29-أغسطس-2023
شجرة الهندي أو التين الشوكي

قصص كفاح لرجال وشباب نحتوا كياناتهم ليحلقوا تحت سماء الكرامة بحثًا عن حسن العيش (صورة توضيحية/Getty)

 

تبدو زهرة التين الشوكي أو "نوارة الهندي"، كما يسمى في تونس، زهرة ذهبية تمعن الالتفات للجبال لا تنال منها قصائد الشعر لشدة خجلها ولا ينال منها البستان وهو يتجمّل زهوًا أمام الغابة الدكناء.

وفي غفلة من الربيع، تنبت هذه الزهرة على الأكف الخضراء فتتجاور في شكل هلال لتشكل مشهدًا طبيعيًا وفنيًا بديعًا، زهرة فيها من قشعريرة الشمس وظلال التراب الذهبي المتوهج تحت خط الأصايل، هادئة بين الحقول القصية، تنذر كل جمالها من أجل تحويله إلى غلّة متوّجة هي "الهندي" الموصوف في تونس بـ"سلطان الغلة".

"الهندي" أو سلطان الغلة كما يسمى في تونس، يتربع على عرشه انطلاقًا من شهر أوت ليتواصل حكمه إلى غاية شهر سبتمبر من كل سنة، وأيضًا ثمة أنواع أخرى منه تبقى مطروحة للبيع بالمحلات الكبرى طيلة أشهر السنة لتباع بأسعار باهظة

 

 

هذا السلطان يتربع على عرشه انطلاقًا من شهر أوت/أغسطس ليتواصل حكمه إلى غاية شهر سبتمبر/أيلول من كل سنة، وأيضًا ثمة أنواع أخرى منه تبقى مطروحة للبيع بالمحلات الكبرى طيلة أشهر السنة لتباع بأسعار باهظة يتجاوز ثمن الكيلوغرام الواحد 20 دينارًا.

 

التين الشوكي

زهرة التين الشوكي أو "نوارة الهندي"، كما يسمى في تونس، زهرة ذهبية تمعن الالتفات للجبال (صورة توضيحية/Getty)

 

والتين الشوكي هو من فصيلة الصباريات المقاومة للجفاف وهي زراعة بعلية تعتمد على التساقطات ونجدها منتشرة على طول البلاد التونسية وقد اعتمدها الأجداد ليس لجني ثمارها بل أساسًا للفصل بين قطع الأراضي الزراعية وكنوع من الحواجز الطبيعية تحيط بساتين الأشجار المثمرة من أجل حمايتها، وكاسحات للريح أمام بعض الزراعات لأنه يصعب اقتلاعها لقوة جذورها كما يتجاوز ارتفاعها في بعض الأحيان الثلاثة أمتار، كما تستعمل للحد من تقدم الصحراء وكل أنواع الانحراف الذي يصيب التربة وفي أوقات الجفاف تتحوّل لوحات الهندي إلى علف للحيوانات وخصوصًا الأبقار.

لكن في العقود الأخيرة ومع تزايد إقبال التونسيين على فاكهة الهندي وانتظار موسمه والبحث عن أجوده في "برور" تونس الكثيرة وأشهرها "برّ جلاص" على تخوم مدينة القيروان بجهات الوسط  و"برّ المثاليث" قرب المهدية، تحوّل الأمر إلى تجارة قائمة الذات فأصبح يُباع بأسواق البيع بالجملة وله تجار كبار يهتمون به ينظمون مسالكه ويحددون تكلفته وأسعاره. 

في العقود الأخيرة ومع تزايد إقبال التونسيين على "الهندي" وانتظار موسمه والبحث عن أجوده في "برور" تونس الكثيرة، تحوّل الأمر إلى تجارة قائمة الذات فأصبح يُباع بأسواق البيع بالجملة وله تجار يهتمون به ينظمون مسالكه ويحددون تكلفته وأسعاره

كما ذهب بعض الفلاحين بجهات الوطن القبلي إلى تخصيص جزء كبير من أرضهم إلى زراعة أنواع مختلفة من الهندي وحولوه إلى زراعة سقوية ذات منتج وفير، جزء منها مخصص للاستهلاك المحلي وآخر مخصص للتصدير والذي يفوق أحيانًا الألف طن سنويًا وأغلبه موجه إلى السوق الأوروبية.

وخلال هذه الفترة من العام، تستقبل المدن التونسية الكبرى من الشمال إلى الجنوب يوميًا مئات الأطنان من ثمار التين الشوكي "الهندي"، حيث تعترضك عربات النقل المعروفة في تونس "بالباشي" محملة "بسلطان الغلة" تتدفّق نحو الأسواق من "كل فج عميق" قادمة من الأقاصي والأرياف بعد عمليات قطف مضنية تشارك فيها النسوة والأطفال منذ الفجر الباكر وهي عملية قاسية لوعورة الأمكنة وكثرة الأشواك في حقول الهندي.

خلال هذه الفترة من العام، تستقبل المدن التونسية الكبرى من الشمال إلى الجنوب يوميًا مئات الأطنان من ثمار التين الشوكي "الهندي"، حيث تعترضك عربات النقل المعروفة في تونس "بالباشي" محملة "بسلطان الغلة" تتدفّق نحو الأسواق من "كل فج عميق"

وتستقبل العاصمة تونس النصيب الأوفر من كميات الهندي المقطوفة، جزء منها يباع في أسواق الخضر والغلال أما أغلب البضاعة الوافدة فتباع بالتفصيل عن طريق أناس ينتظرون هذا الموسم بفارغ الصبر فهو مصدر من مصادر رزقهم بين الصيف والخريف، حيث تنتشر عرباتهم  لبيع "الهندي" أو "البراوط" (جمع برويطة) في زوايا الأنهج والأزقة وعلى الأرصفة قرب محلات بيع الطعام والمخابز والمراكز التجارية ودور العبادة والمقاهي والأسواق وبالمدينة العتيقة.

تبدو العربات متشابهة، كلها مصنوعة من الخشب وتتحرك بعجلات دراجة هوائية وكل بائع يزينها كيف ما شاء، فتجد شعارات الجمعيات الرياضية التونسية والعالمية وتجد الآيات القرآنية والحكم المرتبطة معانيها بالقناعة وجلب الرزق، كما تُوشى بعض العربات بصور لفنانين ورياضيين وثمة أيضًا من الباعة من يضع شمسية أو ما يعرف لدى التونسيين "بالباراسول"  إن كان مكان وقوفه مواجهًا للشمس.

 

التين الشوكي

تبدو عربات بيع "الهندي" متشابهة، كلها مصنوعة من الخشب وتتحرك بعجلات دراجة هوائية (تصوير رمزي العياري/الترا تونس)

 

"الترا تونس" تنقل إلى شوارع العاصمة تونس والتقى بعض الباعة واستمع إلى نداءاتهم للمارة وتغزلهم بالبضاعة، وتحدث إليهم والتقط عواطفهم وهواجسهم بخصوص هذا العمل الموسمي.

أغلب "الهندي" الوافد للعاصمة يباع بالتفصيل عن طريق أناس ينتظرون هذا الموسم بفارغ الصبر فهو مصدر من مصادر رزقهم، وتنتشر عرباتهم  لبيع "الهندي" أو "البراوط" في زوايا الأنهج والأزقة وعلى الأرصفة 

نزولًا من القصبة في اتجاه باب بحر وأسفل الصومعة الرخامية البديعة المثمنة لجامع حمودة باشا المرادي وقرب أحد المطاعم الشعبية الشهيرة بمدينة تونس العتيقة، تتراءى عربة لبيع الهندي لصاحبها فتحي العقيلي، وهو أربعيني نحيف وأسمر اللون، أصيل مدينة جلمة من ولاية سيدي بوزيد، يضع مظلة من سعف النخيل المجفف فوق رأسه وينادي على بضاعته قائلاً "هاو الهندي والموس من عندي.."، يبدو منشغلاً بترصيف حبات "الهندي" فوق منصة العربة ويدسّ قطع الثلج البيضاء في طيات الطبقات المرصفة ويجذب سطلًا صغيرًا من صندوق العربة ويرش بيده سطح العربة فتلتمع حبات الهندي الخضراء المتجاورة "كبارق الثغر المتبسم" ليبدو المشهد كـ"تنصيبة" فنية أو كلوحة تشكيلية بديعة. 

أوضح فتحي لـ"الترا تونس" أنه متزوج وأب لعائلة وأضاف أنه يقيم رسميًا بمدينة جلمة لكنه مع بداية موسم جني "الهندي" الذي يتواصل لمدة شهرين يتحول للإقامة بالعاصمة مع أبناء عمومته الذين يشتغلون بالتجارة في نهج الجزيرة وسوق بومنديل ونهج الصباغين، فيدفع مع أحدهم نصيبه من الكراء ليهتم بتجارة الهندي في أزقة مدينة تونس العتيقة، أما بقية السنة فيقضيها عاملاً فلاحيًا بالجهة. 

ويذكر فتحي أنه يجلب بنفسه بضاعته من حقول الهندي التي يملكها أحد أقاربه بأراضي جلمة حيث تقوم زوجته وشقيقتها وابنه بعمليات القطف وإزالة الأشواك من على حبات الهندي ثم يكتري في كل مرة  سيارة "باشي" تجلب له صناديق الغلة إلى العاصمة.

أما عن اختياره لهذا المكان فقد أوضح محدثنا أنه كان بالتنسيق مع صاحب المطعم الذي أراد أن يقدم خدمة إضافية لزبائنه وفي نفس الوقت فتح لي باب رزق، هذا فضلاً عن المارة وأضاف أنه يشتغل طيلة اليوم من السادسة صباحًا حتى الغروب، أما عن مدخوله اليومي فقال "نصور الخير والبركة واللي يعطي ربي أكاهو"، وفق تعبيره.

فتحي لـ"الترا تونس": مع بداية موسم جني "الهندي" أتحول من جلمة للإقامة بالعاصمة مع أبناء عمومتي وأهتم بتجارة الهندي في أزقة مدينة تونس العتيقة ومدخولي لهذه السنة سأضيف به غرفة لمنزلي فضلاً عن مصاريف العودة المدرسية

كما حدثنا بائع الهندي عن علاقته بالزبائن وهم أغلبهم من موظفي رئاسة الحكومة وباقي الوزارات المجاورة في القصبة ومن تجار أسواق المدينة ومن المواطنين العابرين للمدينة العتيقة، مشيرًا إلى أنهم يغدقون عليه ويقدمون له المساعدة بمزيد الاقتناء ومقابل ذلك لا يبخل عليهم بحسن المعاملة. وبعد أن أكلنا ما تيسر من حبات غلة الهندي وفي خاتمة اللقاء، أكد فتحي العقيلي أن "مدخول هذه السنة سيضيف به غرفة لمنزله فضلاً عن توفير مصاريف العودة المدرسية ككل مرة". 

وفي مكان آخر وتحديدًا قرب بوابة باب بحر الشهيرة، يقف بيرم تحت شمسية تحمل علامة مشروب غازي أمريكي شهير، هو رمز للرأسمالية العالمية، "فقط هي للوقاية من أشعة الشمس الحارة"، هكذا فسر بيرم حكاية التوقي بهذه العلامة، ليحدثنا مباشرة عن فكرة "تنطير الفرنك من الحيط" بواسطة عربة بيع الهندي وهو شعار من شعارات الفقراء المتداولة منذ القدم في تونس.

بيرم قدم نفسه بأنه يعتز بانتمائه لضاحية الزهروني بتونس الغربية، موضحًا أنه من عائلة متوسطة ووفيرة العدد، ومضيفًا أنه طالب يدرس بقسم علم الاجتماع بالجامعة التونسية وأن لديه وعيًا طبقيًا جعله يشتغل ببيع الهندي خلال العطلة الجامعية معتبرًا أن ذلك في صميم دراسته بل هو في درس تطبيقي يترجم ما تلقاه من دروس نظرية في الكلية، وفقه.

بيرم لـ"الترا تونس": أنا طالب جامعي في اختصاص علم الاجتماع وأشتغل ببيع الهندي خلال العطلة الجامعية.. هذا في في صميم دراستي بل هو درس تطبيقي يترجم ويعكس الوعي الطبقي

وأكد الشاب التونسي بيرم، لـ"الترا تونس" أنه يوميًا يقوم باكرًا من أجل شراء بعض صناديق الهندي بالجملة من السوق المركزية بالعاصمة ثم يتوجه لشراء الثلج الغذائي من أجل تبريد غلة الهندي واقناء مناديل ورقية وصناديق بلاستيكية لأنه ثمة من الزبائن من يريد أن يحمل معه بعض الحبات لمنزله أو لشخص آخر، وأكياس بلاستيكية لوضع القشور. وأضاف أن الحرص على النظافة وحسن توضيب العربة والاستقبال الجيد للزبائن هو في حد ذاته رأس مال رمزي قد يدر الخير العميم.

 

كما حدثنا عن المضايقات التي يتعرض لها أحيانًا من أعوان التراتيب البلدية رغم وقوف عربته في مكان لا يعطل المارة وهو ملتزم بتنظيف المكان مع نهاية اليوم، مطالبًا الدولة من خلال البلديات بتوفير عربات ذات مظهر جمالي لائق لبيع الهندي سواء بالعاصمة أو بالمدن التونسية الأخرى وتحديد أمكنة للوقوف واعتبر بيرم أن الشباب من حقه أن يشتغل بهذه الأعمال حتى يوفر لقمة عيشه بكرامة.

حدثنا بيرم، بائع "الهندي" الشاب، عن المضايقات التي يتعرض لها أحيانًا من أعوان التراتيب البلدية رغم وقوف عربته في مكان لا يعطل المارة وهو ملتزم بتنظيف المكان مطالبًا البلديات بتنظيم هذا المسألة

تعمقنا أكثر فأكثر بين الأنهج والأزقة في اتجاه ساحة برشلونة التي تحولت في السنوات الأخيرة إلى سوق كبرى "للفريب" (بيع الملابس المستعملة)، هناك وليس بعيدًا على محطة الميترو، تقف عربة العم صالح وهو كهل جاوز الخمسين من عمره يأتي باكرًا وبشكل يومي من حي التضامن وهو أكبر حي شعبي موجود في ضواحي العاصمة تونس ليتسلم عربته التي يركنها بمأوى خاص للسيارات ويشرع في ترتيبها وترصيف حبات الهندي في انتظار زبائنه.

 

 

العم صالح يشتغل طيلة أشهر السنة كعامل بناء أما خلال الصيف فإن تجارة الهندي هي مصدر رزقه وقد أشار إلى أنه على هذه الحال لسنوات طويلة، ووفق قوله، هو يقتني بضاعته بعناية من أحد تجار الهندي بولاية نابل، ويسعى لبيع "الحارة"  الواحدة (4 حبات) بسعر مقبول لا يتجاوز الدينار الواحد.

عم صالح أكد لـ"الترا تونس" أن للتونسي علاقة وطيدة بغلة الهندي، موضحًا أنه ثمة من الزبائن من يأتي يوميًا خصيصًا ليتزود بالهندي من عربته. كما لم يخف عم صالح توجسه من انقطاع هذه الغلة بعد تحويلها إلى زراعة منظمة في بعض الجهات وإعطائها بعض الأدوية والتحكم في حجمها ولونها وطعمها، وطالب الدولة بالتدخل من أجل حماية هذه النبتة ذات الثمار البيولوجية.

عم صالح لـ"الترا تونس": للتونسي علاقة وطيدة بغلة الهندي، ثمة من الزبائن من يأتي يوميًا خصيصًا ليتزود بالهندي من عربتي لكني متخوف من انقطاع هذه الغلة بعد تحويلها إلى زراعة منظمة في بعض الجهات وإعطائها بعض الأدوية والتحكم في حجمها ولونها وطعمها

باعة الهندي أو التين الشوكي في تونس والمنتشرين على أرصفة المدن والواقفين في الساحات يتلمسون رزق يومهم هم في حقيقة الأمر ـ وإن تجاوزنا اللغة ـ نراهم يقفون على أرصفة الحياة الواسعة.

قد يبدو حضور هؤلاء الباعة في المشهد المجتمعي اليومي ظاهرة موسمية متكررة تنتهي مع نهاية إنتاج الثمار،  لكنها في جوهرها قصص كفاح لرجال وشباب نحتوا كياناتهم واستنبتوا لهم أجنحة ليحلقوا تحت سماء الكرامة بحثًا عن حسن العيش في ظل متغيرات اقتصادية صعبة تعيشها تونس منذ سنوات.