الاحترازية لكفيلة بإنقاذ هذا الكمّ الهائل من المرضى، وفق تقديره.

 

 

  • تدخّل الصناديق الاجتماعية في إجراءات الوقاية، لما لا؟

الإعراض عن التشخيص المبكّر في التوقي من مرض السرطان لا يرجع فقط إلى أسباب نفسيّة وثقافية ولا يعود إلى تراخي التونسي وعدم اكتراثه أو إلى فزعه من مواجهة مصيره الصحي إنمّا يعود كذلك إلى أسباب ماديّة، فالخصاصة جعلت المريض يتقشّف في العلاج والأدوية ولا يكاد يزور الأطباء إلا عند الضرورة القصوى.

لم ينكر بوزيان هذه المقاربة ولكنه أصرّ على ضرورة تحويل شعار "الوقاية خير من العلاج" إلى ثقاقة سلوكية وتجسيمه من خلال تشريعات رسمية وإجراءات ملموسة. من تلك الإجراءات، يضيف بوزيان، جعل التشخيص المبكر للسرطان مكفولاً بالتغطية الاجتماعية، سواء تعلّق بالتحاليل أو الصور أو غيرها من الخطوات التحسُّبية.

الدكتور حاتم بوزيان لـ"ألترا تونس": ضرورة جعل التشخيص المبكر للسرطان مكفولاً بالتغطية الاجتماعية

وينطبق هذا التمشي بنفس الدرجة على مقاومة التدخين والتصديّ له بوسائل شتى قانونية وتحسيسية وفنية ودرامية وتعليمية فضلا ًعن تدخّل الصناديق الاجتماعية.

وردّا على من يرى في هذا المسعى إثقالاً لكاهل الصناديق الاجتماعية التي تعاني ضائقة ماليّة تهدّد بالإفلاس، يؤكد بوزيان أنّ "وضع تشريعات تضمن للمواطن استرجاع نسبة من مصاريف التشخيص المبكر خطوة لا تساهم فقط في التشجيع على الفحص المبكر إنما تتيح للإطار الطبي كسب الوقت والطاقة وإيقاف المرض في مراحله الأولى ممّا يضمن للدولة التقليص من المصاريف الخيالية التي يقتضيها العلاج بالأشعة والكيمياوي والليزر والعمليات الجراحية الخطيرة والإقامة المطولة في المستشفى"، بناء على ذلك يتساءل بوزيان "ألا يعد الإنفاق على التشخيص المبكر أفضل ماديًا وعلميًا وبشريًا ونفسيًا من التعويض على مصاريف العلاج في مراحل متقدمة من المرض؟".

  • تأخر المواعيد واللجوء إلى العلاج "الرعواني"

الخصاصة لا تتسبب فقط في ضعف الإقبال على التشخيص المبكر إنما تتسبب كذلك في اللجوء إلى العلاج الرعواني بالأعشاب أو غيرها من الأساليب التي تدخل في باب التحيّل والدجل. وحينما تتظافر محنة الفقر مع محنة تأجيل المواعيد إلى آجال بعيدة قد يسبقها الأجل، في هذه الحالة، يلجأ مرضى صالح عزيّز إلى طرائق علاج بديلة.

يلجأ العديد من مرضى صالح عزيّز إلى طرائق علاج بديلة معظمها غير علمية مع تظافر محنة الفقر ومحنة تأجيل المواعيد إلى آجال بعيدة قد يسبقها الأجل

لا يحتاج الباحث للتحقق من هذا "الانحراف العلاجي" إلى شهادات وأقاصيص حسبُك أن تنظر ذات اليمين وذات الشمال وأنت قبالة باب صالح عزيز حتى تشاهد المؤشر الأوّل رجال ونساء احترفوا بيع الأعشاب أمام المستشفى وعلى جوانبه:

"* صباح الخير حاج
* صباح الخير ولدي تفضل
* "العلنده" هاذي كيفاش نستعملها؟
* تْغليها وتشربها على الخواء ضربه ضربه للكونسار..."

 

العلاج الرعواني

اللجوء إلى العلاج الرعواني بالأعشاب أو غيرها قرب مستشفى صالح عزيّز  (أحمد الزوابي/ألترا تونس)

 

داخل المستشفى يتضح لك المؤشر الثاني، مئات المرضى ينتظرون أدوارهم، ذكرت لنا ناظرة العيادة الخارجية في حديث عرضيّ أنّ عددهم يدرك يوميًا حوالي الخمسمائة، هؤلاء يستقبلهم تسجيلًا وتوجيهًا كمٌّ محدود من الإداريين والإطار شبه الطبي، وبسبب الخوف والصدمة وانعدام الثقة والأمية أحيانًا يطرح المريض ومرافقوه وفق محدثتنا السؤال مرات ومرات، فيحتاج المسؤول حينئذ إلى التحلّي على حدّ تعبيرها باللياقة وضبط النفس و"الماخذه بالخاطر" والاستئناس بما اكتسب من خبرة وما جُبِلَ عليه من حسّ إنساني إزاء حالات مرضيّة محزنة مربكة، تُتابع الناظرة قائلة "ما يجعلنا نصبر على هذا الضغط تلك الآلام التي تراها في أعين المرضى وذويهم ممّن يقطعون مئات الكيلومترات ويتعرضون في طريقهم إلى المستشفى إلى ألوان شتى من المتاعب والضغوطات".

في نفس السياق، يؤكّد الدكتور "بوزيان" أن الضغط النفسي الذي يفرضه المريض على الإطار الطبي وشبه الطبي يساهم في تقوية العزائم والانخراط في العمل دون حسابات والتغاضي عن الجهد الإضافي والاجتهاد الاستثنائي، "في صالح عزيّز، يضيف بوزيان، بنبرة تأملية "عوالم لا تحكمها في الغالب المعايير الماديّة والميقاتية المألوفة، إنها عوالم العطف والرفق والرحمة التي يفرضها المقام".

الدكتور حاتم بوزيان لـ"ألترا تونس": "في صالح عزيّز، عوالم لا تحكمها في الغالب المعايير الماديّة والميقاتية المألوفة، إنها عوالم العطف والرفق والرحمة التي يفرضها المقام"

بوزيان يرى أنّ أساليب العلاج الموازية تشكلّ خطورة في حالات أربع، أولها أن تقدّم نفسها باعتبارها بديلًا عن العلاج العلمي، ثانيها أن يكون مضرًّا وغير متناغم مع الدواء ووصفات الطبيب المباشر، وثالثها أن تكون سببًا في التسمم والجروح ورابعها أن تمثل مصدرًا آخر لاستنزاف مال المريض واستغلال وضعيته النفسية الهشة.

ذكر بوزيان لـ"ألترا تونس" بعض الحالات التي عاينها، منها تفطنه وهو يعالج أحد المرضى لتعرضه للكيْ من قبل أحد الدجالين وهو ما تسبب له في أعراض جانبية. والدكتور كما يقول لا يرفض لجوء المريض إلى بعض سبل العلاج الموازية التي يقتصر دورها على الحمية الغذائية وبث الشعور بالأمل في النجاة، لأنّ التفاؤل بصرف النظر عن مصدره دينيًا كان أو فنيًا أو عاطفيًا يُقوي مناعة المريض فيساعده على الاستجابة للعلاج.

 

 

 

  • العلاج بالمناعة.. الآمال والحدود

من الفتوحات العلمية الحديثة العلاج بالمناعة، وردّا على سؤال "ألترا تونس" حول أهميته، قال الدكتور بوزيان "إنّ هذا الاكتشاف يندرج ضمن باب أوسع في تطور معالجة السرطان منها التداوي بالليزر والروبو وتقلص المخلفات والآثار للعمليات الجراحية والعلاج بالأشعة، أمّا بالنسبة إلى العلاج بالمناعة فإنّ نجاعته تكاد تقتصر حاليًا على أنواع محدودة من السرطان"، وتابع "المشكلة الثانية تتمثل في ارتفاع تكلفة هذا العلاج لأنه سليل بحوث طويلة ومكلفة".

الدكتور حاتم بوزيان لـ"ألترا تونس": العلاج بالمناعة تقتصر حاليًا نجاعته على أنواع محدودة من السرطان

من جهة أخرى، يضيف بوزيان، "لا بدّ من التنويه بالتكوين المتميز الذي يحظى به أطباء الاختصاص في هذا المجال وهم الأقدر على اختيار العلاج الأمثل الذي يراعي ثنائية النجاعة والإمكانيات الماديّة للدولة"، وحينما طلبنا مثالًا، أجاب "افترضْ أن دواء كفيلًا بضمان أشهر إضافية لأحد المرضى يضاهي في قيمته المادية أدوية كفيلة بإنقاذ المئات أو الآلاف أيها تختار؟".

فلسفة الدولة والصناديق الاجتماعية، يضيف بوزيان، يحركها في تونس وفي سائر البلدان بما فيها المتقدمة مبدأ تقديم الصحة العامة على صحة عدد محدود جدًّا من المرضى رغم يقيننا أن يومًا إضافيًا في حياة مريض واحد لا يقدّر بثمن.