أمرّ كل صباح بشوارع مدينة سوسة وساحاتها وبين جدرانها وأسوارها وضجيج زوارها وصخب باعتها. كلّ شيء من حولك يشتت ذهنك ولا يستقرّ بصرك على ركن يحملك في سفر هادئ إلى الماضي إلاّ من بعض المعالم والمجسمات والتماثيل التي تهزّك نحو حقبات من تاريخ تونس وسوسة تحديدًا.
هنا قبالة البنك المركزي فرع سوسة يمكن لك أن تشاهد نصبًا للزعيم النقابي فرحات حشاد وسط حديقة صغيرة. وعلى بعد بضعة أمتار تحت أسوار المدينة تشاهد نصب شهداء 22 جانفي/ يناير 1952، وهناك وسط المدينة يعود نصب الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة متصدرًا ساحة باب بحر، وفي حديقة الطيور تنتبه إلى ذلك التمثال الرخامي الذي يتوسط فسقية مائية.
تزخر سوسة بعديد التماثيل والمجسمات الفنية التي تروي جزءًا من تاريخ المدينة وكامل البلاد
أما ما لا يمكن مشاهدته وقد تمت إزالته من المعالم فهو نصب نائب أول رئيس بلدية لسوسة الفرنسي "فرنسوا قاليني" قبالة محطة القطارات ومحكمة الاستئناف بسوسة، كما نسمع عن النصب التذكاري لضحايا الحرب العالمية الأولى، الذي أزيل في الستينيات وكان في مكان حامية سوسة اليوم إلى جانب مقر الولاية.
ستة معالم ومجسمات هي الأشهر في سوسة منذ بداية الثلاثينيات من القرن الماضي إلى اليوم وهي تستحق بعض الإضاءات التاريخية حتى نعلم شيئًا من تاريخ المدينة وبعضًا من مآثرها الحضارية والفنية والعمرانية.
في مدينة سوسة، تدافعت الحضارات وتزاحمت المصالح وتعددت الديانات واختلفت الجنسيات وعاشت المدينة، كبقية المدن التونسية، صراعًا حادًا بين قيم مختلفة، ولعل الحقبة الاستعمارية الفرنسية شكلت ذروة ذلك الصراع بين القوى الوطنية من جهة والقوى الاستعمارية الفرنسية من جهة أخرى.
التسلسل الزمني للمعالم الست المذكورة يتجه بنا أولاً إلى "حديقة الطيور" بسوسة على مشارف شاطئ بوجعفر الشهير، في هذه الحديقة المحاذية لمقام سيدي بوجعفر يتوسط تمثال رخاميّ أبيض لطفلتين عاريتين، الواحدة قبالة الأخرى ممسكتين بالأيادي وتتجاذبان بقوة. لأول وهلة تتخيل نفسك في إحدى حدائق روما، فالطفلتان تتوسطان فسقية مائية زرقاء متلألئة مستطيلة الشكل وتحيط بها الأزهار المختلفة لونها وتغطي المساحات الشاسعة أشجار ذات ظلال وارفة.
اقرأ/ي أيضًا: فيديو: مدينة سوسة.. عن تاريخ جوهرة الساحل التونسي
- تمثال الجميلتين الصغيرتين
تمثال الجميلتين الصغيرتين كان قد تم تثبيته في هذه الحديقة، التي كان يطلق عليها "حديقة شارل نيكول" سنة 1930، وقد نحته الفرنسي رافائيل باير Raphael Peyre 1872-1949، وقد نقش على القاعدة الرخامية إهداء لمدينة سوسة من صاحبها الثري اليهودي الديانة أصيل سوسة "شوعة غويلة حوري".
وتقول الرواية إن هذا الثري اليهودي قد فقد ابنتيه لما غرقا في شاطئ بوجعفر وتخليدًا لذكراهما الأليمة نحت لهما هذا المجسم في باريس وجلبه إلى تونس ليظل شاهدًا على المأساة التي ألمت به، كما تطالعنا بعض المنشورات في الصحف التونسية آنذاك أنه عند حلول التمثال في ميناء سوسة هبت الجموع بالمئات ونظمت احتفالات ضخمة في المدينة إيذانًا بتثبيته.
- تمثال فرنسوا قاليني Jean François Gallini 1880-1923
أمام محطة القطارات الرئيسية بسوسة وبجانب محكمة الاستئناف لا تزال القاعدة الرخامية لتمثال فرنسوا قاليني إلى اليوم ثابتة في مكانها وسط نقطة خضراء وقد تم إنشاؤه سنة 1929 تخليدًا لذكراه، غير أن المجسم قد تمت إزالته في الستينيات ولا يزال إلى اليوم ملقى في المستودع البلدي.
وتحتفظ ذاكرة سوسة بهذا الموقع المجسم لشخصية استعمارية فرنسية مؤثرة في التاريخ الحديث للمدينة وهو جان فرنسوا قاليني، نائب أول رئيس لبلدية سوسة، ( 1906 -1923 ) وهو سياسي برلماني فرنسي بارز و كان يطلق عليه "امبراطور الساحل"، ويشهد لقاليني أنه صمم مدينة سوسة ذات الخصائص العمرانية الأوروبية خارج أسوار المدينة مستعينًا بالمهندس الفرنسي توسان بوجي Toussint POGGI المقرب منه كما هيأ ميناء سوسة وأشرف على إنجازه وتوسعته بين 1898 و1914 وإنشاء السوق المركزية (مكان المغازة العامة اليوم).
صمم قاليني مدينة سوسة ذات الخصائص العمرانية الأوروبية خارج أسوار المدينة مستعينًا بمهندس فرنسي كما هيأ ميناء سوسة وأشرف على إنجازه وتوسعته وإنشاء السوق المركزية
- نصب ذكرى جنود الحرب العالمية الأولى (Monument aux morts)
النصب التذكاري لضحايا الحرب العالمية الأولى من الجنود الذائدين عن فرنسا خلال الحرب كان بجانب منارة سوسة (حامية سوسة) وقد تمت إزالته في الستينيات بأمر من الحبيب بورقيبة باعتباره معلمًا فرنسيًا استعماريًا، وقد تم تدشينه تحت إشراف القايد الزاوش ووزير المعاشات الفرنسي حينها أندريون Anderion .
ولعل من الأسباب الرئيسية لإزالة هذا المعلم بعد الاستقلال أنه يخلّد مقتل الجنود الفرنسيين خلال الاحتلال الفرنسي لتونس أيضًا. ويذكر لنا خالد عيسى، رئيس جمعية الدراسات والبحوث في ذاكرة سوسة "أن هذا النصب قد تم تصميمه على شاكلة موقع مراقبة في مدينة حيدرة كما يخلد ذكرى الجنود الفرنسيين باعتبار سوسة مقر الفوج الرابع للجنود الفرنسيين حينها".
- نصب النقابي فرحات حشاد
قبالة البنك المركزي، تم تشييد نصب تذكاري للزعيم النقابي فرحات حشاد الذي اغتاله المستعمر الفرنسي في ديسمبر/ كانون الأول 1952 والذي عمل لدى إحدى شركات النقل البحري في مدينة سوسة وكوّن نواة اتحاد العمال التونسي الذي كان وقتها تابعًا للكنفدرالية العامة للشغل الفرنسية، وازداد نشاطه العمالي إلى أن اضطر لترك وظيفته بسبب هذا النشاط في عام 1939.
صمم نصب حشاد بسوسة بناء من سكان سوسة أصله صقلي يدعى روزاريو دورو وهو نفسه الذي أنشأ تمثال فرنسوا قاليني
وقد صمم هذا النصب بناء من سكان سوسة أصله صقلي يدعى روزاريو دورو Rosario Dauro وهو نفسه الذي أنشأ تمثال فرنسوا قاليني. ولا يزال نصب فرحات حشاد إلى اليوم قبلة النقابيين في ذكرى استشهاده وعند إحياء المناسبات الوطنية.
اقرأ/ي أيضًا: دواميس سوسة.. أسرار سراديب الموتى ورحلة البحث عن "الراعي الطيب"
(ماهر جعيدان/ألترا تونس)
- نصب شهداء أحداث 22 جانفي 1952
في مدخل المدينة العتيقة من جهة باب بحر، نجد نصب الشهداء وهو عبارة عن مجسم لشهداء أحداث 22 جانفي/ يناير 1952 بسوسة ويتمثل في متظاهرين يحملون العلم الوطني وبين أيديهم شهيد من الشهداء.
وقد ثبتت على سور المدينة لوحة رخامية كتب عليها: يوم 22 جانفي 1952 وفي هذه الساحة المؤدية إلى وسط المدينة استشهد 12 شهيدًا أثناء المعركة الحامية التي وقعت بين أبناء الساحل المناضل والقوة الاستعمارية الغاشمة وهم كالآتي: رمضان بالحاج مبروك، حمادي نصر الله، محمد بن نصر مسعود، محمد بالحاج علي الهاني، ميلاد بن حسن الإمام، الزاير بن محمد اللطيف، ناجي بن محمد شرادة، محمد بن إبراهيم عتب، محمد بن محمد العياري، حسن بن محمد قريسة، بلقاسم بن أحمد خلف الله، محمد بن الحبيب بن سالم".
(ماهر جعيدان/ألترا تونس)
- نصب الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة
سنة 1977 تم تثبيت نصب تذكاري للرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة وهو يمتطي حصانًا وذلك تخليدًا لذكرى عودته في غرة جوان/ يونيو 1952 من فرنسا وحلوله بميناء حلق الوادي إثر إمضاء اتفاقية الاستقلال الداخلي.
غير أن هذا التمثال قد أزيل من مكانه يوم 19 أفريل/ نيسان 1989 بعد انقلاب بن علي وبقي مكانه شاغرًا وقد ألقي في المستودع البلدي بسوسة لمدة فاقت 25 سنة لكي تقرر النيابة الخصوصية بسوسة في 25 جويلية/ يوليو من سنة 2016 ترميمه وإعادة تثبيته في مكانه وذلك بعد تصويت 7 أعضاء لصالح قرار الإعادة واعتراض 5 أعضاء وتحفظ عضوين، وقد حفت عملية إعادة التثبيت آراء متباينة.
المجسم لتمثال الحبيب بورقيبة في سوسة تم إنجازه من طرف نحات يوغسلافي في عهد المارشال تيتو على خلاف تماثيل بورقيبة الأخرى التي صممها ونحتها تونسيون
ويُذكر أن هذا المجسم لتمثال الحبيب بورقيبة قد تم إنجازه من طرف نحات يوغسلافي في عهد المارشال تيتو على خلاف تماثيل بورقيبة الأخرى التي صممها ونحتها تونسيون.
(ماهر جعيدان/ألترا تونس)
وفي تعليق عن هذه التماثيل والمجسمات الفنية الجميلة في سوسة، يقول المستشار البلدي مراد البحري لـ"الترا تونس" "كلّ المدن جميلة بساكنيها وأخيار الأهل من أرسى قيمًا جمالية في العمران، أضاف إليها لمسة من الفن والإبداع والجمال.. وتلك هي الثقافة الإنسانية التي تقتبس من عبق الماضي ونور الحاضر وتصنع مشروعًا للحياة".
رئيس جمعية الدراسات والبحوث في ذاكرة سوسة، لـ"الترا تونس": "نحن نسعى إلى تحيين ذاكرة سوسة ونمشي بعيدًا لنخلد أعلامً مثل ترجان إمبراطور روما الذي أعطى استقلالاً ذاتيًا لسوسة وكذلك حنبعل الذي أقام بالساحل سنيناً"
وأضاف البحري: "ونحن نفتقد اليوم إلى تماثيل ومجسمات تخلد أعلامًا من أمثال العالم يحيى بن عمر وهو من أعلام مدينة سوسة ورموزها أو أسد بن الفرات الذي انطلق من ميناء برج خديجة لفتح صقلية، ومقارنة بمدن أخرى مثل قصر هلال لا تزال سوسة تفتقد هذه التقاليد في تخليد الأعلام والتي تعطي قيمة مضافة من أجل حفظ ذاكرة المدينة".
من جهته، قال خالد عيسى، رئيس جمعية الدراسات والبحوث في ذاكرة سوسة، لـ"الترا تونس": "نحن نسعى إلى تحيين ذاكرة سوسة ونمشي بعيدًا لنخلد أعلامً مثل ترجان إمبراطور روما الذي أعطى استقلالاً ذاتيًا لسوسة وكذلك حنبعل الذي أقام بالساحل سنيناً".
مراسل ألترا تونس بالساحل مع رئيس جمعية الدراسات والبحوث في ذاكرة سوسة خالد عيسى والمستشار البلدي مراد البحري
اقرأ/ي أيضًا:
أحياء الآجر على ضفاف المدينة.. بوصلة الفقر في سوسة
سوسة في الذكرى 30 لإدراجها في لائحة اليونسكو.. معالم أثرية ومخاطر جديّة