لفتت التلميذة رملة بن حمودة الأنظار منذ نشر الصفحة الرسمية لراديو معهد عوسجة مقطع فيديو يوثق لحظات عملها في مهنة كانت ولا تزال حكرًا على النساء المتقدمات في السن لما تستوجبه من خبرة وحرفية وإتقان وكذلك مجهود كبير. رملة ابنة السابعة عشر ربيعًا أصيلة محافظة بنزرت تزاول تعليمها الثانوي بشعبة الاقتصاد والتصرف كسرت القاعدة وأثبتت عن جدارة أن صغر سنها لم يمنعها من تعلم وممارسة مهنة متوارثة عبر الأجيال تتمثل في تحويل الدقيق إلى حبات "كسكسي" وهو ما يعرف في تونس بمصطلح "العولة".
تخزين المؤونة وتحديدًا المعجنات كـ"الكسكسي والنواصر والمحمص" عادة دأب على انتهاجها الأجداد لكنها آلت إلى الاندثار لسنوات طويلة بسبب انشغال المرأة في العمل وضيق الوقت لممارسة أنشطة مماثلة تستوجب تفرغًا تامًا طيلة أسبوع أو أكثر انطلاقًا من عملية "التكسيكس" حتى الوصول إلى مرحلة تجفيف حبات "الكسكسي" تحت أشعة الشمس لحفظها من التلف طيلة سنة أو أكثر، لكن مع مرور الزمن وتفطن التونسيين لأهمية تخزين المؤونة لأسباب اقتصادية وصحية تمت إعادة إحياء هذا الموروث والاستعانة بنساء يحترفن "العولة" بمقابل مادي.
رملة بن حمودة ابنة الـ17 سنة تزاول تعليمها الثانوي بشعبة الاقتصاد والتصرف كسرت القاعدة وأثبتت عن جدارة أن صغر سنها لم يمنعها من تعلم وممارسة حرفة متوارثة عبر الأجيال وهي إعداد "العولة" بمقابل مادي
تقول رملة أن الفضل في تعلمها "العولة" يعود لوالدتها التي ساعدتها في اكتساب مهارات وفن تحويل الدقيق إلى كسكسي، فأصبحت لها دراية بمراحل هذه الحرفة وتقنياتها تمكنها من العمل بمفردها دون مساعدة من أحد.
كما لفتت إلى أنها فضولية وتطمح لتعلم كل المهن والأنشطة التي يراها البعض صعبة، لكن بالعزيمة والإصرار تتمكن من التغلب على جميع المصاعب.
وتضيف المتحدثة "أعمل بالشراكة مع والدتي وخالتي في العولة إما في بيتنا أو في بيت الحريفات، حسب طلبهن، ونتلقى مقابل ذلك مبلغًا ماليًا لا يتجاوز الـ60 دينارًا مقابل كل 50 كيلوغرامًا من الدقيق"، معتبرة أنّ "المبلغ زهيد مقارنة بالجهد الذي تقتضيه المهنة وما تسببه من آلام في الظهر نتيجة الانحناء لساعات طويلة نتعرض خلالها للحرارة المرتفعة أثناء مرحلة تجفيف الكسكسي وتعريضه للبخار، لكن ذلك لا يمنعني من المواصلة في العمل والاستمتاع بفصل الصيف في آن واحد فبعد إتمام مهامنا اقضي المساء في السباحة والتجول رفقة الصديقات على الشاطئ".
ولفتت التلميذة رملة بن حمودة إلى أن نشاطها لا يقتصر على "العولة" فهي تحترف أيضًا حياكة الشاشية منذ سن الثالثة عشر وتمتهنها خلال فصل الشتاء، مضيفة أنها كانت تعمل في العطل الصيفية في مجال جمع الطماطم بالحقول لكن بسبب شح المياه تدنت فرص عملها في الفلاحة فتوجهت للعولة.
رملة بن حمودة لـ"الترا تونس": أعمل خلال جميع العطل المدرسية فأمتهن إعداد "العولة" صيفًا وحياكة "الشاشية" شتاءً وكنت أيضًا أعمل في جمع الطماطم بالحقول صيفًا لكن بسبب شح المياه تدنت فرص العمل في الفلاحة
وختمت حديثها بالإشارة إلى أنها تعمل خلال جميع العطل المدرسية وأن ذلك لم يحل دون مواصلتها لدراستها والتألق فيها، داعية كل التلاميذ إلى التعويل عن النفس واكتساب خبرات في أكثر من مجال.
رملة واحدة من العديد من التلاميذ الذين ينخرطون في امتهان أعمال خلال فصل الصيف تدر عليهم مبالغ مالية متواضعة، لكنها تعود عليهم بالنفع خلال السنة الدراسية، فبتوفير ما يتم جنيه في الصيف يتمكن التلميذ من اقتناء مستلزماته الدراسية وادّخار مصروف الجيب بمفرده دون إثقال كاهل والديه.
- "العمل يعلمني تحمّل المسؤولية"
بية والدي تلميذة تزاول تعليمها بمعهد عوسجة بالمستوى الثالث من التعليم الثانوي ومتخصصة في العلوم التجريبية، تمكنت بفضل دعم والديها من افتتاح مشروع صغير بمنطقتها "غار الملح" التابعة لمحافظة بنزرت يتمثل في "كشك" لبيع المياه المعدنية والمشروبات الغازية وكذلك القهوة للمصطافين بالمنطقة وهو مشروع موسمي مقترن فقط بفصل الصيف.
بية والدي تلميذة متخصصة في العلوم التجريبية تمكنت بفضل دعم والديها من افتتاح مشروع صغير بمنطقتها "غار الملح" يتمثل في "كشك" لبيع المياه المعدنية والمشروبات الغازية وكذلك القهوة للمصطافين
تقول بية في حديثها لـ"الترا تونس" إنها تعمل في المحل منذ سنوات وتفتتح الموسم بداية من شهر جويلية/يوليو حتى شهر سبتمبر/أيلول، مضيفة أنها تعمل في الكشك من الساعة السابعة صباحًا حتى الثانية بعد الزوال ثم تقوم شقيقتها بنيابتها حتى الساعة التاسعة ليلًا.
تؤكد التلميذة بية والدي انه حسب تجربتها البسيطة لا يخلو مشروع أو نشاط من صعوبات مختلفة ومتعددة لكن بالعزيمة يتم تجاوزها، مشيرة إلى أن من بين الصعوبات التي واجهتها توفير السلع على غرار القهوة باعتبار أن هناك نقصًا كبيرًا في توفرها بالسوق، فعمدت قبل افتتاح الكشك إلى توفير كمية منها لتلبية حاجيات الحرفاء.
بية لـ"الترا تونس": أدعو جميع التلاميذ للعمل خلال العطل لتعلم مهارات إدارة الأموال والشعور بالمسؤولية والانخراط في المجتمع فالعمل تجربة فريدة من نوعها ولا حياء فيها
ولفتت المتحدثة إلى أنها تتمكن في أوقات فراغها من الاستمتاع بالبحر خاصة وأن منزلها مطل على الشاطئ، كما تمارس هواياتها المفضلة وهي الرسم والمطالعة.
ودعت بية والدي التلاميذ للعمل خلال العطل لتعلم مهارات إدارة الأموال والشعور بالمسؤولية والانخراط في المجتمع، مشددة على أن العمل تجربة فريدة من نوعها ولا حياء فيها.
- "العمل ثقافة ونسعى لبث العدوى في صفوف التلاميذ"
عادل بن حريز هو أستاذ تربية مدنية بمعهد عوسجة يؤمن بأهمية العمل والأنشطة الموازية مع الدراسة خلال فترات العطل وهو ما دفعه لمتابعة التلاميذ خلال فصل الصيف وتوثيق المهن التي يمارسونها ونشر مقاطع فيديو لهم بهدف تشجيعهم وتحفيز بقية التلاميذ على المضي في نفس النهج.
عادل بن حريز (أستاذ تربية مدنية) لـ"الترا تونس": تحصيل معدلات عالية لا يكفي بل من الضروري أن يكتسب التلميذ مهارات التعامل مع المجتمع ومواجهة الواقع وهذا ما دفعني لتشجيع التلاميذ على خوض غمار تجربة العمل مبكرًا
يقول بن حريز في حديثه لـ"الترا تونس" إنه خلال الفترة التي زاول فيها تعليمه كان العمل متجذرًا في ثقافة التلاميذ وطقوسهم، فلا يمكن أن تمر صائفة دون البحث عن فرص عمل في شتى المجالات والحرف وهو ما مكنه من اكتساب خبرات تساعده في حياته اليومية إلى الآن، مشيرًا إلى أنه قبل العطل يدعو تلاميذه إلى تحصيل معارف ومهارات جديدة وهو ما دفعه لمواكبة أنشطتهم ونشرها براديو المعهد بغية تحسين عقلية ونمط عيش التلاميذ.
ولفت الأستاذ إلى أن بعض التلاميذ متميزون ومتألقون في دراستهم لكن في حياتهم اليومية لا يقومون بأي أنشطة بالتوازي مع الدراسة، معتبرًا أن تحصيل معدلات عالية لا يكفي بل من الضروري أن يكتسب التلميذ مهارات التعامل مع المجتمع ومواجهة الواقع وهذا ما دفعه لتشجيع تلامذته الذين أبهروه بقدراتهم على القيام بأشغال مدهشة وتفوق الخيال على غرار التلميذة رملة التي تعلمت "العولة" رغم صغر سنها.
وشدد المتحدث على أن الهدف من الفيديوهات التي ينشرها هو بث العدوى الإيجابية بين التلاميذ واستفزازهم ليقوموا بخطوات في اتجاه اكتساب مهارات جديدة والقطع مع الكسل، كذلك التركيز على النقاط المضيئة وإعادة الثقة للشبيبة لأن التغيير ممكن والأمل موجود.
وعن عزوف أغلب التلاميذ عن العمل وتحصيل قوت يومهم خلال فترات العطل يعتبر عادل بن حريز أن التواكل خطأ مجتمعي ومسؤولية مشتركة بين الدولة والأولياء والتلاميذ، موضحًا: "في السابق كانت هناك المدرسة المهنية يتعلم فيها التلميذ الحرف كالنجارة والحدادة منذ مرحلة الابتدائي لكن المدرسة العمومية تخلت عن التكوين المهني على الرغم من أنه يعتبر تجربة ناجحة فريدة من نوعها كانت تساهم في بناء المجتمع.. أعتقد أن كل الأطراف مشاركة في ظاهرة التواكل لكن الجميع واعٍ بضرورة التغيير".
- "العمل في النزل مضن لكنه ممتع"
في أحد الفنادق بمحافظة سوسة تمكن "مجدي" ذو السابعة عشر ربيعًا من إيجاد عمل مؤقت بعد عملية بحث انطلقت منذ نهاية السنة الدراسية. العمل خلال العطل وخاصة العطلة الصيفية عادة دأب عليها منذ حوالي سنتين بهدف توفير حاجياته ومتطلباته للدراسة دون التواكل على عائلته المتكونة من خمسة أبناء صغيرهم لم يتجاوز بعد سن الخامسة.
ويقطن مجدي بمدينة "مساكن" التابعة لمحافظة سوسة وهو ما مكنه من العمل في النزل والمقاهي بالمناطق السياحية رفقة ثلة من أصدقاء الدراسة الذين يجمعهم حب العمل والتعويل على النفس.
مجدي (تلميذ يعمل صيفًا بأحد الفنادق): العمل شاق ومضن لكنّ حاجتي للمال تدفعني لتحمل أوزاره خاصة وأن حظوظي كتلميذ في إيجاد مورد رزق متدنية جدًا وأعمل يوميًا لِما بين 8 و10 ساعات مقابل أجر شهري لا يتجاوز 500 دينار
يقول محدث "الترا تونس" إن العمل شاق ومضن لكنّ حاجته لراتب شهري تدفعه لتحمل أوزاره خاصة وأن حظوظه كتلميذ في إيجاد مورد رزق متدنية جدًا لعدة أسباب أهمها بحثه عن عمل مؤقت وثانيها ندرة فرص العمل في تونس بسبب الأزمة الاقتصادية التي تمر بها البلاد والتي أثرت على أصحاب المشاريع الذين أصبحوا يخيرون الاكتفاء بعدد قليل من العمال تفاديًا لعبء سداد الأجور.
"لا يقتصر عملي في النزل على نشاط معين فمنذ الصباح الباكر أتوجه للمطبخ للمساعدة في إعداد وجبات الفطور ثم أنصرف إلى تنظيف الطاولات وتلبية حاجيات الحرفاء وفي تمام الساعة العاشرة والنصف تحديدًا بعد إغلاق المطعم أبوابه أكلف بتنشيط السياح على المسبح وهو ما يتطلب جهدًا كبيرًا خاصة في ظل ارتفاع درجات الحرارة وتعرضي لأشعتها بصفة مباشرة لوقت طويل، وبعد أن أحظى بساعة راحة أتناول فيها الغداء أنصرف إلى المساعدة في غسل الأطباق".
يقول التلميذ مجدي إن الأنشطة التي يقوم بها تتغير أحيانًا حسب الحاجة فعند تغيب أحد العمّال يمكن أن يكلف بالقيام بخدمات أخرى كمراقبة المسبح أو مساعدة الحرفاء في حمل أمتعتهم إلى الغرف.
ولفت مجدي إلى أن ساعات العمل تتراوح بين ثماني أو عشر ساعات مقابل أجر لا يتجاوز الـ500 دينار شهريًا، لكن الممتع في العمل في النزل هو الاستمتاع بالبحر وتوفر وجبات الغداء في المطعم مجانًا علاوة على اكتساب خبرة في العديد من المجالات.
يعتبر العمل بالنسبة للعديد من التلاميذ مهمًا جدًا خاصة في ظل ارتفاع تكاليف المستلزمات الدراسية وتكاليف الدراسة ودروس التدارك وما إلى ذلك من المصاريف. ولئن يخير بعض التلاميذ العمل لأسباب مادية فإنّ البعض الآخر يطمح لاكتشاف سوق الشغل وخوض غمار تجربة العمل في سن مبكرة بهدف التمرس على العمل واكتساب مهارات.
