13-يناير-2024
تونس احتجاجات علم الثورة

أي الجمع بين مؤشرات ظاهرية لممارسات ديمقراطية مع عناوين سلطوية كعدم التوازن بين السلط وضرب استقلال القضاء والمحاكمات السياسية (حسن مراد/ Defodi images)

مقال رأي 

 

بحلول عام 2024، يفتتح رئيس الدولة قيس سعيّد العام الثالث منذ استحواذه على جميع السلطات في البلاد واستفراده برسم مسار جديد على مختلف الأصعدة. 

وإن ما كانت السنوات القليلة المنقضية كافية لهدم البناء المؤسساتي والتشريعي لديمقراطية ناشئة ومريضة في آن بما يسّر في صيف 2021 الإجهاز عليها، توازيًا مع وضع الرئيس أسس مشروعه، فإن السؤال يُطرح مفتتح كل عام عن مآل موقع البلاد على خارطة الاستحقاق الديمقراطي. هل يتعزّز تصنيفها ضمن الأنظمة الهجينة التي انضمّت إليها قبل عامين، أم تتسارع خطواتها لتعود للأنظمة الاستبدادية على النحو الذي كانت عليه قبل الثورة أم ترمّم نفسها من جديد كديمقراطية غير مكتملة؟ 

السؤال يُطرح مفتتح كل عام عن مآل موقع البلاد على خارطة الاستحقاق الديمقراطي. هل يتعزّز تصنيفها ضمن الأنظمة الهجينة التي انضمّت إليها قبل عامين، أم تتسارع خطواتها لتعود للأنظمة الاستبدادية؟

لا يتأسس استشراف تموقع البلاد واقعًا إلا بقراءة مسارها التراكمي طيلة السنوات الأخيرة الذي يبيّن انزياحًا ممنهجًا عن الممارسة الديمقراطية. تبدي ممارسة رئاسة الدولة على سبيل المثال نفورًا عمليًا ومتزايدًا من إشراك الفاعلين السياسيين والمدنيين في اتخاذ القرار. تتعزز بصفة بيّنة صورة الرئيس الذي يحكم ويسود لوحده، ولم تستطع الغرفة البرلمانية تبديد هذه الصورة بمعاينة تماهيها مع إرادة السلطة التنفيذية.

تعطيل المصادقة على مشروع قانون تجريم التطبيع الذي قدمه نواب، فرضه رئيس الدولة ولم يكن للبرلمان إلا الاستكانة لما يريده الرئيس في نهاية المطاف. لم يظهر إرجاع سلطة التشريع للبرلمان بعد أن مارسها الرئيس لوحده طيلة ما يزيد عن عام ونصف أنها قيّدت، في الواقع، من سلطات الرئيس. ليس فقط بالنظر للتركيبة البرلمانية الداعمة في أغلبيتها لرئاسة الدولة، ولكن بالنظر للنظام السياسي الذي يجعل الرئيس متعاليًا على بقية المؤسسات غير القادرة على مزاحمته. 

تبدي ممارسة رئاسة الدولة نفورًا عمليًا ومتزايدًا من إشراك الفاعلين السياسيين والمدنيين في اتخاذ القرار. تتعزز بصفة بيّنة صورة الرئيس الذي يحكم ويسود لوحده، ولم تستطع الغرفة البرلمانية تبديد هذه الصورة

استقلال القضاء الذي يعدّ لوحده معيارًا أساسيًا في قياس المعايير الديمقراطية، يضعف بطريقة ممنهجة أيضًا. افتُتح عام 2024 بمحاكمة استهدفت الصحفي زياد الهاني على خلفية تصريح ضد وزيرة، انتهت بإصدار حكم ضده بالسجن لمدة 6 أشهر مع تأجيل التنفيذ. 

بين انطلاق التتبعات والعقوبة الصادرة، غابت ضمانات محاكمة عادلة ليس فقط انطلاقًا باستهداف المحاكمة لحرية الصحافة والتعبير، بل بضعف قدرة القضاة على اتخاذ إجراءات أو إصدار أحكام نابعة حصرًا من وجدانهم الخالص، في ظل الحصار الذي فرضته السلطة التنفيذية على القضاة الذين يخشون الإعفاء والإيقاف عن العمل والإبعاد بقرار من رئيس الجمهورية ووزيرة العدل. والعقوبة ضد الهاني على وجه التحديد لا تستهدف شخصيًا بل تستهدف الصحفيين برمّتهم. العقوبة الصادرة هي رسالة موجّهة ومضمونة الوصول بالنسبة للسلطة التنفيذية التي طالما أثبتت انزعاجها من حرية التعبير والصحافة بل وحساسيتها إجمالًا من الحريات العامة.

تغيب الحماسة في انتظار الاستحقاق الرئاسي على خلاف ما كانت عليه الصورة في انتخابات 2014 و2019.. انتخابات لأول مرة منذ الثورة بعد مغادرة البلاد لنادي الدول الديمقراطية وجمود الحياة الحزبية والسياسية إلى حد ما، وتنافسية غائبة في ظل سطوة الرئيس

في خضم هذا المشهد، يتواصل مهرجان تنظيم الانتخابات الواحدة تلو الأخرى، آخرها انتخابات المجالس المحلية التي سجلت نسبة مشاركة في حدود 11.84% أسوة بالانتخابات التشريعية قبل عام. محافل قاطعتها الأحزاب السياسية الفاعلة، وفرضها رئيس الدولة لإظهار تشاركية في الظاهر واستدعاء شرعية مترهّلة. 

تحوّل الانتخابات إلى مواعيد باهتة، في الواقع، هو تنفيذ لخارطة رئاسية لا أكثر ولا أقل. المشكل دومًا ليس في شفافية عملية الاقتراع في حد ذاتها، بل في مسار إجراء الانتخابات ومدى توفر ضمانات نزاهتها، وتمثلها كمحطة تأسيس للشرعية في سياق ديمقراطي. هذا ما تفتقده المحافل الانتخابية للرئيس والمنتظر تجديدها عام 2024: الدور الثاني للانتخابات المحلية ولكن الأهم الانتخابات الرئاسية. 

في هذا الجانب، تغيب الحماسة في انتظار الاستحقاق الرئاسي على خلاف ما كانت عليه الصورة في انتخابات 2014 و2019. انتخابات لأول مرة منذ الثورة بعد مغادرة البلاد لنادي الدول الديمقراطية، وجمود الحياة الحزبية والسياسية إلى حد ما، وتنافسية غائبة في ظل سطوة الرئيس.

تواصل البلاد طريقًا غامضًا والمرجّح أنها ستظلّ في نادي "البيْن بيْن"، أي الجمع بين مؤشرات ظاهرية لممارسات ديمقراطية كالانتخابات والسقف الأدنى من ممارسة الحريات مع عناوين سلطوية كعدم التوازن بين السلط وضرب استقلال القضاء والمحاكمات السياسية

العام الجديد قد لا يكون إلا عام استدامة ما ظهر عرضًا ومؤقتًا. تواصل البلاد طريقًا غامضًا لا تُعرف بعد نهايته. المرجّح أن البلد سيظلّ في نادي "البيْن بيْن"، أي الجمع بين مؤشرات ظاهرية لممارسات ديمقراطية كالانتخابات الدورية والسقف الأدنى من ممارسة الحريات العامة مع عناوين سلطوية بينها ذِكرًا عدم التوازن بين السلط وضرب استقلال القضاء والمحاكمات السياسية. لكن ما يُخشى هو تسارع الانزلاق نحو سلطوية أكثر تشددًا مما مضى، ما قد يُقرأ لاحقًا كفترة انتقالية لدكتاتورية جديدة في تاريخ البلاد.  الرهان إذًا هو مواصلة التصدّي للممارسات السلطوية وإيقاف سيل انتهاكات الدولة.

عام 2024، بالنهاية، هو عام مقاومة جديد من أجل تونس حرّة حافظة لكرامة مواطنيها وحقوقها، وأيضًا ضامنة لمستوى معيشي ملائم. فالأزمة الاقتصادية والمعيشية تبقى، في العمق، هي الهمّ الأساسي للمواطن. إن زواج الديمقراطية والرفاهية يظل ممكنًا دائمًا خاصة في ظل الفشل المريع للسلطوية الصاعدة في تحقيق ما لم تستطع الديمقراطية غير المكتملة على توفيره طيلة السنوات الماضية.  

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"