أن تنشر الفرحة وأنت تعيش في رحم المعاناة وأن تحيي عادة كادت أن تقبر رغم الصعوبات، هذا ما تفعله السيّدة "منورة"، أو منيرة كما يناديها أبناء الحيّ الذي تقطنه، في ليالي رمضان من خلال عملها كـ"بوطبيلة" لإيقاظ الناس للسحور.
قصّة نضال وكفاح امرأة، تحدّت الصورة النمطيّة الراسخة في الوعي الجمعي عن "المسحراتي" ووجدت فيه مورد رزق تقاوم به قساوة الأيّام
هي قصّة نضال وكفاح امرأة، تحدّت الصورة النمطيّة الراسخة في الوعي الجمعي عن "المسحراتي" ووجدت فيه مورد رزق تقاوم به قساوة الأيّام وقد قاسمت "ألترا تونس" تفاصيل رحلتها الليليّة في هذا التقرير.
- "بوطبيلة" في مواجهة ضنك المعيشة
في أحد أحياء النفيضة، تعيش منيرة الكيلاني، امرأة ذات 56 عامًا اختارت أن لا تتزوّج لأنّها التزمت بإعالة عائلتها المتكونة من أمّ مسنّة وأخ طريح الفراش، حسب ما أكدته لـ"الترا تونس". هي امرأة الاستثناء، لم تختر قدرها لكنّها قاومته بكلّ ما أوتيت من قوّة.
في الساعات الأولى من فجر الأول من رمضان، تتقلّد منيرة "طبلة" والدها التي ورثتها عنه وتخرج لتجوب أرجاء الأزقّة والأحياء السكنيّة في مدينتها من أجل إيقاظ السكّان للسحور
في الساعات الأولى من فجر الأول من شهر رمضان، تتقلّد منيرة "طبلة" والدها التي ورثتها عنه وتخرج لتجوب أرجاء الأزقّة والأحياء السكنيّة في مدينتها من أجل إيقاظ السكّان للسحور.
منيرة تعمل كـ"بوطبيلة" لإيقاظ الناس للسحور
في مشهد غير مألوف في المجتمع التونسي، حاولت محدّثتها أن تجد في هذه المهنة بعض ما يسدّ حاجيات عائلتها، حيث تقول لـ"الترا تونس" "بدأت بالخروج للعمل كـ"بوطبيلة" منذ سنة 2019 ولم يكن بالقرار السهل ولكنّي أجبرت على ذلك بسبب المسؤوليّة التي على عاتقي فقد مرض أخي بالسرطان ولازم الفراش لذلك كان عليّ أن أتصرف من أجل إعالة عائلتي".
منيرة لـ"الترا تونس": "بدأت بالخروج للعمل كـ"بوطبيلة" منذ سنة 2019 ولم يكن بالقرار السهل ولكنّي أجبرت على ذلك بعد مرض أخي بالسرطان وملازمته الفراش"
تخرج منيرة على الساعة الثالثة فجرًا، وتحاول صنع أجواء من البهجة والفرح في شوارع المدينة، رغم حزنها وألمها الكبيرين، وكثيرًا ما يتفاعل معها أبناء حيها لتشجيعها من خلال ترديد بعض الأهازيج أو من خلال تقديم التحية من شرفات المنازل.
وتؤكّد في حديثها لـ"الترا تونس" أنها لا تخاف من الخروج في الظّلام ولم تتعرّض أبدًا للمضايقات بل دائمًا ما كانت تجد مساندة من الجميع.
"يا نايم وحّد الدايم..يا غافي وحد الله
جاء رمضان يزوركم..
يا نايم وحد الدايم..لي خلقك ما ينساك"
كانت منيرة تردد "يا نايم وحّد الدايم..يا غافي وحد الله.. جاء رمضان يزوركم.. يا نايم وحد الدايم..لي خلقك ما ينساك"
هكذا كانت تردد منيرة بكل ما أوتيت من قوّة مع قرع ضربات على الطبل كثيرًا ما تذكّرها بأيّام جميلة قضّتها مع والدها، وتسترجع ذكرياتها لـ"الترا تونس" متنهدة: "عندما كنت طفلة كنت أخرج مع بابا سالم لمشاركته جولاته وكانت من أسعد لحظات حياتي، ورغم محاولاته الخروج دوني إلّا أني أبقى مستيقظة لكي لا يفوتني هذا الموعد ولم أتصوّر أني سأكون يومًا مكانه".
يقوم أهالي الحي ليلة العيد بجمع مبلغ من المال لإعطائه لمنيرة كمكافأة لها على تعبها على امتداد الشهر ويقدّر هذا المبلغ عادة بـ250 دينارًا، حسب ما أكّدته لنا "صحابة الطبلة".
وبخصوص سؤالنا عن عملها في الأيام العاديّة خارج شهر رمضان، تؤكّد الكيلاني أنها تقوم بتجميع القوارير البلاستيكية وبعض الخبز من عند الجيران لتقوم ببيعه وتتحصّل على مبلغ زهيد لا يتجاوز 15 دينارًا.
منيرة بوطبيلة لـ"الترا تونس": "مع غلاء المعيشة في تونس، يمرّ شهر رمضان صعبًا على عائلتي ويؤلمني أنّ أمّي تشتهي لحمًا لا أستطيع توفيره لها"
وتختم منيرة الكيلاني حديثها لـ"التر تونس": "مع غلاء المعيشة في تونس، يمرّ شهر رمضان صعبًا على عائلتي ويؤلمني أنّ أمّي تشتهي لحمًا لا أستطيع توفيره لها. وأمنيتي الوحيدة هي أن أتمكّن من ترميم الجدران المتشقّقة في بيتنا وأن أعمل عملًا يجبر خاطرًا كسره الزمن ببؤسه".
تؤكّد في حديثها لـ"الترا تونس" أنها لا تخاف من الخروج في الظّلام ولم تتعرّض أبدًا للمضايقات
- هل امتهنت المرأة مهنة "بوطبيلة" عبر التاريخ؟
بالعودة للتاريخ، تعتبر مهنة "بوطبيلة" أو مهنة "الثلاثين يومًا" من المهن التي وقع توارثها جيلًا بعد جيل رغم مرور عقود من ظهورها. وتختلف الروايات حول أصلها، ولكن يجمع المؤرخون أنها تعود إلى عهد الرسول محمد صلّى الله عليه وسلم، حيث كان يُؤذّن للفجر مرتين، الآذان الأوّل لبلال بن رباح ليُعلم الناس أن وقت السَّحُور قد حان، ويؤذّن بعده عبد الله بن مكتوم وقت الفجر ليمتنع الناس عن الطعام والشراب.
ندر ذكر المرأة في مهنة المسحراتي إلاّ في عصر الدولة الطولونية، حيث كانت السيدات تجلسن وراء المشربية وتنشدن لتنبيه الأهالي لموعد السحور
وبمرور السنوات، انتشرت مهنة المسحراتي بالطبلة في كافة البلدان العربية والإسلامية، أما وصولها إلى تونس فيقول البعض إنّها مهنة قديمة أخذها الأغالبة عن العباسيين. فيما يقول آخرون إنها انتقلت إلى بلدان المغرب العربي في عهد الدولة الفاطمية.
وبالرجوع إلى ما نقل أو وثّق عن هذه المهنة، عادة ما نجد هذا الوصف "رجل بزيّه المميز وطبله الصغير يجوب الأحياء والشوارع لإيقاظ الناس للسحور" ، وندر ذكر المرأة في هذا الإطار إلاّ في عصر الدولة الطولونية، حيث كانت السيدات تجلسن وراء المشربية وتنشدن لتنبيه الأهالي لموعد السحور.