11-أكتوبر-2019

من أشهر التسريبات السياسية في تونس هو تسريب نبيل القروي تخطيطًا لحملة تشويهية ضد منظمة "أنا يقظ" (فتحي بلعيد/أ.ف.ب)

 

كشف الخطاب السياسيّ في تونس قبل الانتخابات وبعدها عن ألوان من الإدانة والصدام والعداء، والتحريض والتمييز والتحقير، ولئن تراجعت فتاوى التكفير فقد تواصل رمي نبال التخوين والاتّهام بالتّطرّف والتعامل مع قوى أجنبيّة، فتراها تصيب هذا مرّة، وتنطح ذاك أخرى.

لم تعد هذه المناكفات والسّجالات غريبة على المواطن التونسيّ، فقد ألفها، ومن فرط اطّرادها باتت رتيبة جفّت فيها شروط الإثارة، بل تحوّلت إلى عامل منفّر، في المقابل طفا على السطح الدعائيّ قبل انتخابات 2019 أسلوب في إدانة الخصوم وكشف عوراتهم يبدو أكثر إبهارًا، لكنّه أشدّ تعقيدًا وأدعى إلى النظر والتحقيق، إذ يقوم على تسريب محادثات تجري في غرف مغلقة. ويتوخّى المسرّبون في ذلك فضلًا عن سابقيّة التخطيط والإضمار تقنيات حديثة دقيقة لا تقتصر على مجرّد نقل الخبر نقلًا شفويًا إنّما تعتمد التقاط الصور وتسجيل اللقاءات والاجتماعات الخاصّة.

اقرأ/ي أيضًا: الانتخابات الرئاسية 2019.. انتخابات بلا نقاش ودون أفكار؟

الإخوان والرفقاء وأهل الغرام

"للمجالس أسرار" عبارة وجيزة تتّصف بطابع تقريريّ صارم ترقى إلى مرتبة الحكمة، وتنطوي على قاعدة سلوكيّة فيها دعوة إلى كتمان الأخبار التي يراد لها الإخفاء والإضمار.

هذا المبدأ الأخلاقيّ يرقى إلى منزلة المعيار الأخلاقيّ في تخيّر الأصدقاء واصطفاء الرفقاء واختبار الأحبّة، وقد حفلت المدوّنة الشعريّة العربيّة القديمة خاصّة في المقام العاطفيّ بقصائد عديدة تحثّ على كتمان السرّ خشية الرقباء والوشاة، في هذا المعنى أنشد جميل بن معمر على لسان حبيبته بثينة قائلًا:

عشيّة قالت لا تذيعنّ سرّنا إذا **غبت عنّا وراعه حين تدبر

وطرفك إمّا جئتنا فاحفظنّه ** فزيغ الهوى بادٍ لمن يتبصّر

"للمجالس أسرار" عبارة وجيزة تتّصف بطابع تقريريّ صارم ترقى إلى مرتبة الحكمة وتنطوي على قاعدة سلوكيّة فيها دعوة إلى كتمان الأخبار التي يراد لها الإخفاء والإضمار

لئن كان دافع العشّاق إلى توخّي الحذر وكتمان السرّ أخلاقيّ اجتماعيّ في بيئة ترى الحبّ خطيئة فإنّ دافع الرفقاء والإخوان في فترات العمل السرّي إلى هذا السلوك راجع إلى سياسة الملاحقة التي تنتهجها الأنظمة الدكتاتوريّة ضدّ المعارضين، لذلك عدّ إفشاء السرّ في هذه السياقات آية غدر وخيانة لا تغتفر.

في المجتمعات المتحرّرة يميل الساسة والعشّاق إلى الخطاب الصريح المباشر والفعل العلني الساطع، لذلك تتقلّص نسبيّا المسافة السلوكيّة بين الحيّزين الخاصّ والعامّ في أجواء تتّجه شيئا فشيئا نحو الشفافيّة والوضوح، لكن بم نفسّر ظاهرة التسريبات التي طغت في الساحة السياسيّة بعد الثورة وبلغت ذروتها بين سنتي 2014 و2019؟

قلق الغنوشي ومستنقع الندائيين

الناظر في التسريبات التي تابعها التونسيّون منذ الثورة واجد أنّ خطورتها لا تكمن في كثرتها فحسب، إنّما تكمن كذلك في تنوّعها ممّا يجعلها تستقطب جمهورًا واسعًا، فهؤلاء تستهويهم التسريبات ذات اللون الأخلاقي وأولئك يوجّهون تركيزهم إلى المضامين التي تحمل إدانة سياسيّة، في حين يمثّل الشأن الأمنيّ الوطنيّ من أوكد ما يجمع التونسيين.

لم يتسرّب من "مونبليزير" غير فيديو واحد بدا فيه راشد الغنّوشي قلقًا من ضغط المتشدّدين، فنبّه عددًا من السلفيين في 2011 إلى أنّ "الجيش غير مضمون والأمن غير مأمون"، وقد مثّل هذا التسريب بالنسبة إلى الأنصار آية خوف وتوجّس من "الثورة المضادّة"، وتحوّل من جهة أخرى إلى مطيّة للقدح في نوايا النهضة من قبل أعدائها ومناوئيها، إذ اتّهموها بممارسة خطاب مزدوج في انتظار الهيمنة و"التمكين". جدير بالذكر أنّ حركة النهضة قدا طالتها سهام التسريب منذ عهد بن علي غير أنّ جلّ التسجيلات آنذاك ثبت تقنيًا أنّها مفبركة مندرجة ضمن خطّة الاستئصال التي رسمها النظام السابق.

الناظر في التسريبات التي تابعها التونسيّون منذ الثورة واجد أنّ خطورتها لا تكمن في كثرتها فحسب، إنّما تكمن كذلك في تنوّعها ممّا يجعلها تستقطب جمهورًا واسعًا

في المقابل، فاضت الساحة السياسيّة بالتسريبات الصادرة عن مجالس الندائيين، من أهمّها تسجيل يفضح تدخّل حافظ قائد السبسي نجل رئيس الجمهوريّة الراحل في التعيينات مستندًا إلى صلته الدمويّة بساكن قرطاج، وقد عبّر عن هذه الوضعيّة في ثقة قائلًا "مادام الشايب موجود" قاصدا أن تطلّعاته إلى التوريث وتغيير نظام الحكم وإزاحة حركة النهضة خطوات يمكن بلوغها بفضل سلطة أبيه ونفوذه، فأعاد هذا التسريب إلى الأذهان الويلات التي أصابت بعض الأجهزة التنفيذيّة في عهدي بورقيبة وبن علي، وقد تجسّد الأمر آنذاك من خلال تدخّل الأبناء والأصهار والأقارب في إدارة الشأن العامّ واستغلال النفوذ لتحقيق المكاسب وحياكة المؤامرات.

المسرِّبُ بطل أم ظالم؟

عوض السعي إلى تفسير مضمون التسجيل حتّى على وجه التنصّل أو المغالطة وجّه القيادي في نداء تونس حافظ قايد السبسي اتّهامات إلى خصومه في الحزب قائلًا في تدوينة له على فيسبوك "إنّ الخطورة لا تكمن في المضمون بقدر ما تكمن في التجسّس على حرمة اجتماع مغلق"، هذا المشهد حوّل المسرِّب إلى مذنب في ظنّ المستهدف بطلًا في رأي المولعين بكشف الحقائق، في هذا المعنى يقول أبراهام لنكولن أحد رؤساء أمريكا السابقين ما معناه "إنّ الشاة التي ينقذها الراعي تراه بطلًا في حين لا يعدو هذا الراعي في ظنّ الذئب أن يكون ظالمًا دكتاتورًا".

اقرأ/ي أيضًا: نداء تونس.. من الفائز الأكبر في 2014 إلى الانهيار الكبير في 2019

لم يختلف ردّ فعل سفيان طوبال رئيس كتلة النداء في برلمان 2014 عن سلوك خصمه في معركة الشقوق الندائيّة، فقد اتّهم غريمه حافظ قائد السبسي بالتواطؤ مع أحد المديرين العامّين بوزارة الداخليّة بغية تشويهه، وقد خلّف هذا التواطؤ تسريب فيديو في ماي/آيار 2019 بدا فيه طوبال منتشيا وهو يرشق الأموال بكباريه في القاهرة، فنال هذا القائد ألوانًا من السخط والتهكّم، وقد استندت المواقف المتندرة على مفارقة مفادها "أن الساسة يدعون المواطن إلى التقشّف والوقوف لتونس في حين يقف هم للنزوات والراقصات..".

القروي متهم في التسريبات زعيم في الانتخابات

تكمن خطورة هذه التسريبات مع طوبال والسبسي في وجود شبهة توظيف أجهزة الدولة لضرب الخصوم، ولئن بدت تلك التسجيلات ذات منحى أخلاقيّ وسياسيّ فقد اتّخذت مع نبيل القروى رجل الأعمال ومؤسّس حزب قلب تونس لرئاسة الجمهوريّة وجهة إجراميّة ففي أوت/ أغسطس 2019 أنصت جلّ التونسيين إلى تسريب صوتي بدا فيه هذا المرشّح لقيادة البلاد عازمًا على الانتقام من مهاب القروي المدير التنفيذيّ لجمعيّة "أنا يقظ"، وتكمن سابقيّة الإصرار من خلال التخطيط لزرع جهاز تتبّع في سيارة هذا الناشط باعتماد تقنية "جي بي أس"، وقد عدّ جوهر بن مبارك أستاذ القانون الدستوريّ هذا التسجيل يقتضي تدخّلًا عاجلًا من وكيل الجمهوريّة للتحقّق من الأمر بمقتضى وجود قرائن توحي "بالتخطيط لتنفيذ جريمة والشروع فيها".

تخطّت تونس بعد الثورة العمل السياسيّ السرّي لذلك يفترض أن تكون الاجتماعات حتّى إن كانت في غرف مغلقة قائمة على النزاهة والشفافيّة

تخطّت تونس بعد الثورة العمل السياسيّ السرّي، لذلك يفترض أن تكون الاجتماعات حتّى إن كانت في غرف مغلقة قائمة على النزاهة والشفافيّة، فلا شيء يستحق الإخفاء في ظلّ أجواء الحريّة غير الخطط والبرامج التي تكشف عن مسالك إجراميّة أو تآمريّة، لذلك يبدو أنّ أكثر الأحزاب ميلا إلى الحيطة هي تلك التي تمارس ضروبًا من النفاق السياسيّ أو العمل الحزبيّ القائم على النزاعات المصلحيّة الضيقة التي تفضي إلى سلوكات مافيويزيّة أو استخباراتيّة لا تليق بدولة القانون والمؤسّسات.

التشفّي والتوقّي والجزاء

لعلّ أكثر الأحزاب التي ينطبق عليها هذا التقييم بشهادة شخصيّات انتمت إليه حزب نداء تونس الذي يسير شيئًا فشيئًا نحو الزوال والتلاشي، فالتسريبات لم تكن تدفع القيادات نحو الانضباط والمراجعات، إنّما كانت تحثّهم على التشفيّ من المسرّبين من قبيل اتّهام ليلي الشتاوي وتجميد عضويّتها بالحزب، ولأنّ جدران هذا الحزب كانت هشّة آيلة منذ البداية للسقوط فقد عمد عدد من قادتها إلى إجراءات احتياطيّة تثير الضحك. ففي مارس/آذار 2017 اجتمع وفق خبر نشرته جريدة "الشارع المغاربي" بعض قادة الحزب بمنزل سماح دمّق النائبة في برلمان 2014 مع مستشارين في رئاسة الجمهوريّة منهم نورالدين بن تيشة المكلف بالعلاقات مع الأحزاب وسعيدة قراش المستشارة المكلفة بالمجتمع المدنيّ، فعمد المنظمون إلى إلزام الجميع بوضع الهواتف الجوّالة في قفّة بمدخل "قاعة الاجتماع".

لا يلحظ المتابع في تونس تأثير عميقًا جذريًا للتسريبات في الرأي العامّ فقد حافظ جرحى التسجيلات الفاضحة أو جلّهم على منزلتهم الشعبيّة

لا شكّ أنّ التسريبات ظاهرة دعايّة كونيّة لا يكاد ينجو منها سائس حتّى حقّ تخصيص ركن أو فقرة من جريدة أو برنامج تلفزيّ لهذه الأخبار التي تسري كلّ يوم سريانًا متدفّقًا لا يكاد ينقطع، غير أنّ الناظر في أثر تلك التسريبات واجد لها أثرًا بيّنًا في منزلة السياسيين صعودًا ونزولًا، فمن هتك سرّه وافتضح أمره أعرض عنه الناخبون والداعمون، أو هكذا يظنّ العقلاء.

في المقابل لا يلحظ المتابع في تونس تأثير عميقًا جذريًا للتسريبات في الرأي العامّ، فقد حافظ جرحى التسجيلات الفاضحة أو جلّهم على منزلتهم الشعبيّة، إذ تمكّن سفيان طوبال من حصد الأصوات التي أتاحت له العودة إلى البرلمان مبجّلًا محصّنًا، وكان رهان الغنوشي صائبًا حينما وجّه قبلته صوب البرلمان، فهو الآن رجل الدولة بعد كان في ظنّ الكثيرين "رجل التكتيك" ، أمّا نصيب نبيل القروي فقد كان أوفر، إذ ترشّح رئاسيًا إلى الدور الثاني وتمكّن مولوده الحزبيّ الجديد من كسب قلوب المصوّتين لينال المرتبة الثانية بعد حركة النهضة ذات التاريخ العريق نضاليّا وسياسيّا وتنظيميّا.

تبيّن إذًا أنّ الشعب لا يعاقب المشبوهين بل هو أميل إلى مجازاتهم، هذه المفارقة يمكن إرجاعها إلى أربعة أسباب، أوّلها خروج هؤلاء المستهدفين في صورة الضحايا المظلومين، ثانيها عدم قدرة الخصوم على استثمار تلك الخروقات التي تكشف عنها التسجيلات، ثالثها التعصّب الأعمى في الموالاة أو المعاداة ممّا يخلّف في المتحزّب تبعيّة مطلقة تجعله أبعد ما يكون عن مراجعة مواقفه قبولًا أو إنكارًا، رابعها وهو الأخطر تطبيع المواطن مع الفساد بمختلف وجوهه، فإنّ حدّثته عن سياسيّ سارق أو كاذب أجاب "ليس وحده، كلّهم سرّاق، كلّهم كذّابون".     

 

اقرأ/ي أيضًا:

لطفي العبدلي.. فنّان المواقف الثوريّة والدعاية الانتخابيّة

بعد نتائج الدور الأول للانتخابات الرئاسية التونسية.. حركة النهضة إلى أين؟