26-يوليو-2018

التهيليم هو غناء رعاة الإبل في الجنوب التونسي (مريم الناصري/الترا تونس)

"شبيك تتهيلم" هكذا قالت امرأة وهي تنهر ابنها الصغير، وقعُ اللفظ غريب على مسامعي ولم أفهم معناه لكنّه رسخ في ذاكرتي. كان ذلك أثناء وجودي في ولاية توزر، منطقة الإبل والنخيل وجمال الصحراء، خلال الزيارة الأولى لي لتلك المنطقة الصحراوية لحضور فعاليات مهرجان صحراوي.

وتكررت الكلمة على مسمعي من أحد الرفاق حين كنا نتبادل أطراف الحديث عن صديق لم ألقاء منذ أكثر من سنة، فقال لي إنّه كعادته " دايما يتهيلم". استوقفني اللفظ مرة أخرى لأني لم أعرف معناه، ولم يسبق لي أن سمعته من قبل ليخبرني جليسي أنّ "التهيليم" هو لفظ يدل على الغناء خلال رعي الإبل، وهو خاص برعاة الإبل خلال تجوالهم بالصحراء والبحث عن مياه لري بعيرهم. ولكن أصبح البعض يستعمله للتعبير عمّن يغني أو يغمغم ببعض الألحان أو الكلمات الشعبية.

 "التهيليم" هو لفظ يدل على الغناء خلال رعي الإبل وهو خاص برعاة الإبل خلال تجوالهم بالصحراء والبحث عن مياه لري بعيرهم

اكتشفت فيما بعد أنّ الاستعمال الأصلي لدى أهل الجنوب لعبارة "التهيليم" يأتي في إطار طقوس ري الإبل بعد غبّها، ويُقال في قاموس اللغة "غَبَّتِ الْمَاشِيَةُ فِي الوِرْدِ أي شَرِبَتْ يَوْماً وَتَرَكَتْ يَوْماً" وذلك عادة ما يكون لمدّة طويلة خاصة خلال فترة الصيف. وقد كتب محمد الناصر بالطيب في كتابه عن سقي الإبل أنّ "الإبل تفضّل في فصل الشتاء رعي النباتات المالحة المجاورة للسباخ وذلك لحاجة عظامها للكالسيوم. وملوحة هذه النباتات تجعلها في حاجة للضراب دائمًا حتى قال الشاعر زيدان ألول وهو من الرعاة المشهورين "شرابك كل يوم كثير عليّ" وذلك لأنه يتعبه، "وشرابك يوم بعد يوم كثير عليك" لأنه يعرف حاجتها الأكيدة للماء".

اقرأ/ي أيضًا: فن الأدبة أو الشعر الملحون التونسي.. ذاكرة شعب للاضمحلال

ولذلك يجتمع الرعاة وأصحاب الإبل ويتعاونون على ريِّها "على غبْ"  ولبعث الحماس في بعضهم يغنُّون و"يهيلمون" مثل قولهم:

دَلْو الشَّلواشْ *** ما يسقيهاش

دَلْو الشنّة *** ما اسمحْ غناه

ناقة فطـُّوم *** عل البير تحوم

ناقة داداي *** داعوها جاي

تشرب من ماي *** ناقة فطـُّوم

عل البير تحوم *** حلفت بالصوم

لا نرَوِّى اليوم *** تبغي جغموم

وحتى لا ينقطع حبل "التهيليم"، يردد الرعاة أثناء جذبهم للدلو من أعماق البئر، عبارات مثل "أهمُّو مية" و"آهُم آها".

"التهيليم" هو غناء خاص برعاة الإبل (مريم الناصري/الترا تونس)

استهوتني بذلك قصة الرعاة وأغانيهم للإبل خلال سقيها، ولكن هل مازالت تلك العادات إلى اليوم؟ يُطرح السؤال حول إذا ما كان رعاة الإبل يحافظون على تلك الأغاني القديمة، خاصة وأنّ الجنوب التونسي يزخر بالأهازيج الجماعية والشعر الشعبي الذي يختلف باختلاف المناسبة اليى يؤدى فيها، والطريقة التي تؤدى بها أغانيهم المتوارثة والتي غالبًا لا تتباين من حيث القالب العام المتميّز بصبغة لحنية بسيطة.  

الراعي محمد المرازقي: لسقي الإبل والبحث عن الماء في الصحراء طقوس متوارثة قد تكون قلّت ولكنّها مازالت متواجدة في الجنوب التونسي

يقول محمد المرازقي (53 سنة) راعي إبل بتوزر لـ"الترا تونس" إنهم يقومون برعي الإبل طيلة السنة، ولكنّهم يتوغلون أكثر في الصحراء صيفًا بحثًا عن المراعي، ليقوموا برعي الإبل جماعات وليس فرادى، فرعي الإبل قد يضطرّهم إلى البقاء في الصحراء أيّامًا متتالية. ويضيف المرازقي في حديثه معنا أنّ لسقي الإبل والبحث عن الماء في الصحراء طقوس متوارثة، قد تكون قلّت ولكنّها مازالت في بعض القرى وبعض المناطق الجنوبية، إذ يغني خلالها الرعاة "التهيليم" بقطع شعرية شعبية بالعامية والأمازيغية أيضًا، وتُؤدى بآلات إيقاعية ودونها أحيانًا.

"التهيليم" في تطاوين جنوب تونس

وفي قرية تمغزة، نصّب بوراوي (54 سنة) خيامه في بوّابة الصّحراء في "الخوي" على بعد 6 كيلومترات من وسط القرية المذكورة. ويحدثنا بوراوي أن "الخوي" هي الأرض المنبسطة بين مرتفعين يحميان رعاة الإبل من الرياح والحرّ إذ يختار الرعاة أماكن قريبة من بعض الشلالات على غرار شلالات تمغزة ليجتمعوا ويمارسوا طقوسهم والتي من بينها أغاني "التهيليم" التي يرددها خاصة كبار السنّ. وتتغنّى هذه الأغاني، وهي إحدى الأنماط الشعرية الملحونة، بالإبل أساسًا ومن ذلك:

حب الجــمــــل شغــشبني ** نهبني سـهبني في الكنين غلبني

عطشان من شُـول اللـّـبن شرَّبـني ** قال للقريحة يا قريحة ذوقي

خطف لفني عالذِروْتَه ركبني ** ردف دفني رد الجمل معشوقي

في البادية تربينا ** طيور بِر في بَرْ البرور نشينا

بهز لزنا الحاضر غلب ماضينا ** غزي غزنا نقص عديم احروقي

ولولا الجمل ظل الفحل يحذينا ** رانا ندبنا عالخـلا يا بوقي

لولا الجمل بوذروة ** يحمل الشروة من مقاته يروى

من الصبر خلالي غنيم الثروة ** لسوقه جلبني ما انتبهت لسوقي

عليه قبل زرناه الصفا والمروى ** وفي وين نمشي بالجمل امروقي

وقد كان يرددها بصوت بدوي صحراوي، وترنيمة بسيطة ليردد معه مرافقيه بعض الترنيمات التي حفظوها عن الأجداد. وهي أغاني يكسرون بها صمت الصحراء والبادية خلال تنقلهم في الصحراء لرعي الإبل أو سقيها. وقد تنقلت حينها من خيمة إلى أخرى أقتفي آثار قصص موروثة ما زالت منحوتة في أذهان الكبار والصغار على حدّ سواء، وحديثهم عن العلاقة التي تجمعهم بإبلهم في أقاصي البادية.

اقرأ/ي أيضًا: فرسان يروضون الخيول تخليدًا لتراث الفروسية في تونس

وقد كتب الباحث التونسي محمّد جيزراوي في مؤلفه عن الموروث التونسي بعض قصص وطقوس "التهيليم" أو "التهوليم" قائلاً إنهم يستعملون خابية من الجبس المحلي مثقوبة من الأسفل يطلقون عليها اسم "البغلة" ولتسهيل عملية الوصول إلى البئر كانوا يضعون علامات تدلّ عليه خاصة وأنّ تضاريس المكان متشابهة. وتتمثل هذه العلامات في أعمدة خشبية وأكداس من الحجارة، كما يهيئون بالقرب من الجوابي الخاصة بسقي حيواناتهم يسمونها "مسقى" أو "مصب"، وذلك كما ورد في مؤلفه.

 كتب الباحث التونسي محمّد جيزراوي في مؤلفه عن الموروث التونسي بعض قصص وطقوس "التهيليم" أو "التهوليم" في تونس

كما ذكر الباحث أيضًا قائلًا إن "الميراد لا يتمّ يوميًا إنّما يتبع نظامًا صارمًا انطلاقًا من معرفتهم الدقيقة بحاجة حيواناتهم للماء، والتي تتغير حسب الفصول والمراعي التي ترتادها. ويتغيّر معها مفهومهم للمصطلحات المستعملة في ذلك. فعندما تسمع أحدهم يتحدّث عن "الغبّ" في الخريف فمعناه أنّ الإبل مع الراعي في الصحراء في أواخر الصيف إلى أوائل الشتاء ترعى في الأراضي الرملية فتأكل أوراق الأشجار الخصراء التي تحتوي على كميات من المياه تجعلها في غنى عن الذهاب إلى البئر. وها هو أحد أفارد قبيلة المرازيق يصف " وأما الميراد يا ولدي ماهوشي إلي يواتيه يسقد، ما ترد الناس كان بالرباطي ومتسلحة...والماء في بير سلطان جوبة بعيدة..والجباد يجبد بالقامة ويهيلم..."

"التهيليم" من الثقافة البدوية الموروثة في الجنوب التونسي (مريم الناصري/الترا تونس)

وفي تلك الظروف من العمل الشاق حسب الكاتب "يؤدي الرعاة أغانيهم المفضلة بأنغام منتظمة وبطريقة جماعية ذات لحن معروف وموحد، تغيب فيه آلات النفخ والإيقاع. ويتكفل واحد منهم بترديد كلمات الأغنية في حين يردد البقية "هاهم" ويقصدون بذلك الإشارة إلى الإبل أو الأغنام، ومن هنا أطلقوا على هذا الصنف من الأغاني اسم التهوليم".

يطلق على "التهوليم" في باقي المنطقة العربية "الحداء" وهي ترنيمات الراعي التي ينشدها للإبل فتجتمع حوله إن كانت متفرقة  أو تسير في اتجاه محدد إن كانت في قافلة.

ويطلق على "التهوليم" في باقي المنطقة العربية "الحداء"، وهي ترنيمات الراعي التي ينشدها للإبل فتجتمع حوله إن كانت متفرقة، أو تسير في اتجاه محدد إن كانت في قافلة. لذا فإنّ الحداء في البلاد العربية يعتبر نوعًا من التواصل لأنّ الإبل تعرف صوت حاديها وغناءه فتتجاوب معه أكثر من غيره.

وتطور "الحداء" في البادية والصحراء العربية من مجرّد همس إشارة أو صوت أو مناداة على الإبل إلى غناء شعري، دخلت فيه مع الوقت المعاني والكلمات الشعرية المغناة، لذلك أصبح فنًا شعريًا غنائيًا في سائر أنحاء البوادي العربية. ولا يكاد يختلف في المضمون والأداء، وإن كان يختلف في مخارج الحروف ومعاني الكلمات والألحان مـن منطقة أو قبيلة من قبائل البدو إلى أخرى.

 

اقرأ/ي أيضًا:

"الزندالي.. نشيد السجون التونسية".. حفر في ثقافة الهامش

سوق دوز.. زمن بالأبيض والأسود