"لا أنام ليلتي عندما أنوي زيارة أحد أسواق ضواحي العاصمة المخصصة لبيع الملابس المستعملة "الفريب". أخرج باكرًا حتى لا تفوتني لحظة "حلّان البالة" في سوق حي ابن خلدون أو حي الزهور أو سوق الزهراء أو الزهروني، إذ أشعر بسعادة لا توصف عندما يرمي صاحب المحل السلع على الطاولات، لتتطاير أمامي بألوانها المغرية فأمدّ يدي لألتقطها من دون بقية الزبائن وأعثر من بينها على ضالّتي المشتهاة من الماركات العالمية الشهيرة وباهضة الثمن" هكذا حدثت أمل "الترا تونس" عن انجذابها الغريب لعالم "الفريب" (الملابس المستعملة المستوردة).
"أمل"، وهي سيدة تونسية جاوزت الثلاثين من عمرها غير متزوجة وتعمل كمديرة بأحد فروع إحدى المؤسسات العمومية الكبرى، تشبّه قصة حبّها لـ"الفريب" بالإدمان الذي ليس له دواء وتقول إنها كَمَن يمضي في طريق ليس بعدها رجوع.
أمل هي واحدة من آلاف التونسيين المدمنين على "الفريب" الذين نراهم، يوميًا وفي كل حين في الأسواق المنتشرة بالمدن والأرياف، يتنقلون لساعات طويلة بين المحلات إشباعًا لرغبة ما تسكنهم، وباتوا يشكّلون ظاهرة مجتمعية لا مرئية برزت مع تنامي تجارة "الفريب"، وهي بالفعل ظاهرة تستحق النّظر والإشارة إليها وأيضًا هي مجال خصب للدراسات النفسية والاجتماعية العميقة من قبل المختصين ومراكز البحوث والجامعات.
تعتبر ظاهرة "إدمان الفريب" في تصاعد وتنامٍ متسارع وملحوظ في تونس مع تمدّد أسواق ومحلات بيع الفريب التي غزت الساحات العامة والأزقة والأنهج بالمدن الكبرى وحتى الأسواق الأسبوعية
وتعدّ هذه الظاهرة في تصاعد وتنام متسارع مع تمدّد أسواق ومحلات بيع الفريب التي غزت الساحات العامة والأزقة والأنهج بالمدن الكبرى وحتى الأسواق الأسبوعية لا تخلو من حيز مخصص لتجارة الملابس القديمة، علمًا وأن تجارة الملابس المستعملة دخلت إلى تونس مع بداية الاستقلال عن المستعمر الفرنسي وإلى حدّ قريب كان ميناء مدينة سوسة بالساحل التونسي يستقبل سنويًا أطنانًا من الملابس القديمة المتأتيّة في شكل مساعدات وهبات من الولايات المتحدة الأمريكية، حيث يتم تعقيمها وفرزها ومن ثمة تعبئتها في "بالات" وبيعها بأسعار رمزية لبعض تجار الجملة بشارع المنجي سليم بالعاصمة الذين يتولون بيعها بدورهم إلى تجار الأسواق الأسبوعية في كامل البلاد التونسية.
وكانت تسمى "الروبافيكيا"، لكن ومع نهاية ثمانينات القرن العشرين تغير واقعها فتحولت من مجال المساعدة الاجتماعية إلى عالم التجارة الرحب ودخل رأس المال بقوّة إلى هذا المجال فوجدت شبكة من المصانع المختصة في رسكلة الملابس المستعملة والتي أصبحت تستورد من البلدان الأوروبية وأمريكا الشمالية وعمت تجارة الملابس المستعملة تقريبًا كل المدن والقرى وأصبحنا نرى محلات كبرى مخصصة لبيع هذه السلع، وهو ما أضر بصناعة النسيج المحلية رغم إيجاد منظومة قوانين خصصت لحماية المنتوج المحلي من الألبسة.
عوّض المجتمع التونسي مصطلح "روبافيكيا" بآخر وافد من اللغة الفرنسية وهو "فريب" ومعناه بيع كل ما هو مستعمل وصالح لإعادة الاستعمال بما في ذلك اللباس بعد أن تحولت من مجال المساعدة الاجتماعية إلى عالم التجارة
وعوّض المجتمع التونسي مصطلح "روبافيكيا" بآخر وافد من اللغة الفرنسية وهو "فريب" ومعناه بيع كل ما هو مستعمل وصالح لإعادة الاستعمال بما في ذلك اللباس.
ورغم أضرار "الفريب" بالصناعات النسيجية التونسية على مدار العقود الأخيرة وإلحاقه أضرارًا جسيمة بالبيئة وبالمشهد الجمالي بالمناطق الحضرية إلا أنه خلق لنفسه مجالًا وحيزًا واضح المعالم في النسيج الاقتصادي التونسي، وبات يشغل عديد التونسيين وتحوّل بفضل لوبياته التي ظهرت في وقت وجيز من هامش إلى مركز أساسي في التجارة التونسية.
"الفريب" خلق عادات جديدة داخل المجتمع التونسي في مستوى علاقة جميع الشرائح باللباس والقطع جذريًا مع اللباس التقليدي الأصيل والذي بات مناسباتيًا وأيضًا في مستوى تصالحه مع الألوان ومتابعته للمستجدات في مجالات الموضة العالمية.
من إفرازات سريان "الفريب" في المجتمع التونسي نجد تشكل سلوكات جديدة لدى الأفراد منها "إدمان" البعض على شراء هذه الألبسة الوافدة وتتبع الماركات ومستجدات الموضة وتقليعات الحقائب والأحذية
ومن إفرازات سريان "الفريب" في المجتمع التونسي نجد تشكل سلوكات جديدة لدى الأفراد منها "إدمان" البعض على شراء هذه الألبسة الوافدة وتتبع الماركات ومستجدات الموضة وتقليعات الحقائب والأحذية.
أمل، المتخرجة من الجامعة التونسية والمديرة بأحد فروع شركة عمومية الكبرى، تروي أنها تنحدر من عائلة ريفية متواضعة الدخل وأنها تعلقت بـ"الفريب" عندما كانت طالبة وتقطن بالمبيت الجامعي باردو إذْ تذهب مشيًا على الأقدام مع بعض زميلاتها إلى "سوق الملابس المستعملة بحي ابن خلدون" وداخل هذه السوق وقعت في حب لا فكاك منه وتعرفت على الباعة وكوّنت معهم صداقات وتحولت إلى زبونة وفية ومبجلة، حتى أن بعضهم يترك لها بعض "القطع" جانبًا فلا يعرضها للبيع، وفق ما ترويه لـ"الترا تونس".
وتضيف أمل أنه، مع مرور الوقت وذهابها للعمل بعد التخرج، أصبحت من زوار كل أسواق ضواحي العاصمة مثل سوق حي الزهور والزهراء والزهروني والحفصية والدندان وأريانة والمدينة الجديدة، مؤكدة أنها تعرف مواعيد فتح "البالات" الجديدة وأبرز المحلات وأمزجة الباعة وكل إمكانات التعامل معهم حتى أنها دونت جدول أوقات خاص بزياراتها وتنقلاتها، وفق قولها.
وبينت أمل أنها أصبحت تحصد أهم ماركات الموضة العالمية والتي تباع في محلاتها الأصلية بأوروبا وأمريكا بآلاف الدولارات والأوروات. وأوضحت أن شقتها تحولت إلى "دبو" (مستودع) للملابس التي اقتنتها على مدى سنوات ولا تستطيع التخلص منها، مضيفة أن أغلبها ارتدته لمرة واحدة والبعض الآخر لم تستعمله للتو.
أمل تستيقظ باكرًا في اليوم الذي تقرر التسوق فيه وذلك من أجل الالتحاق بالسوق المقصودة، فهي لا تريد أن تفوت تلك اللحظة الهامة بالنسبة إليها والمتمثلة في فتح "البالة" أمامها. وأوضحت محدثتنا أنها تشعر بسعادة لا توصف عندما تعود محملة بأكياس الفريب إلى منزلها.
أمل (موظفة): بفضل الفريب لديّ ملابس من أشهر ماركات الموضة العالمية والتي تباع في محلاتها الأصلية بآلاف الدولارات.. وقد أصبحت شقتي بمثابة مستودع للملابس التي اقتنيتها على مدى سنوات ولا أستطيع التخلص منها
بدوره، حدّث سفيان، وهو موظف ببنك عمومي وسط العاصمة تونس، لحدث "الترا تونس" عن علاقته الوطيدة بالفريب، موضحًا أنه مختص في قنص القمصان وربطات العنق دون غيرها فهو يطاردها أينما كانت بالمحلات والأسواق الصغيرة المنتشرة هنا وهناك بأنهج وأزقة وشوارع العاصمة تونس وخصوصًا سوق الحفصية وسيدي البحري بجهة باب الخضراء.
وذكر سفيان أنه يتجول يوميًا بعد العمل بالمحلات المخصصة لبيع الألبسة الرجالية المستعملة، فيقلّب هناك مئات القمصان وقد لا يغريه المعروض فلا يشتري، فالأمر مرتبط لديه بدرجات الألوان ونوع القماش والماركة وأنواع الأزرار. أما ربطات العنق، فقال محدثنا إنه يملك بمنزله أكثر من ألف ربطة عنق وأغلبها لماركات عالمية اقتناها بأبخس الأثمان طيلة سنوات.
وتحدّث سفيان عمّا اعتبرها حالة "إدمان" التي يعيشها، مشيرًا إلى أن رحلاته اليومية بين أكداس القمصان وربطات العنق تشعره بالراحة وتزيل عنه بعض ضغط العمل.
وأضاف أن زملاء الشغل ينتظرون قدومه يوميًا ليروا ربطة عنقه الجديدة، مشيرًا إلى أنه ملتزم مع نفسه بأن يرتدي كل يوم واحدة جديدة طيلة سنة بأكملها، على حد قولها.
ولا يختلف الأمر مع مرتضى، وهو شاب من أبناء العاصمة متخرج من معهد الرياضة بالكاف ويعمل حاليًا أستاذًا للتربية البدنية بالمدارس الابتدائية التونسية بجهة سوسة، وشغوف هو الآخر بـ"الفريب" لكنه تخير لنفسه من هذا العالم زاوية الألبسة الرياضية وخصوصًا الأحذية.
أوضح مرتضى لـ"الترا تونس" أنه مذ كان طالبًا بالكاف، دأب على التردد على أسواق بيع الملابس المستعملة من أجل اقتناء بعض الألبسة الرياضية التي تقيه برد جهة الكاف شتاء، واكتشف خلال تلك الجولات التي يقوم بها في أسواق "الفريب" أن أجود الماركات الرياضية والتي تباع بأثمان باهضة في أوروبا موجود في تونس وبأسعار بخسة وخصوصًا الأحذية.
مختص في علم النفس لـ"الترا تونس": الإدمان على الشراء هو ظاهرة تسمى "النيومانيا" أو التسوّق القهري وهي رغبة جامحة تستبد بالإنسان في اتجاه الشراء والاقتناء والتبضّع مع انعدام القدرة على السيطرة عليها
وهنا يروي مرتضى أنه بات يتابع أسواقًا بعينها مثل سوق الحفصية، ومن هناك يشتري أحذية لا توجد بمحلات بيع الأحذية الجديدة بتونس.
وأوضح مرتضى أنه يملك الآن مجموعة نادرة تضم أكثر من مائة حذاء رياضي فخم من أهم الماركات الشهيرة ومنها ما هو موجه لرياضات بعينها ومنها ما هو مخصص للمشي أو للسهر والمناسبات.
مرتضى أصبح خبيرًا في الأحذية الرياضية فهو يتبين بسهولة الأصيل من المزيف والمقلد، وأحيانًا يستشيره زملاء العمل عندما يرومون شراء حذاء رياضي.
هذه نماذج من قصص عديدة ومتنوعة حول إدمان "الفريب" في تونس وقد حملها "الترا تونس" إلى الأستاذ المختص في علم النفس والباحث بالجامعة التونسية نوفل بوصرة الذي بين منذ البداية أن هذه الظاهرة طبيعية وموجودة في كل المجتمعات مع تغير ظروف وجودها ونمائها من مجتمع إلى آخر، وتسمى "النيومانيا" أو التسوّق القهري وهي رغبة جامحة تستبد بالإنسان في اتجاه الشراء والاقتناء والتبضّع مع انعدام القدرة على السيطرة عليها وهو ما يسمى أيضًا بـ"اضطرابات الاندفاع".
مختص في علم النفس لـ"الترا تونس": الإنفاق القهرى هو بحث عن توازن ما للفرد داخل المجموعة أو ما يشبه البحث عن هوية ما داخل المجتمع، ومن مساوئه الإفلاس وحصر كل الوقت وأغلب الحديث عن الشراءات بكل تفاصيلها
وأضاف المختص في علم النفس أن "الفريب" ساعد على نماء هذا الاضطراب النفسي لدى العديد من التونسيين الذين نراهم يسارعون نحو الأسواق المخصصة لذلك وأحيانًا يتخاصمون من أجل "قطعة" بعينها.
وأوضح أننا أصبحنا نجد هؤلاء في محيطنا العائلي وأيضًا في محيط العمل وهم يظهرون سعداء ومتميزين وأن اهتمامهم بالفريب وإصرارهم عليه ينتهي بمنحهم شعورًا بالراحة والتفوق وأن محيطهم يكافئهم بالانبهار بهم وبما ينجزون.
وبيّن أيضًا أنّ علم النفس الاجتماعي الذي تناول هذه الظاهرة منذ سنة 1915 يرى أن الإنفاق القهرى هو بحث عن توازن ما للفرد داخل المجموعة أو ما يشبه البحث عن هوية ما داخل المجتمع، ومن مساوئه الإفلاس، نشوء الخلافات العائلية وحصر كل الوقت وأغلب الحديث في دائرة تلك الشراءات بكل تفاصيلها، مستدركًا أن "هذا المرض ليس خطيرًا على المجتمع".
كما أشار نوفل بوصرة أيضًا إلى أن الذهاب إلى أسواق "الفريب" هو أمر علاجي أو آلية من آليات تعديل المزاج والتخلص من الضغط اليومي الذي أصبح يعيشه التونسي، لكن لا بد من مراقبة التوغل في هذا العالم حتى لا تستبد بنا "النيومانيا"، وفق تعبيره.
إن عادة الذهاب إلى أسواق "الفريب" أصبحت من عادات التونسيين فالكل يعرّج على "نصبة" (بسطة) أو محل يقدم الملابس القديمة فيوفر بعض الوقت للتقليب في القمصان والسراويل والمعاطف والجاكيتات والأحذية والقبعات، لكننا لا نعلم أن من بين المقلبين في الأكداس هناك من هو مدمن ومهووس بـ"الفريب" وبماركات اللباس وآخر تقليعات الموضة، وبقدر تميّز هؤلاء وتفرّدهم إلا أنهم يتسمون بالغرابة والطرافة في نفس الوقت.