11-مارس-2023
شوارع تونس صورة الترا تونس

أكوام من الملابس المستعملة تستقطب أغلب المارين من شوارع العاصمة تونس (صورة هاجر عبيدي/ألترا تونس)

في قلب العاصمة تونس وتحديدًا بساحة برشلونة ونهج "إسبانيا" ونهج "شارل ديغول" وساحة الجمهورية، تمتد "نصب"/"بسطات" بيع الملابس المستعملة "الفريب" على مئات الأمتار فتحتل ناصية الطريق وتتصدر واجهات المحلات وبالكاد تتمكن العربات من المرور وسطها أو يتمكن المترجلون من الولوج إلى المحلات لقضاء حاجياتهم.

"بسطات الفريب" ليست وحدها التي غزت شوارع العاصمة تونس وحولتها إلى سوق يومي فوضوي بل إن ما تعرضه "النصب" عديد ومتنوع

أكوام من الملابس المستعملة تستقطب أغلب المارين من هذه الشوارع الذين ينجذبون إلى الهتافات المستمرة "على دينار .. كل شيء على ألفين".. أسعار منخفضة تحفز المارة على تفحص هذه البسطات علهم يظفرون بضالتهم.

"بسطات الفريب" ليست وحدها التي غزت شوارع العاصمة تونس وحولتها إلى سوق يومي فوضوي بل إن ما تعرضه "النصب" عديد ومتنوع حسب احتياجات المواطن ففي عيد الفطر تعرض البسطات أو ما يعرف في تونس بـ"النصب" ألعاب الأطفال وملابس العيد ومستلزمات الإعداد لحلويات العيد أما في عيد الأضحى فتتحول المواد المعروضة إلى سكاكين ومعدات شواء كالكانون والفحم  خلافا للأواني البلورية والملابس الجاهزة والستائر والكتب المستعملة ومعدات المطبخ وغيرها من المواد المعروضة بشكل يومي في غياب حملات الحجز والتصدي للاتجار الفوضوي من قبل المصالح المختصة.

 

 

  • استفحال الظاهرة في ظل سياسة تجنب توتير الأجواء

كانت الأنهج "المحتلة" من قبل "تجار البسطة" ساحة كر وفر بين الباعة الذين هم في حل من جميع القيود القانونية كالضرائب والتراخيص وأعوان الشرطة المكلفون بحجز جميع المواد المعروضة بطريقة فوضوية فترى التجار يفرون هاربين محملين بسلعهم وسط الأزقة والشوارع الضيقة كلما وردت عليهم معلومات بوجود حملة مداهمة في الشوارع المتاخمة ثم يعودون لتجارتهم بانتهاء الحملة الأمنية.

والي تونس: الحل الجذري لظاهرة التجارة الموازية هو إنشاء أسواق بلدية يشتغل فيها التجار المستقلون بطريقة سلسة

لكن ما نلاحظه في الفترة الأخيرة هو غياب أي نوع من أنواع التصدي لظاهرة التجارة الموازية والأسواق الفوضوية التي شوهت صورة العاصمة الشيء الذي شجع الباعة على التوسع في جميع أنهج العاصمة تقريبًا وضاعف أعدادهم وحفزهم على التنويع والتكثيف في السلع المعروضة والتي تشتهر بتدني السعر والجودة أيضًا.

وتعليقًا على هذه الظاهرة التي أرهقت المواطن والباعة والحكومات المتعاقبة، أكد والي تونس كمال الفقيه في تصريح صحفي أن "استرداد شوارع تونس العاصمة ممكن في يوم وليلة لكن شريطة ضمان عمل للباعة"، لافتًا إلى أن المساس بظاهرة الاتجار الفوضوي من شأنه أن يخلق حالة من التوتر، وفقه.

وشدد الفقيه على أن الحل الجذري لظاهرة التجارة الموازية هو إنشاء أسواق بلدية يشتغل فيها التجار المستقلون بطريقة سلسة. كما أكد في تصريحات أخرى أن البلدية تفتقر لأعوان تنفيذ لمكافحة ظاهرة الأسواق العشوائية.

"مفيدة" إحدى متساكنات العاصمة، لـ"الترا تونس": حياتي أصبحت جحيمًا في ظل تفاقم ظاهرة الاتجار العشوائي، صخب وضجيج لا يطاق علاوة على بشاعة مظهر المدينة وأكوام النفايات التي يخلفها الباعة

تقول "مفيدة" إحدى متساكنات العاصمة، لـ"الترا تونس" أن حياتها أصبحت جحيمًا في ظل تفاقم ظاهرة الاتجار العشوائي وتضاعف عدد "النصب" في المنطقة التي تسبب صخبًا وضجيجًا لا يطاق منذ الساعات الأولى للصباح حتى المساء علاوة على بشاعة مظهر المدينة وأكوام النفايات التي يخلفها الباعة يوميًا.

وتضيف: "لقد تقدمنا نحن سكان العمارات المتاخمة للأنهج التي احتلها الباعة بمطالب عديدة لتنظيم هذا القطاع بما يكفل حقوق العاملين فيه وكذلك حقوق سكان الحي وحقوق المحلات التي كسدت تجارتها بسبب البيع أمامها وعرض نفس المنتجات التي تعرضها وأنا من المتضررين لأني أعمل بدوري في مجال بيع الملابس الجاهزة وألتزم بدفع معاليم فواتير الكهرباء والماء وإيجار المحل والضرائب وغيرها، في المقابل، التجار المستقلون لا يدفعون مليمًا واحدًا بما يمكنهم من التخفيض في السعر ومنافسة المحلات حتى أنهم أصبحوا الوجهة المفضلة للمواطن التونسي الذي يبحث عن بضاعة أقل سعرًا حتى وإن كلفهم ذلك اقتناء مواد جودتها متدنية ويمكن أن تلحق بهم وبأطفالهم الضرر".    

 

أكوام من الملابس المستعملة تستقطب أغلب المارين من شوارع العاصمة تونس (صورة هاجر عبيدي/ألترا تونس)

 (صورة هاجر عبيدي/ألترا تونس)

 

 

  • ترسانة من الوعود في انتظار التفعيل

تلقى التجار المستقلون ترسانة من الوعود بتخصيص فضاءات مجهزة بالعاصمة لممارسة نشاطهم بما يضمن لهم الحق في العمل والعيش الكريم شريطة احترام القانون لكن هذه الوعود ظلت حبرًا على ورق ولم تتمكن أي حكومة من إيجاد حل لهذه الظاهرة فتفاقمت ولم يجدوا حلًا أمامهم سوى المواصلة في تجارتهم حتى وإن كلفهم ذلك عناء احتجاز بضاعتهم والتتبعات القانونية. 

تلقى التجار المستقلون ترسانة من الوعود بتخصيص فضاءات مجهزة بالعاصمة لممارسة نشاطهم بشكل قانوني لكن هذه الوعود ظلت حبرًا على ورق

أفاد معز العلوي، الكاتب العام للنقابة العامة للتجار المستقلين باتحاد عمال تونس، أن "التجار المستقلين على غرار كل المواطنين التونسيون كانوا قد طالبوا إبان الثورة بحقوقهم فوقع الاختيار على "فضاء قرطاج" ليجمع التجار المستقلين البالغ عددهم 1000 تاجر في تونس وقام الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي برصد تمويلات على ذمة المشروع قدرت بمليارين ونصف، والمشروع يتمثل في بناية على 4 طوابق لكن تبيّن أن البناية آيلة للسقوط فتقرر هدمها بقيمة 350 ألف دينار وانطلقت أشغال لتشييد مشروع جديد ثم توقف لأسباب مجهولة وعلى ما يبدو فإن رجال أعمال طمعوا في هذه البناية لذلك ظلت مغلقة إلى الآن"، على حد تعبيره.

وأفاد العلوي في حديثه لـ"ألترا تونس" "جميع الولاة المتعاقبين على ولاية تونس اعترضوا على تهيئة فضاء قرطاج في حين أن أموالاً رصدت لتشييده لفائدة التجار"، مضيفًا "كنا قد التقينا بالوالي الحالي لتونس وطلب منا قائمة بالتجار المستقلين فقمنا بإعدادها وكانت تحمل إمضاء 800 تاجر يعملون في الأنهج المعروفة بالأسواق الفوضوية وهي "شارل ديغول" و"نهج إسبانيا" و"باب بحر" و"شارع قرطاج" وغيرهم..".

الكاتب العام لنقابة التجار المستقلين لـ"الترا تونس": "جميع الولاة المتعاقبين على ولاية تونس اعترضوا على تهيئة فضاء قرطاج في حين أن أموالاً رصدت لتشييده لفائدة التجار المستقلين"

وتابع "الوالي كان قد قال في آخر تصريح له إنه لن يتم الضرر بالتجار المستقلين إلا بعد حلحلة الإشكال ونحييه على ذلك لكنه تحدث عن سوق المنصف باي كبديل لفضاء قرطاج وتبعًا لذلك نطالب بعرض البديل وعقد محضر جلسة ودراسته..".

وأضاف خلال حديثه لـ"الترا تونس": "الدولة تواصل افتكاك فضاء قرطاج ونحن مواصلون في البيع بالشارع .. قدموا لنا البديل وسنقدم لكم الشارع".

وشدد المتحدث على أن شعار التجار المستقلين هو "لا للفوضى.. لا للتهميش" وأن مطلبهم الأساسي هو مكان قانوني يقي التجار من الشمس والأمطار ويقطع مع الزج بهم في السجون، واعتبر أن الحل للأسواق الفوضوية ليس أمنياً بل في إيجاد فضاءات مقننة بحيث تنتفع الدولة بسداد معلوم الإيجار وينتفع التجار بالعمل بعيدًا عن "الكر والفر".

الكاتب العام لنقابة التجار المستقلين لـ"الترا تونس": "الدولة تواصل افتكاك فضاء قرطاج ونحن مواصلون في البيع بالشارع .. قدموا لنا البديل وسنقدم لكم الشارع"

وعرج العلوي على وضعية التجار المستقلين المنتصبين بـ"les arcades" البالغ عددهم 80 شخصًا والذين تم منعهم من البيع بتعلة أن المسلك سياحي، مقدرًا أن الحل الذي يرضي الطرفين هو امتناع التجار عن العمل عند وجود أفواج سياحية أو عندما يقتضي الوضع الأمني ذلك والعمل خلال بقية أيام الأسبوع كما لفت إلى أن تجار "الفريب" بساحة برشلونة لا يتبعون نقابة التجار المستقلين مع ذلك وجب إيجاد حلول لهم طبعًا.

  • البسطات/"النصب"..  ملاذ "الزوالي" 

يشكو المواطن التونسي من غلاء الأسعار الذي طال جميع المنتجات وجميع المواد المعروضة للبيع فأصبح خياره الأوحد البحث عن البضاعة الأقل سعرًا حتى وإن كان متأكدًا من تدني جودتها أو انعدامها أحيانًا وتبعًا لذلك تجد شريحة واسعة من التونسيين ملاذها هي "بسطات"/"نصب" تونس العاصمة، التي أصبحت توفر كل المستلزمات حتى الغذائية منها فبعضها يعرض أجبانًا ومشروبات غازية عليها علامات دول مجاورة لكن سعرها أقل من المنتجات التونسية بحوالي النصف وذلك بغض النظر عن جودتها وعن طريقة تخزينها وطريقة عرضها للباعة فهي تعرض لأشعة الشمس على مدار اليوم دون أي حماية أو رقابة. 

"خديجة" أربعينية وأم لطفلين لـ"الترا تونس": مستلزمات المنزل والأطفال لا تنتهي وسعرها يرتفع بنسق جنوني وهذا ما يدفعني للتوجه لـ"نصب" العاصمة لأن جميع المواد المعروضة سعرها أقل من المتاجر والمغازات

وكانت وزارة الصحة التونسية قد دعت المواطنين في أكثر من مناسبة إلى اقتناء الأغذية من المحلات التي تخضع للرقابة والامتناع عن اقتناء المواد المعروضة بصفة عشوائية لتلافي الأمراض المنجرة عن الأغذية غير السليمة ومنتهية الصلوحية. كما حذرت الوزارة في بلاغاتها من مخاطر اقتناء الألعاب المعروضة خارج المسالك المنظمة غير الخاضعة للرقابة وتجنب الألعاب التي لا تحمل التأشيرة لخطورتها على الأطفال والرضع.

رغم كل هذه التحذيرات والتوصيات، تجد "خديجة" أربعينية تعمل كمعينة منزلية وأم لطفلين ضالتها في البسطات التي تتردد عليها بصفة شبه أسبوعية لقضاء مستلزماتها وأطفالها فتقول "مستلزمات المنزل والأطفال لا تنتهي وسعرها يرتفع بنسق جنوني في ظرف وجيز وهذا ما يدفعني للتوجه لـ"بالات الفريب" في تونس العاصمة لأن جميع المواد المعروضة سعرها أقل من المتاجر والمغازات".

وتضيف، خلال حديثها لـ"الترا تونس"، "بالنسبة للجودة فمن المؤكد أنها تتلاءم مع الأسعار لكني في الحقيقة لم أواجه أي إشكاليات صحية أو ما شابه.. رغم مصاريف التنقل من حي الزهور إلى العاصمة واضطراري في كثير من الأحيان لركوب تاكسي فردي أحيانًا فإني أتمكن من توفير قدر محترم من المال بفضل الأسعار التفاضلية للبسطات مقارنة بالمحلات التجارية".

تختلف آراء التونسيين وتقييماتهم لتجار البسطات ومنتجاتهم فمنهم من يعتبر أن هؤلاء التجار المستقلون شوهوا جمالية أنهج عريقة في العاصمة ومنهم من يرى أن خذلانهم من قبل الحكومات المتعاقبة هو السبب الرئيسي في تفاقم ظاهرة الاتجار الفوضوي ولئن تنتقد جودة المواد المعروضة فإن بسطات العاصمة أصبحت ملجأ "الزوالي" بامتياز في تونس.

 

أكوام من الملابس المستعملة تستقطب أغلب المارين من شوارع العاصمة تونس (صورة هاجر عبيدي/ألترا تونس)

 (صورة هاجر عبيدي/ألترا تونس)