تتميّز حياتنا الواقعية بتقديس الآني وتثمين العابر. مع كلّ أغنية جديدة، أو مع آخر الصيحات العالمية ينتبه الجميع وينبهر ثم ينسى ما حدث لينصهر مع الجديد الحالي. لا يلبس الفرد ملابس تعود إلى الثمانينيات أو التسعينيات من القرن الماضي، فقد غيّرت موضة الألفية كلّ الأذواق، ولا مجال أن يتحدّث الفرد عن شروط كينونته ونجاحه وهو سجين تلك الملابس.
يسعى الإنسان في المجتمعات الاستهلاكية إلى تحقيق رغبته في أن يكون الأفضل بالتقليد
مع النظام العالمي الجديد، نجد الإجابة الجازمة لكلّ فرد في المجتمعات الاستهلاكية حول ما يطمح إليه: "يجب أن أكون الأفضل على الإطلاق"، لا يهمّ أن يكون ناجحًا في الدراسة وذا خلق حسن، فالأفضلية التي تمنح له هو أن يكون قادرًا على تجميع الأموال والانقياد بسهولة نحو النظم الاستهلاكية دون أن يحاول أن يكون بطلًا أو فيلسوفًا يناقش مشاكل الحرية، فيعوّض لاعب الكرة أو نجم الراب رموزًا قديمة في النجاح في المخيال الاجتماعي. وتصبح مهن الأستاذ والمعلم لا تليق بالوضع الاقتصادي الحالي، فما يجنيه أستاذ طيلة سنة يتحصل عليه لاعب كرة في يوم، وهو نفس اللاعب الذي يروج النظم الاستهلاكية اعترافًا بجميلها عليه فيلبس وفق الموضة ويأكل ويسهر في أفخم المطاعم وكأنّه يضمن لأصحاب الماركات رواجها في مجتمعه، ليضمن هو نفسه بقاءه وارتزاقه من الكرة.
يسعى الإنسان في المجتمعات الاستهلاكية إلى تحقيق رغبته في أن يكون الأفضل بالتقليد، فيختار التماهي والانصهار التامّ مع أخلاق السوق الاستهلاكية، ويتجنب فرض قناعاته وأفكاره ليكون الأفضل يجب أن يلغي نفسه تمامًا ليحقق هذه المعادلة: "أنا ذلك المجتمع وقيمه وأفكاره وبداخلي مجتمعي فكلما سكنني سكنته"، فيقهر جسده إن كان ممتلئًا، ينكره ويتبرأ منه ويسعى إلى خلق جسد آخر فينحف ويتجملّ ليرضى عنه المجتمع، يلبس وفق ما يفرضه الإشهار حتى وإن لم يكن لائقًا عليه، المهم أن يليق بالمجتمع الذي ينتمي إليه.
يتخلى الفرد عن حريته في الاختيار لا خيار له إلا ما يتيحه السوق، وفي مقابل الحرية التي سلبت منه طوعًا أو كرهًا تعوضه النظم الاستهلاكية بمقولة التحرر، أو وهم التحرر فقط، ويصبح الفرد عبدًا ينقاد بسهولة لأفكار سادة السوق وبضائعهم. يقلّد تسريحة لاعب الكرة العالمي، أو يقتني ملابس شبيهة بنجم الأغنية الشبابية، أما المعلم والأستاذ فلا يملكان السلطة أو السطوة على قلوب أو عقول الناشئة، بل ربما يكونان أيضًا من أتباع النظم الاستهلاكية حتى لا يتهما بالرجعية والتخلف من طرف التلاميذ وأوليائهم أيضًا.
تنازل الفرد عن الحرية من أجل أن يكون الأفضل في مجتمع لا يؤمن إلا بعبوديته
يتخلى الفرد عن ذاته وعن حريته ليقدّمها طوعا للنظام الاستهلاكي، لا يهمّ ما يحسّه ولا يهمّ أن يكون راضيًا عن ذاته، بل يجب أن يجد مكانة في مجتمعه، فلكي يكون الأفضل يتوجب عليه دفع ضريبة الأفضلية وهي عبوديته للنظم الاستهلاكية "هو عبد ولكنّه الأفضل"، وفي مسيرة عبوديته الطويلة يبحث الفرد عن التمايز كأن يقتني ماركة عالمية ليوهم من حوله أنّه الأفضل ويتوهم ذلك أيضًا.
تتحقق حرية الفرد فعليًا في عملية دفع الأموال واقتناء الماركات، فتنقلب القيم والمعايير وتصبح كالتالي: "كلما دفعت أكثر كلما كنت الأفضل"، فلا مكانة للفقير أو المحتاج، حتى وإن كان مثقفًا أو كاتبًا عظيمًا في مجتمعاتنا هذه، فمن يملك المال قادر على فرض نفسه داخل المجتمع.
تمكنت النظم الاستهلاكية من إخضاع الفرد ظاهريًا وباطنيًا، فمنذ ولادته يدربه على إنكار ذاته وسحقها من أجل أن يكون موجودًا ومرغوبًا، فيبدأ الفرد منذ لحظة وعيه باللحاق بركب الاستهلاك ومواكبة ما ينتجه السوق سواء أقنعه أو لم يقنعه، لا تهمّ قناعاته، المهم أن يقتنع به مجتمعه، وفي سبيل ذلك تنازل الفرد عن الحرية من أجل أن يكون الأفضل في مجتمع لا يؤمن إلا بعبوديته.