19-فبراير-2020

الانطلاق بروح جديدة بعد العودة من شفير الموت (Getty)

 

قد تبدو الحياة، عند البعض، مملة وكثيرة المتاعب لا طعم لها، فيما يحاول البعض الآخر أن يجد فيها ملاذًا آمنًا من مشاكل أعيت كاهله، وهكذا أصبحت العلاقة بالحياة رتيبة وكئيبة بمضي الأيام متشابهة تسابق نسقًا سريعًا فرضته مشاغل الواقع.

ولكن قد تتغيّر النظرة للحياة عند الإحساس أنّنا قد نفقدها لوهلة، وتتغير رؤيتنا للأمور في هذا العالم لمائة وثمانين درجة. كيف ذلك؟

"ألترا تونس" يصافح أشخاصًا نجوا من حوادث قاتلة جعلت نظرتهم للحياة تتغيّر، وانطلقوا في الحياة بروح جديدة بعد العودة من شفير الموت.

اقرأ/ي أيضًا: قصص عن "الزواج العرفي" في تونس..

من منعزل في غرفة إلى بطل عالمي

يتعرّض العديد منّا خلال مراحل حياته المختلفة لتحوّلات تغيّرنا إمّا للأفضل أو للأسوأ، على غرار التحول الذي قلب حياة الشاب ياسين الغربي (29 سنة) رأسًا على عقب. ففي ليلة وضحاها، بترت قدماه بسبب حادث قاتل تعرّض له أثناء عودته من الدراسة على متن القطار، وهو ما جعل ياسين يدخل في حالة من العزلة كيف لا وهو الذي لا يتحمّل أن يرى نظرات الشفقة التي يوجّهها له كل من يراه. أمضى قرابة العام على هذا الحال بين أروقة المستشفيات أو تحت سقف غرفته يصارع نفسه التي تغالبه ويستنفر قواه التي خارت من أجل أن يجد نقطة انطلاق جديدة.

وجّه "ياسين" رسالة للأشخاص العاطلين اليائسين البائسين بألا يحزنوا وأن ينظروا للحياة نظرة أيجابية ولا ييأسوا مهما كانت الظروف

وهذا ما حدث، فقد خرج هذا الأسد الجريح من ظلمات اليأس ودهاليز الموت إلى نور الحياة وإشراقة الأمل. "الأمر لم يكن سهلًا بالنسبة لي وأعتقد أنّ من يمرّ بتجربتي قد يبقى ملازمًا للفراش إلى هذه اللحظة، ولكنّ الأمر يحتاج إلى قوّة شخصيّة لمواجهة هذا الواقع الجديد"، هكذا تحدّث ياسين لـ"ألترا تونس" عن تجربته، مضيفًا أنّه قرّر أن يحوّل تلك النظرات المشفقة إلى نظرات فخر واعتزاز.

وجد ياسين نفسه بين خيارين إما ان يواصل دراسته أو يؤسس لمسيرة رياضيّة جديدة مع ذوي الحاجيات الخصوصيّة، واختار الطريق الثاني قائلًا: "اخترت الرياضة لأنّها الطريق الأقصر لأسعد عائلتي التي تعبت كثيرًا من أجلي. لم يكن الطريق الأسهل لأنّي عانيت الأمرّين لأستطيع الوصول لمكان التدريب ولأتمكّن من إعادة تهيئة جسمي لرياضة السباق على الكرسي المتحرّك والتي تعرّفت عليها من خلال صديقي أحمد العوادي".

أمضى ياسين سبع سنوات يغالب حالته ويهيئ نفسه لمسيرة التتويجات والتشريفات، كان طموحه عاليًا فلم يكن يكتفي بمراتب متقدّمة في السباقات بل كان عازمًا على حصد الميداليات. وقد منحته الميدالية البرنزية التي تحصّل عليها للألعاب البارالمبية في ريو دي جانيرو 2016 ثقة كبيرة في نفسه جعلته يحصد الميداليات عامًا بعد عام ويحقّق أرقامًا قياسيّة جديدة.

"دائمًا ما يوجد جديد في حياتي وأنا فخور بما أنجزته لكنّ الطريق مازال طويلًا،" هكذا عبّر البطل التونسي عن طموحه الذي لا يتوقّف مشيرًا إلى أن هدفه القادم هو الألعاب الأولمبية.

ووجّه ياسين، في ختام حديثه معنا، رسالة للأشخاص العاطلين اليائسين البائسين بألا يحزنوا وأن ينظروا للحياة نظرة أيجابية ولا ييأسوا مهما كانت الظروف، على حدّ تعبيره.

"مرض الصرع أعطاني حياة جديدة"

هدى الورغي (46 سنة، إطار بالتعليم العالي) تعرّضت لعديد الحوادث في حياتها التي جعلت منها هذه المرأة القويّة النابضة بالحياة اليوم ولو أنّ أحدًا غيرها عاش ما مرّت به من تجارب مؤلمة ربّما ما كان ليكون بهذه الصلابة.

بدأت أزمة هدى سنة 2012 عندما تعرّضت لمظلمة في عملها أدى لدخولها في نوبة غضب شديد من ثمّ هبوط حادّ في نسبة السكري في الدم علمًا وأنها مصابة بهذا الداء منذ سنوات. وكان هذا الهبوط الحادّ ليؤدّي بحياتها لولا اندلاع نوبات صرع حادّة مرافقة لهذه الحالة حسب تشخيص الطبيب الذي باشرها، فوجدت نفسها منذ ذلك اليوم مصابة بمرض مزمن وهو مرض الصرع. لم تتقبّل هدى الأمر في بداياته كيف لا وهي التي لا تعرف للمشفى طريقًا هي وعائلتها التي تعوّدت أن ترى جميع أفرادها في صحّة جيّدة.

تعرّضت هدى الورغي (46 سنة) سنة 2015 لحادث مروري قاتل غيّر نظرتها للحياة فتصالحت مع نفسها وأصبحت تستمتع بكل لحظة من حياتها

وكان التعامل مع هذا المرض صعبًا بالنسبة لها ولزوجها وأبنائها ونستذكر الأمر متحدثة لـ"ألترا تونس": "من أكثر المواقف التي لن أنساها هي تعرّضي لنوبة أمام ابني الذي صدم من المشهد وهو يردّد باكيًا "ماما متسكرش عينيك.. ماما ما تمشيش وتخليني"، ونوبة أخرى أعتقد خلالها زوجي أنني بصدد الاحتضار فكان يدعوني لقراءة القرآن وأحسست أنها النهاية بالنسبة لي لكن النوبة مرّت بسلام في النهاية".

اقرأ/ي أيضًا: على خطّ الوصول للنهاية.. قصص شغف جعلت من الرياضة بداية!

مرّت هدى بأوقات عصيبة وكادت توشك أن تكتئب لولا دعم وتشجيع زوجها وأطبائها وأصدقائها في العمل إلّا أنّها أمضت ثلاث سنوات غير منسجمة مع هذا المرض خاصّة وأنها تعرّضت لعديد المضايقات والاستفزازات من بعض أفراد عائلتها الموسّعة الذين كانوا يعتقدون أنها "مهبولة" على حدّ تعبيرها.

تعرّضت محدّثتنا سنة 2015 لحادث مروري قاتل غيّر نظرتها للحياة: "يومها قلت يكفي هدى يجب أن تفيقي من وضعك". وأكّدت أنها منذ ذاك اليوم تقبّلت حالتها وتصالحت مع نفسها وأصبحت تستمتع بكل لحظة من حياتها، ما عادت تعنيها نظرة الناس لها ولم تعد تقارن نفسها بأحد بل أحاطت نفسها بأناس إيجابيين ساعدوها على التخلّص من الحالة التي كانت عليها سابقًا.

وتضيف هدى، في ختام حديثها معنا، أنّ مجال عملها فتح لها أفاقًا جديدة، وأنّها انضمّت للعمل مع المجتمع المدني في عديد المنظمات منها الكشافة التونسيّة، وأصبحت تولي اهتمامًا أكثر بصحتها واتّخذت نظام حياة متوازن جعلها تحسّن علاقتها بمحيطها وفق قولها.

من محاولة انتحار لفرصة أخرى للحياة

ولا تختلف حكاية سامي.ح (33 سنة، عامل يومي) في جوهرها كثيرًا عن حكاية هدى ولئن اختلفت الأسباب إلّا أنّ النتيجة هي حياة أفضل ممّا كانت عليه. سامي شابّ قام بمحاولة انتحار نجى منها بأعجوبة حسب ما رواه لـ"ألترا تونس"، إذ كان مدمنًا لمادة القنب الهندي (الزطلة) منذ صغره وعانى من مشاكل كثيرة جعلته يفقد توازنه النفسي بعد أن فقد الجميع حوله ومع هذا كان يرفض فكرة أنّه مدمن ويحتاج علاجًا.

"انقطعت عن الدراسة ولم أفلح في أي عمل أعمله، فأصبح نهاري ليلا وليلي نهارًا"، هكذا تحدّث سامي عن فترة دامت أكثر من سبع سنوات كان يعاني خلالها من اكتئاب حادّ لم يكن يكترث له خاصّة وأنّ "الزطلة" كانت الوسيلة الوحيدة التي كان يلجأ إليها للهروب من واقعه.

سامي. ح (33 سنة): نحن لا نعرف قيمة الأشياء إلّا عندما نفقدها فما بالك عندما نوشك أن نفقد حياتنا

وعندما تشابهت أيامه ولم يعد لحياته أيّ معنى، فكر سامي في أن يضع حدًا لحياته مستذكرًا بالقول :"عندما تشهر أن لا هدف لك في هذه الحياة، وأنّه لا مكان لك وسط عالم يبدو غريبًا لك. عندما تشعر أنّك أصبحت منبوذًا من أقرب الناس لك خاصّة عند محاولاتهم المتكرّرة لإخراجك مما أنت فيه وقتها تطرح ذاك السؤال الوجودي ما الجدوى من حياتي؟".

لم يكن من السهل الحديث عن تجربة الانتحار مع سامي ومختصرها أنّه اعتمد أدوية للانتحار لكن تفطّنت له والدته ليقع نقله للمستشفى وغسيل لمعدته، ولكنّ الأهمّ في هذه التجربة هو ما حصل عندما خرج سامي من هذه التجربة سليمًا معافى.

"على شفى الموت تعرف قيمة الحياة"، هكذا قالها مجدثنا بكلّ حزن استرجع فيها لحظات ألم عاشها هو وعائلته. وقال إنّ حياته تغيّرت جذريًا بعد هذه الحادثة خاصّة عندما أحسّ بقيمته عند عائلته بخوفهم الشديد من فقده إذ كان يعتقد في فترة ما أنّ الجميع يكرهه، فأصبح ذاك الاهتمام وتلك اللهفة بلسمًا لجروح هذا الشابّ، على حدّ تعبيره.

وأضاف: "تغيّرت نظرتي للحياة وقبلت أن أتعالج من إدماني بمتابعة حصص علاج نفسي مع مختصّ ساعدني على الخروج من هذه المحنة". إذ أصبح محدثنا من وقتها أكثر إقبالًا على الحياة وقطع مع كلّ ما كان يدمّره مبتعدًا عن أصحاب السوء وأصبح أكثر اعتناء بمظهره وصحته ويولي اهتمامًا أكبر بعائلته حسب ما رواه لنا خاتمًا حديثه: "نحن لا نعرف قيمة الأشياء إلّا عندما نفقدها فما بالك عندما نوشك أن نفقد حياتنا".

هم أشخاص صنعوا من الضعف قوّة ومن مصائب الحياة درجًا ارتقوا به، أشخاص برتبة أبطال قد يذكر التاريخ بعضهم وقد يمرّ بعضهم دون أن يترك أثرًا، لكنّه نجح في الوقوف عندما كان البعض ينتظر سقوطه.

 

اقرأ/ي أيضًا:

قصص أمّهات يكرهن البحر... العدوّ الذي ابتلع فلذات الأكباد

"نقطة سوداء".. قصص نساء حُرمن من التعليم