29-سبتمبر-2022
نفايات الملابس المستعملة

مع ازدهار تجارة "الفريب" في تونس باتت النفايات الصادرة عن هذا القطاع تنبئ بكارثة بيئية (رمزي العياري/ الترا تونس)

 

في الوقت الذي تشهد فيه العديد من البلدان الأوروبية في السنوات الأخيرة مظاهرات مستمرة يقودها نشطاء في مجالات البيئة والصحة للمطالبة بالتوقف عن صناعة الملابس المستخرجة خيوط أقمشتها من المواد البترولية والكيميائية لتسببها في العديد من الأمراض الخطيرة وتلويثها للبيئة، وبالعودة سريعًا إلى تصنيع الملابس القطنية، تعرف الموانئ التونسية وصول مئات "الكادرات" (الحاويات) يوميًا محملة بالملابس المستعملة القادمة من أوروبا وكندا والولايات المتحدة الأمريكية. 

وقد قدّرتها مصالح وزارة التجارة التونسية بـ 80 ألف طن سنويًا منها حوالي 11 ألف طن موجهة إلى السوق المحلية، والبقية تتم رسكلتها، ومن ثمة تصديرها مجددًا إلى دول إفريقية وآسياوية وأوروبية. كما تفيد بعض الأرقام والإحصائيات الأخرى المنشورة عن الوزارة ذاتها أن 54 مصنعًا ينشط في مجال "الفريب" وأن 500 تاجر جملة أغلبهم موجود بإقليم تونس الكبرى، وأن 50 ألف تاجر بالتفصيل يعملون في هذا المجال وينتشرون على طول البلاد ويتنقلون عبر الأسواق الأسبوعية.

كل هذه الأرقام والمؤشرات تؤكد متانة العلاقة بين التونسي و"الفريب" حتى أن الغرفة الوطنية لتوريد وتصدير ورسكلة الملابس المستعملة تشير إلى أن 80% من المواطنين التونسيين يستفيدون من هذا القطاع عملًا ولباسًا.

مع ازدهار تجارة "الفريب" في تونس تتعدد التساؤلات حول مصير الأطنان من الملابس التي تلفظها الأسواق لعدم  صلوحيتها أو تلك التي تفرزها المصانع وتعتبرها غير صالحة للبيع والترويج

وتعود القصة إلى بدايات استقلال الدولة التونسية عن الاستعمار الفرنسي حين كانت تونس تتلقى جملة من المساعدات والإعانات العينية ضمن البرنامج الإنمائي لمنظمة الأمم المتحدة الذي يشمل المواد الغذائية والصحية وأيضًا من الولايات المتحدة الأمريكية ومن بينها الملابس المستعملة. وكان ميناء سوسة يستقبل سنويًا عددًا محدودًا من "البالات" (الحزمات) ذات الحجم الكبير من الملابس المستعملة، وكانت مصالح وزارة الصحة العمومية تقوم بتعقيمها على عين المكان لتقدم كإعانات للفقراء والمحتاجين وإلى المسالك التجارية المحدودة في ذلك الوقت. 

لكن مع بداية ثمانينات القرن الماضي ودخول تونس مرحلة ما سمي بـ"تحرير السوق" تطوّر حضور "الفريب" في تونس ليتحول إلى تجارة قائمة الذات توظف عليها الأداءات كباقي السلع الموردة ولها قوانينها المنظمة ولها "باروناتها" وشركاتها التي تقوم بالتوريد من شتى بقاع العالم ولها أيضًا أسواقها الشهيرة التي توجد بها محلات فخمة تبيع أرقى الماركات العالمية وهذه الأسواق نجدها تقريبًا بكل المدن والقرى. 

ومن أشهر أسواق الفريب بالعاصمة نجد سوق الحفصية بالمدينة العتيقة وسوق حي بن خلدون وسوق حمام الأنف بالضاحية الجنوبية للعاصمة. وتقريبًا تحول "الفريب" إلى سلوك يومي وإلى عادة مجتمعية لدى التونسيين، يقصد أسواقه الغني  والفقير على حدٍّ سواء. كما نجد عدة اختصاصات في عالم "الفريب"، فإلى جانب الألبسة بأنواعها نجد الأحذية والأحزمة ولعب الأطفال والكتب والمواد المنزلية والحقائب، وغيرها.

لكن السؤال المحير بالنسبة للنّشطاء البيئيين في تونس منذ تطور نشاط  "الفريب" بالبلاد، هو ما مصير تلك الأطنان من الملابس التي تلفظها الأسواق والدكاكين من الشمال إلى الجنوب لعدم  صلوحيتها أو تلك التي تفرزها المصانع بعد عمليات الرسكلة وتعتبرها غير صالحة للبيع والترويج؟ 

مسؤول فني بأحد مصانع الفريب: المصانع تستقبل حاوياتها من الفريب تحت المراقبة الديوانية ويتم إخضاعها لعمليات فرز فني دقيق، لكن يبقى مصدر السلع هو المحدد للمنتج في نهاية الأمر

وللإجابة عن هذا السؤال، التقى "الترا تونس" عددًا من الفاعلين المتقاطعة اهتماماتهم في هذا الموضوع، وكانت البداية مع "أحمد" (وهو اسم مستعار لمسؤول فني بأحد مصانع الفريب بالعاصمة خيّر عدم ذكر اسمه)، الذي أوضح أن توريد الملابس المستعملة في تونس ينظمه القانون، فالمصنع يستقبل "كادراته" (حاوياته) تحت المراقبة الديوانية منذ دخولها إلى الميناء إلى حين وصولها إلى مخازن المصنع حيث توضع في قسم المواد الخام ثم يتم إخضاعها لعمليات فرز فني دقيق يقوم بها فنيون وعملة اختصاص لهم خبرتهم في الملابس والماركات ونوعية الأقمشة ولعب الأطفال، لنتحصل في النهاية على "بالات" متفاوتة الجودة. 

وأكّد، في ذات السياق، أنّ لكل مصنع أسلوبه وطريقته في العمل ويبقى مصدر السلع هو المحدد للمنتوج في نهاية الأمر.

أما عن كمية السلع والملابس والأقمشة والمواد التي تعتبر غير صالحة للبيع أو تلك التي يمنع القانون تداولها كالأحذية والحقائب والأحزمة الجلدية، أشار المسؤول الفني إلى أن القانون نظّم المسألة، فهذه السلع توضع على حدة في مكان مخصص لذلك ثم يتم وسقها مجددًا إلى بلد المنشأ وتسمى بلغة الفنيين "الشيفون"، وفقه.

 

صورة
يقوم تجار الفريب بعرض ملابس الفريب غير القابلة للبيع على أصحاب البسطات لبيعها هناك (رمزي العياري/ الترا تونس)

 

واستدرك القول إن بعض المصانع تقوم بتجاوزات وصفها بـ"الخطيرة" فيما يتعلق بـ"الشيفون"، فهي تقوم بتسريب الأحذية والحقائب والأحزمة الجلدية إلى السوق ووضع بدلها كميات من الملابس البالية يتم اقتناؤها خصيصًا من الأسواق التونسية، على حد قوله.

عامل بأحد مصانع الفريب: أشتغل بمصنع يقوم برحي الملابس وتحويلها إلى مواد أولية وبيعها من جديد إلا أنه يفرز كميات كبيرة من النفايات ويتم التخلص منها في الطبيعة

كما اتصل "الترا تونس" بعبد المجيد (وهو اسم مستعار لعامل بأحد مصانع الفريب المختص في رسكلة الأقمشة القطنية) والذي أفادنا بأن المصنع لا يبيع "بالات" الألبسة كباقي المصانع وإنما يقوم برحي الملابس وتحويلها إلى مواد أولية من جديد مثل القطن وبيعها من جديد. وأضاف عبد المجيد أنّ المصنع يفرز كميات كبيرة من النفايات، ويتم التخلص منها في الطبيعة حيث ترفع ليلًا وتدفن في الأمكنة القصية، حسب تصريحه. 

أما "كمال" (اسم مستعار) وهو تاجر ملابس مستعملة بسوق الحفصية بالعاصمة، فقد أكد لـ"الترا تونس" أن أغلب تجار السوق يجمعون كل الألبسة التي لم تعد قابلة للبيع ويعرضونها في شكل "مربوحة" لتجار الأسواق الأسبوعية أو أصحاب البسطات.

وأشار إلى أن "الخطر البيئي الحقيقي يتمثل في أربطة البالات البلاستيكية  ذات اللون الأخضر والتي يلقي بها التجار يوميًا خارج محلاتهم ودكاكينهم فتملأ الأرصفة وتغرق الحاويات، مستدركًا أن جمعية بيئية اتصلت بهم وقامت بالتحسيس واتفقت مع بعض التجار على أن تقوم برفع تلك الاربطة من أجل رسكلتها، لكن مع غياب الاهتمام والالتزام ضاعت الفكرة، وفقه.   

  رئيس جمعية "من أجل تونس نظيفة": تونس مقبلة على كارثة بيئية كبيرة جراء تسيب وانفلاتات بسبب عدم الالتزام بالمسألة البيئية من قبل المناطق الصناعية والمصانع العشوائية

وفي السياق ذاته، أكد رئيس جمعية "من أجل تونس نظيفة" سامي بن يحيى أن "تونس مقبلة في قادم السنوات على كارثة بيئية كبيرة جراء تسيب واضح للعيان وانفلاتات حصلت في السنوات الأخيرة بسبب عدم الالتزام الأخلاقي والقانوني بالمسألة البيئية من قبل المناطق الصناعية والمصانع العشوائية والتجار والمواطنين على حدٍّ سواء"، موضحًا أن "القوانين التي تحمي البلاد من التجاوزات التي يمكن أن تحدث باتت مهجورة وغير مطبقة ومتجاوزة"، حسب تقديره. 

وأشار بن يحيى إلى أن الجمعية رصت تلوثًا بيئيًا تسببت به مصانع رسكلة النفايات ذاتها أو المصبات المختصة، وقد دونت ذلك في تقاريرها وأصدرت بيانات شديدة اللهجة في ذلك الشأن.

 

 

 وفيما يتعلق بفضلات الفريب، أوضح رئيس جمعية "من أجل تونس نظيفة" أن الجمعية تتابع بانشغال شديد التجاوزات البيئية الحاصلة في قطاع الفريب سواء ما يقوم به المهنيون أو المواطنون، منتقدًا عدم تطبيق القانون من طرف مصانع رسكلة وتهيئة الملابس المستعملة التي تعمد إلى تسريب آلاف الأطنان من المواد والألبسة المصنوعة من البوليستار ومن مواد كيميائية أخرى أو هي ممنوعة لأنها تزاحم بعض الصناعات المحلية كصناعة الأقمشة والألبسة والجلود والأحذية.

وبين سامى بن يحيى أن الجمعية سجلت في كامل أنحاء البلاد أن الوعي بخطورة فضلات الفريب منعدم تمامًا، ففضلات "الفريب" التي تلقيها الأسواق ويتركها التجار تتعامل معها البلديات كفضلات عادية فتُحمل مع الفضلات المنزلية العادية إلى المصبات في حين أنها فضلات تشكل خطرًا على البيئة والحياة السليمة باعتبار أنها لا تتحلل بسهولة فقد تبقى في باطن الأرض لمدة قد تتجاوز 4 قرون، وفقه.

كما ذكر محدثنا أن الجمعية رصدت عمليات تخلص من نفايات الفريب في الأودية والغابات بعدة جهات بالشمال الغربي التونسي، مؤكدًا أنها حوادث تكررت في السنوات الأخيرة.

  رئيس جمعية "من أجل تونس نظيفة": نطالب السلطات بالالتزام بتطبيق القانون بخصوص المتسببين في انتشار نفايات "الفريب" سواء بالنسبة للصناعيين أو التجار أو المواطنين

ولفت، في هذا الصدد، إلى أن الجمعية ساهمت مع مكونات من المجتمع المدني المحلي بولايات سليانة وجندوبة وباجة في عدة حملات نظافة لتخليص الطبيعة من تلك النفايات، مؤكدًا أن الأمر لم يكن هينًا وسهلًا لأن نقل النفايات ومعالجتها من جديد يتطلب إمكانيات كبيرة تعجز عنها الجمعيات التونسية المختصة في البيئة.

وطالب رئيس جمعية "من أجل تونس نظيفة" كلًّا من وزارة البيئة ووزارة الداخلية وغرف التوريد والتصدير والوكالات المختصة في التصرف في النفايات والبلديات، بالالتزام بتطبيق القانون بخصوص المتسببين في انتشار نفايات "الفريب" سواء بالنسبة للصناعيين أو التجار أو المواطنين. 

وأوضح في ذات الخصوص بأن المجتمع المدني التونسي المختص في البيئة والصحة بصدد وضع استراتيجية عمل وطنية تقوم على تشبيك الأهداف ومن ثمة تقسيم الأدوار من أجل التصدي لهذا الخطر وستكون مسألة نشر الوعي وتحسيس المواطنين والجلوس مع المخالفين والاحتجاج ضدهم من النقاط الأساسية ضمن هذه الاستراتيجية التي سيتم الإعلان عنها مطلع 2023، على حد قوله.

إن نفايات تجارة الملابس المستعملة "الفريب" باتت تشكل خطرًا بيئيًا كبيرًا في تونس وذلك بشهادة المختصين البيئيين من تونس ومن خارجها وأيضًا بحسب تقارير المجتمع المدني التونسي. وبقدر تنامي هذه التجارة، كان لابد من مراجعة القوانين المنظمة لهذا القطاع الحيوي والصرامة في تطبيقها خشية أن تتحول تونس إلى مصب نفايات ملابس العالم.