18-سبتمبر-2018

تنتشر عربات بيع التين الشوكي في مختلف شوراع العاصمة تونس والأنهج المتفرعة عنها

منذ شهر جويلية /تموز من كل سنة تنتشر عربات بيع التين الشوكي في مختلف شوارع العاصمة تونس والأنهج المتفرعة عنها، وحتى داخل بعض الأحياء الشعبية المتناثرة على تخوم العاصمة. عربات تختلف ألوانها وأشكالها، تمامًا كاختلاف الباعة الذين ألفت أناملهم شوك التين وألفوه، أطفال وشباب وشيب تختلف سحناتهم ولهجاتهم وهيئاتهم ويجمعهم "الهندي" مصدرًا للرزق.

على امتداد الطريق التي أسلكها لبلوغ محطة الحافلات كل مساء، يعترضني باعة "الهندي"، تسبقهم إلي أصواتهم وهم يغوون المارة ببضاعتهم، زادهم بعض الكلمات وقطع من الثلج ينثرونها عليها وسكين ينزعون بها قشرة الثمرة الموشحة بالشوك.

في الواقع لا يستهويني أكل "الهندي المقشر" ولكن مجرّد رؤية هذه الثمرة يجعلني أسيرة الحنين لسنوات الطفولة، سنوات نزعت فيها ثمرة "الهندي" من "الصبارة" بيدي وعريتها من قشرتها دون سكين وأكلتها.

لا يستهويني أكل "الهندي المقشر" ولكن مجرّد رؤية هذه الثمرة يجعلني أسيرة الحنين لسنوات الطفولة

ذكريات الطفولة، والمغامرات مع الأتراب، تحضر كلها محملة برائحة نبتة الصبار وطعم "هندي" قريتنا الذي لا يشبهه طعم آخر، هو ممزوج بحلاوة الزمان والمكان، حلاوة لا يمكن استنساخها في غير تلك الظروف.

اقرأ/ي أيضًا: ذكريات مفخّخة.. عن الجامعة وصديقي الذي فجّر نفسه

لا أدري كم لبثت من الوقت وعيناي شاخصتان في ثمرات "الهندي" المتناثرة على عربة وصاحبها يحرّك يديه أمام عيني لينتشلني من لحظات الشرود، هو لا يعلم أنني حينها رأيتني أعبر رفقة أترابي الواد القريب من منزلنا في قرية الجريصة، واد يجف ماؤه في فصل الصيف، ونصعد درجًا تآكل بفعل الزمن لنبلغ "الطبّة"، وهي قطعة أرض صغيرة تكسوها بقايا سنابل أينعت وحصدها أصحابها ولم يبق منها إلا بعض الخصلات الصفراء التي تكاد تختفي، نمشي خطوات جهة اليمين حيث تنتصب "طابية الهندي".

ننتشر على امتداد "الطابية" ونشرع في نزع الثمرات وكل منا يمني النفس بحوزة أكبر الثمرات وأنضجها ونملأ الدلي التي أخذناها من منازلنا في غفلة من أمهاتنا، لم نكن نخشى شوك "الصبار"، ولكننا في المقابل كنا نهاب صاحبة "الطبة"، كانت لا تتردد في قذفنا بالحجارة كلما رأتنا قرب أرضها.

كنا نترك أحدنا للحراسة وتنبيهنا إذا ما قدمت فنفرّ بما جادت به علينا "الصبارة"، نهرول نحو الدرج ولا نلتفت إلى الخلف حيث تمطرنا الخالة خديجة حجارة وشتائم.

كان "الهندي" يسلينا حتى قررنا ذات يوم أن نعتمد على أنفسنا وننشئ مشروعنا الخاص

اقرأ/ي أيضًا: مدفع رمضان.. دوي بطعم الحنين

المضحك في الأمر أننا كنا لا نعود بثمار الهندي إلى منازلنا، كنا نقشرها بأيادينا غير عابئين بشوكها وكنا نتسابق من يقشر أكثرها دون أن يعبأ لوخزها، كان "الهندي" يسلينا حتى قررنا ذات يوم أن نعتمد على أنفسنا وننشئ مشروعنا الخاص، كنا 5 أطفال ندرس بالسنة الثالثة من التعليم الابتدائي، صبيان و3 فتيات، ذهبنا ذات زوال إلى "الطابية" في غفلة من الخالة خديجة وقطفنا ما تيسر من الهندي، وعرضنا بضاعتنا على ناصية الشارع، كنا نصرخ "هاو الهندي"، "هندي تالة يا وكالة والحارة بخمسين" ومن محاسن الصدف أن كانت أولى زبائننا الخالة خديجة.

لا أزال إلى اليوم أستحضر صورتها وهي تضم سبابة يدها اليمنى إلى إبهامها وهي تزمجر "والله ما نشكي بيكم لأماتكم وزيد للحاكم"، كنا نتوسلها أن لا تفعل وصفحت عنا شريطة أن لا نعيد صنيعنا، كنا صغارًا ولكننا لم نخلف وعدنا.

وأنا أتذكر خوفنا من أن تشكونا الخالة خديجة إلى أمهاتنا وإلى "الحاكم"، تبادرت إلى ذهني حكاية بائع الهندي منصف الهوايدي الذي صدرت في حقه بطاقة إيداع بالسجن لأنه رفض مد "الحاكم" بالهندي دون مقابل، كما صرح نشطاء مقربون منه.

في الحقيقة، لا أعلم الكثير عن حيثيات الحادثة ولكن ما أعلمه أن الهوايدي لقي مساندة واسعة من عديد النشطاء وما أعلمه أيضًا أن "الهندي" كان خطًا فاصلًا بين الماضي والحاضر، خطًا كاد يفوّت علي الحافلة الأخيرة التي تقل إلى منزلنا.

 

اقرأ/ي أيضًا:

حينما كان "الجنّ" يسلّينا!

صورة العيد: الفوتوغرافيا المقدسة تقولنا ولا نفهمها