13-يناير-2024
ذكرى الثورة التونسية

في ذكرى الثورة التونسية عادت الحرية من جديد لتصدر المطالب المرفوعة (صورة أرشيفية/ Godong/ Getty)

 

ما فتئت الشعارات والمطالب التي يرفعها التونسيون في وجه الحكومات المتعاقبة خلال أعياد ثورة 17 ديسمبر/14 جانفي تتغير من سنة لأخرى حتى استوعبتها جميعها سنة 2024، وذلك بعد مرور 13 سنة على اندلاع شرارة الثورة وإسقاط نظام زين العابدين بن علي لتتراوح هذه المطالب بين الاجتماعي والسياسي والاقتصادي ويضاف إليها مؤخرًا جانب الحقوق والحريات. 

ويعتبر تعدد وتنوع المطالب التي طالت جميع الميادين والمجالات مؤشرًا سلبيًا في سلم تقييم نتائج الثورة وتحقيق أهدافها التي صدحت بها حناجر التونسيين سنة 2011 "شغل حرية كرامة وطنية"، حتى أن تاريخ الثورة ظل غير متفق عليه ومحل خلاف إلى حين أقرّ الرئيس قيس سعيّد، في أمر رئاسي صادر سنة 2021، يوم 17 ديسمبر/كانون الأول عيدًا وطنيًا للثورة التونسية. 

ما فتئت الشعارات والمطالب التي يرفعها التونسيون خلال أعياد ثورة 17 ديسمبر/14 جانفي تتغير من سنة لأخرى حتى استوعبتها جميعها سنة 2024 خاصة بعودة الحرية إلى صدارتها

وشهدت تونس خلال السنوات الأولى للثورة وخاصة سنة 2011 والسنة التي تلتلها موجة مطالب اجتماعية غير مسبوقة تم على إثرها الترفيع في الأجور وإلحاق العديد من طالبي الشغل بالوظيفة العمومية. 

وعلى الرغم من التغيرات السياسية التي شهدتها البلاد سنة 2012 والمتمثلة في تنصيب مجلس تأسيسي منتخب من الشعب وتشكيل حكومة، فإنّ المطالب بتحسين الوضع الاقتصادي المتردي للعديد من الجهات الداخلية خاصة ظل على رأس قائمة المطالب للشعب التونسي. وباندلاع الأزمة السياسية التي تعود جذورها إلى الصراعات السياسية بين السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية أي مؤسسات الحكم بصفة عامة وخسارة الأحزاب السياسية لرصيدها لدى التونسيين، ظلت جميع مطالب الشعب بمختلف أبعادها عالقة ورهينة إصلاح جذري.

وتختلف القراءات حول سيرورة المطالب الشعبية التي ظلت تتأرجح على مدى سنوات بين الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والحقوقي، إلا أنّ المتفق عليه هو أن المواطن التونسي كان قد ثار على نظام بن علي على أمل تحسن حياته اليومية إلا أن الحكومات المتعاقبة عجزت عن احتواء هذا المطلب البسيط وتأزمت الأوضاع أكثر فأكثر ليصطدم التونسي بمزيد من التعقيدات في حياته اليومية وسط مخاوف من انفجار اجتماعي جديد.

 

  • عودة إلى النقطة الصفر

ويرى المحلل السياسي صلاح الدين الجورشي أنّ "في كل الثورات، سواءً في تونس أو خارجها، يرتفع سقف المطالب الشعبية كثيرًا ولا تقتصر مطالب المواطنين فقط على تلبية احتياجات أساسية كانوا يتمتعون بها من قبل، بل يطمحون إلى تغيير كبير في حياتهم وخاصة على المستويين الاقتصادي والاجتماعي وهو ما حدث في بداية الثورة"، مستدركًا القول إنّ "النخبة كانت تريد إعطاء الأولوية للجانب السياسي، أي أنها كانت تعتقد أن نظام بن علي مستبد وهو الذي أدت سياسته إلى ثورة التونسيين عليه، بالتالي حاولت الطبقة السياسية إيلاء أهمية كبرى للجانب السياسي فتم إصدار دستور والقيام بانتخابات حرة وتنصيب برلمان". 

صلاح الدين الجورشي لـ"الترا  تونس": عجز الطبقة السياسية في تغيير واقع التونسيين بشكل ملموس وواضح جعل التونسيين يشعرون أن الحريات وحدها لا تكفي ولا تؤدي إلى التغييرات التي يؤمنون بها

وأوضح الجورشي، في حديثه لـ"الترا تونس"، أنّ المشكل هو عجز الطبقة السياسية من خلال الأحزاب في تغيير واقع التونسيين بشكل ملموس وواضح، فبدأ التونسيون يشعرون أن الحريات وحدها لا تكفي ولا تؤدي إلى التغييرات التي يؤمنون بها وأنّ هذه الحريات كانت على حساب عدم رفع الأجور وارتفاع الأسعار، بالتالي عادت المطالب الاجتماعية إلى الحياة العامة، ما فتح الباب أمام قيس سعيّد ليعيد قلب الهرم، بل ليحدّ من حرية السياسيين ويلغي الأحزاب ويقلل من أهمية الانتخابات. 

 

 

وأشار المتحدث إلى أنّه كان من المفروض أن تُعطى الأولوية للحقوق الاقتصادية والاجتماعية لكن المشكل إلى حد الآن هو أن هذه الحقوق لم تتحسن بشكل ملحوظ بل بالعكس حدث تراجع فيها، ناهيك عن تراجع الحريات، ما دفع الطبقة السياسية إلى إعادة برمجة الأولويات وأصبحت قضية الحريات مطلبًا أساسيًا في هذه المرحلة. 

ويرى الجورشي أنّ المشكل معقد كثيرًا لأنّ جزءًا هامًا من المواطنين لا يطالبون بالحريات، حسب ما يُلاحَظ، وإنما يطالبون بالحد الأدنى وهو توفير الحاجيات الأساسية على مستوى الغذاء، فعاد التونسي للطوابير من أجل الزيت والسكر والقهوة، وهو ما لم نصل إليه قبل الثورة، أي أن مستوى الطموح تراجع لدى المواطنين ووقعت صدمة لدى التونسيين أربكت سلم الأولويات لديهم"، حسب تقديره.

صلاح الدين الجورشي لـ"الترا  تونس": المواطن عاد من جديد يتجاهل أهمية الحريات والديمقراطية في حياة الشعوب، والدليل على ذلك هو التدني القياسي في نسب المشاركة في الانتخابات وعدم التضامن بالشكل المطلوب مع السياسيين على مستوى الحريات

وتابع في ذات الصدد: "المواطن العادي عاد من جديد يتجاهل أهمية الحريات والديمقراطية في حياة الشعوب، والدليل على ذلك هو التدني القياسي في نسب المشاركة في الانتخابات وعدم التضامن بالشكل المطلوب مع السياسيين على مستوى الحريات، بالتالي أصبح هناك مأزق وعي على مستوى شعبي وتحديد الأولويات لدى النخب". 

واستنكر الجورشي ما اعتبره "الفصل المستمر في تونس بين أمرين مترابطين وهما المطالب الاجتماعية وضرورة الاستجابة لها والمطالب السياسية"، معقبًا: "الحريات ليست منفصلة عن توفير الخبز واحترام المواطنين وتلبية احتياجاتهم".

واستطرد في هذا السياق: "في الفترة الأولى من الثورة، ذهبت النخبة السياسية في اتجاه واحد وهو بناء تجربة ديمقراطية، لكن تجربة الديمقراطية بدون تلبية احتياجات أساسية وبدون عناية بالمطالب الاجتماعية جردتها من بعدها الاجتماعي وأصبحت وكأنها شكلية"، معتبرًا أنّ "ذلك أعاد المواطنين إلى النقطة الصفر أي إلى أزمة على المستوى الاقتصادي والاجتماعي، لأننا إلى حد الآن لم نبن خيارات اقتصادية واجتماعية عميقة وجدية ولم نقم بالإصلاحات الضرورية"، وعقب قائلًا: "ومن ناحية ثانية عدنا للمربع الأول وهو المطالبة بحرية التعبير والتنظم والتظاهر وبدل التقدم تأخرنا على ما كنا عليه من قبل". 

صلاح الدين الجورشي لـ"الترا  تونس":  عدنا للمربع الأول وهو المطالبة بحرية التعبير والتنظم والتظاهر وبدل التقدم تأخرنا على ما كنا عليه من قبل

وأكّد المحلل السياسي أنّ "تونس لم تحسن استثمار الفرصة التي جاءتها، وكان من الأجدر على الأحزاب السياسية إعطاء الأولوية للانتخابات البلدية قبل البرلمانية، كما لم يكن هناك داع لاستغراق 3 سنوات في صياغة الدستور"، معتبرًا أيضًا أنه "كان من الممكن الاهتمام أكثر بالجانب الاجتماعي ومراعاة إمكانيات البلاد المحدودة"، خاتمًا حديثه بالقول: "وجدنا أنفسنا في حركة مطلبية غير متوازنة وجدية وارتكبنا أخطاء جعلتنا عوض التقدم نتأخر خطوات كبيرة جدًا إلى الوراء".

 

  • قصم ظهر الثورة

على الرغم من أن المطالب الشعبية كانت عديدة والتحركات الاجتماعية في أوجها حتى أنها عطلت العديد من المرافق العمومية على غرار شركة فسفاط قفصة التي تكبدت خسائر كبيرة بسبب الاحتجاجات، فإنّ التظاهرات والتحركات الاجتماعية بصفة عامة تقلصت بشكل ملحوظ وأصبحت تتلخص في بعض الوقفات المنددة باعتقال سياسيين وإعلاميين. كما تحولت في الآونة الأخيرة منذ أحداث العدوان الصهيوني الغاشم على فلسطين إلى وقفات دورية مساندة للقضية، وهو ما يطرح أكثر من تساؤل حول أسباب جمود الشارع التونسي رغم تردي الأوضاع المعيشية التي تحاول الحكومات المتعاقبة تحسينها دون نتائج تذكر.    

الأمين البوعزيزي لـ"الترا تونس": طوال العشرية التي تلت الثورة 90% من المطلبية الشعبية كانت مفبركةً ومدفوعًا بها من أجل إفشال التجربة وإرهاق الانتقال الديمقراطي

ويعتبر الباحث الجامعي والناشط السياسي الأمين البوعزيزي أن المطالب السياسية هي شعبية بالأساس، لكن لفئة النخب والسياسيين والمثقفين والحقوقيين، أي أنها مطالب النخب المتمدرسة التي لا تقنع فقط بالخبز وأصبح من حقها أن تطالب بالانخراط في تدبير الشأن العام.

 أضاف البوعزيزي أنه "عندما انخرطت النخبة السياسية النشيطة في معارك الناس وذهبت للمستوى الاجتماعي، حدث اللقاح بين المطالب الاجتماعية المعزولة والمطالب السياسية التي يقودها سياسيون لوحدهم ووجد المواطن من هم مسلحون بخبرات سياسية متقدمة، فحدثت الثورة، وبالتالي لا فصل بين الاجتماعي والسياسي"، حسب تقديره.

 

 

ويجزم البوعزيزي، في حديثه لـ"الترا تونس" أنه "طوال العشرية التي تلت الثورة، 90% من المطلبية الشعبية كانت مفبركةً ومدفوعًا بها من أجل إفشال التجربة وإرهاق الانتقال الديمقراطي، والدليل على ذلك هو أن الوضع تردى عشرات المرات على الوضع الذي كان المواطنون يتمردون ضده ومع ذلك لا نجدهم في الشارع".

وشدد البوعزيزي على أنّ "الحركات الاجتماعية الحقيقية كانت قبل الثورة ينفذها المعطلون الذين تم تشغيلهم بعدها، ويخطَّط اليوم لتنحيتهم بحجة إثقال كاهل الإدارة العمومية، والحال أن الإشكال يكمن في  سوء إدارة الموارد البشرية داخل الإدارة"، حسب تقديره.

الأمين البوعزيزي لـ"الترا تونس": نحن الآن نعيش معركة الحريات ومعركة سياسية مسقفة بمطالب الحريات بمعنى الارتداد إلى فترة ما قبل 14 جانفي 2011 فقد تحول خطاب المعارضة إلى خطاب حقوقي

ويقول المتحدث "بعد 13 سنة من الثورة، ها نحن وكأننا عدما إلى فترة في ما قبل 14 جانفي/يناير 2011، أي أن من نسمع أصواتهم عالية حاليًا هم أنفسهم الأقلية التي كانت تصدح حناجرها قبل الثورة، لكن الموجة الشعبية التي كنا نحييها والمتمثلة في تدخل الجميع في الشأن العام تراجعت اليوم خوفًا وتمكن المرسوم عدد 54 من قصْم ظهر الثورة التي صمدت عشر سنوات".

وأضاف الناشط السياسي: "نحن الآن نعيش معركة الحريات ومعركة سياسية مسقفة بمطالب الحريات بمعنى الارتداد إلى فترة ما قبل 14 جانفي/يناير 2011، فقد تحول خطاب المعارضة إلى خطاب حقوقي وهي فضيحة"، حسب تقديره، معتبرًا أنه "من المفترض أن تظل المعركة سياسية مهما غلت تكلفتها، فسجن سياسيين وغيرهم ليس مبررًا للتخلي عن السياسة والتحول للدفاع عن الحقوق"، خاتمًا حديثه بالقول: "لا يجب إنزال السقف السياسي إلى السقف الحقوقي".  

وتأتي الذكرى الـ13 للثورة التونسية، والثالثة بعد الـ25 من جويلية/يوليو 2021 تاريخ إقرار الرئيس التونسي قيس سعيّد ما أسماها "الإجراءات الاستثنائية" وما تلاها من أحداث، في سياق عام اتّسم بسلسلة من الإيقافات والتتبعات التي طالت معارضين سياسيين وصحفيين ومدونين ومحامين في قضايا مختلفة ارتبط عدد منها بما عرف بقضية "التآمر على أمن الدولة"، وعدد آخر بقضايا ارتبطت بممارسة الحق في حرية التعبير.

وقد قوبلت هذه الإيقافات والتتبعات برفض واسع على الساحة السياسية والحقوقية المحلية والدولية، لا سيّما وأنها ارتبطت بأُطر اعتُبرت مخالفة لما تنصّ عليها الاتفاقيات الدولية التي سبق أن صادقت عليها تونس في مجال حقوق الإنسان.